مفهوم الإستشراق… د. ناجي بن وقدان

مفهوم الاستشراق والمستشرق في اللغة والاصطلاح.

 أولا: الاستشراق في اللغة: استشرق من الفعل “شرق” يقال : شرقت الشمس أي طلعت، واسم الموضع المشرق، والشرق : المشرق، والجمع إشراق والتشريق الأخذ في ناحية المشرق، يقال : شتان بين مشرق ومغرب، وشرقوا أي ذهبوا إلى الشرق أو أتوا الشرق، وكل ما طلع من المشرق فهو شرق.

واستشرق : أي طلب دراسة ما يتعلق بالشرق، فالألف والسين والتاء في أي فعل تدل على الطلب كاستغفر أي طلب المغفرة.

ثانيا: الاستشراق في الاصطلاح: هو علم الشرق أو علم العالم الشرقي وهو تعبير أطلقه الغربيون على الدراسات المتعلقة بالشرقيين شعوبهم، وتاريخهم، وأديانهم، ولغاتهم، وأوضاعهم الاجتماعية، وبلادهم، وأرضهم، وحضارتهم، وكل ما يتعلق بهم، وهذا معنى عام للاستشراق.

وهناك تعريف آخر للإستشراق اصطلاحا وهو : دراسة الإسلام والشعوب الإسلامية لخدمة أغراض التبشير والتنصير من جهة، وخدمة أغراض الاستعمار الغربي لبلدان المسلمين من جهة أخرى، ولإعداد الدراسات اللازمة لمحاربة الإسلام وتحطيم الأمة الإسلامية.

ثانيا: مفهوم المستشرقين .

تقدم في تعريف كلمة استشراق عن المستشرق ما يغني عن إعادته هنا، وأما تعريف من الناحية الاصطلاحية فقد مضت أكثر التعريفات على أن:

المستشرقون: هم الذين يقومون بهذه الدارسات الاستشراقية من غير الشرقيين، ويقدمون الدراسات اللازمة للمبشرين، بغية تحقيق أهداف التبشير، وللدوائر الاستعمارية بغية تحقيق أهداف الاستعمار.

تاريخ الاستشراق

      من الصعوبة بمكان تحديد وقت معين لبداية نشأة الاستشراق ، فأغلب الكتاب والباحثين قد خاضوا في تحديد تاريخ نشأته، فيرى البعض أن الاستشراق:

أولا: ظهر مع ظهور الإسلام وأول لقاء بين الرسولr ونصـارى نجران، أو قبل ذلك عندما بعث الرسول عليه الصلاة والسلام رسله إلى الملوك والأمراء خـارج الجزيرة العربية أو حتى في اللقاء الذي تم بين المسلمين والنجاشي في الحبشة ويبرر هؤلاء رأيهم بانفتاح النصارى على الإسلام والتعرف عليه كدين جديد بدأ بالظهور وأن الرسائل التي أرسلها النبيr إلى الملوك والأمراء وكذلك لقاء المسلمين والنجاشي كان له أثر في حب الاطلاع على ماهية ومكنون  هذا الدين الجديد.

ثانيا: وهنـاك رأي بأن غزوة مؤتة التي كانت أول احتكاك عسكري تعد من البدايات للاستشراق ، فالاحتكاك العسكري يولد شيئا من المفاهيم لدى غير المسلمين عن هذا الدين وأهله. 

ثالثا: ويرى آخرون أن أول اهتمام بالإسلام والرد عليه بدأ مع يوحنا الدمشقي وكتـابه  الذي حاول فيه أن يوضح للنصارى كيف يجادلون المسلمين، لأن الجدال يولد الشكوك وخصوصا عند من قل نصيبه من العلم.

رابعا: ويرى آخرون أن الحروب الصليبية هي بداية الاحتكـاك الفعلي بين المسلمين والنصارى وذلك من أواخر القرن الحادي عشر حتى الثلث الأخير من القرن الثالث عشر 1291-1096م، الأمر الذي دفع النصارى إلى محاولة التعرف على المسلمين، ويرون أن انتصارات المسلمين لها علاقة مباشرة بما يملون من العقيدة والدين فيحاولون التعرف على ماهية هذه العلاقة.

خامسا: ومن الآراء أيضا في بداية الاستشراق أنه بدأ بقرار من مجمع فيينا الكنسي الذي دعا إلى إنشاء كراسي لدراسة اللغات العربية والعبرية والسريانية في عدد من المدن الأوروبية مثل باريس وأكسفورد وغيرهما ، وذلك لتكون اللغة سبيل موصل إلى معرفة الإسلام ومن ثم بث الشكوك حوله.

سادسا: وثمة رأي له عدد من المؤيدين أن احتكاك النصارى بالمسلمين في الأندلس هو الانطلاقة الحقيقية وذلك لمعرفة النصارى بالمسلمين والاهتمام بالعلوم الإسلامية ويميل إلى هذا الرأي بعض رواد البحث في الاستشراق من المسلمين.                       

  قلت ولاشك أن هذه البدايات لا تعد البداية الحقيقية للاستشراق الذي أصبح ينتج ألوف الكتب سنويا ومئات الدوريات ويعقد المؤتمرات، وإنما تعد هذه جميعا كما يقول د. علي النملة “من قبيل الإرهاص لها وما أتى بعدها يعد من قبيل تعميق الفكرة، والتوسع فيها وشد الانتباه إليها”ويقول أحمد سمايلوفيتش “البداية الحقيقية للاستشراق الذي يوجد في العالم الغربي اليوم ولا سيما بعد أن بنت أوروبا نهضتها الصناعية والعلمية وأصبح فيها العديد من الجامعات ومراكز البحوث وأنفقت ولا تزال تنفق بسخاء على هذه البحوث قد انطلقت منذ القرن السادس عشر حيث بدأت الطباعة العربية فيه بنشاط فتحركت الدوائر العلمية وأخذت تصدر

كتابا بعد الآخر وأن تأسيس الجمعيات العلمية مثل الجمعية الأسيوية البنغالية ، والجمعية الاستشراقية الأمريكية ، والجمعية الملكية الآسيوية البريطانية ، وغيرها بمنزلة الانطلاقة الكبرى للاستشراق حيث تجمعت فيها العناصر العلمية والإدارية والمالية فأسهمت جميعها إسهاما فعالا في البحث والاكتشاف والتعرف على عالم الشرق وحضارته فضلا عما كان لها من أهداف استغلالية واستعمارية ، ثم ازداد النشاط الاستشراقي بعد تأسيس كراس للغة العربية في عدد من الجامعات الأوروبية مثل كرسي أكسفورد عام 1638م وكامبريدج عام 1632م، وكان من المشروعات الاستشراقية المهمة إنشاء مدرسة اللغات الشرقية الحية في فرنسا برئاسة المستشرق الفرنسي سلفستر دي ساسي التي كانت تعد قبلة المستشرقين الأوروبيين وساهمت في صبغ الاستشراق بالصبغة الفرنسية مدة من الزمن ونشأت الجمعيات الاسشتراقية وأيضا بداية منظمة المؤتمرات العالمية للمستشرقين عام 1873م في عقد مؤتمراتها السنوية”

        ونلاحظ أن الكثير من المهتمين بالبحث في الدراسات الاستشراقية قد أوجدوا علاقة بين نشأة الاستشراق وبداية ظهوره وما منيت به أوروبا من الهزائم في حروبها الصليبية على يد القائد صلاح الدين الأيوبي، ذلك أن الحملات الصليبية لم تحقق للغرب طموحاته، ولم تسعفه بالسيطرة على الشعوب العربية واستخلاص بيت المقدس من أيدي المسلمين، وقد ظهرت خفايا وأسرار هذه الحملات الصليبية المتكررة على العالم الإسلامي بأنها في حقيقتها حروب دينية وعقدية وقد رفعت الصليب شعارا لهذه الحروب لتعلن للعالم الأوربي أنها حرب دينية مقدسة من ناحية أسبابها ودوافعها، ومن ناحية غايتها وأهدافها، ولما لم تجد هذه الحروب  نفعا ولم تحقق الهدف الذي قامت من أجله فلا بد من البحث عن بديل آخر، ولا بد من التفكير عن وسيلة أخرى -ربما كانت طويلة الأجل- تحقق لهم هدفهم من السيطرة على شعوب المنطقة وإخضاع العالم الإسلامي لنفوذهم الثقافي والحضاري ثم السياسي والاقتصادي، وكان الاستشراق هو ذلك البديل المتاح في حينها، ليحقق أحلام الغرب وأهدافه.
       وإذا كان الاستشراق هو السبب الكبير والوسيلة الفعالة في تحقيق الهدف والغاية وهي السيطرة الكاملة على العالم الإسلامي ، فإن ذلك لا يمنع أن يتجاوز الاستشراق هذا الهدف في مسيرته التاريخية إلى أهداف أخرى علمية أو حضارية أو ثقافية، لكن الذي يلفت الانتباه أكثر هو أن الهدف الأسمى للاستشراق لم يغب عن ذهن المستشرقين لحظة واحدة، بل كان هو المحور والأساس الذي دارت حوله معظم دراسات المستشرقين التي قاموا بها حول الشرق وعلومه، وقد تختلف درجة وضوح هذا الهدف ووسيلة التعبير عنه من شخص إلى آخر ومن جيل إلى جيل من المستشرقين، إلا أن ذلك لم يكن سببه غياب الهدف عن ذهن هذا المستشرق أو ذاك، وإنما كان سببه يرجع إلى حظ المستشرق نفسه من الثقافة العربية ودرجة إتقانه لها، وذكائه في أسلوب التعبير عن غايته وهدفه تصريحا أو تلميحا.

 ونلاحظ أنه عندما أخفقت الحروب الصليبية والمواجهات العسكري في تحقيق أهداف الغرب من السيطرة على العالم الإسلامي، تغير أسلوب المواجهة إلى نمط آخر أكثر فعالية، فاحتلت الكلمة والحوار واستخدام المنهج العلمي المكانة الأولى في دراسة نفسية الشرق لمعرفة الأسلوب الأمثل للمواجهة، وكان ذلك بديلا عن المواجهة بالسلاح والقوة العسكرية. ولقد فرض هذا الأسلوب الجديد في المواجهة العكوف على دراسة أحوال الشرق، لغته ودينه، حضارته وتاريخه، فلسفته وعلومه، عقيدته وأصولها، وأن توضع المناهج الدراسية المناسبة لاستكشاف عوامل هذه القوة الصلبة التي تكسرت عليها تلك الحملات الصليبية المتكررة، ومحاولة فهمها وتحليلها تحليلا نفسيا لمواجهتها بأسلوب يختلف تماما عن المواجهة العسكرية.
ولما كان القائمون على أمر الحروب الصليبية والمحركون لها هم رجال الكنيسة وسدنتها، فإن ذلك جعل رجال الكنيسة في طليعة المهتمين بأمر الشرق ودراسة أحواله، ومن هنا فإن طليعة المستشرقين كانوا في معظمهم من القساوسة ورجال الدين المسيحي.
ويتضح لنا جليا مما سبق أن نشأة الاستشراق وبداية ظهوره لم يترجح فيها تاريخ مؤكد ، يؤكد لنا البداية الحقيقية لهذا النشاط الغربي تجاه العالم الشرقي ، وإنما هي آراء واجتهادات حسب ما وصل إليه المؤرخون ، وبما وقفوا عليه من الأخبار والنقولات ، ولهذا كان من المهم هنا الوقوف على الأهداف والغايات التي يسعى إليها المستشرقون وهي السيطرة على العالم الإسلامي والعمل على طمس هويته وتشكيكه في عقيدته ودينه ، وبسط الهيمنة للحضارة الغربية في شتى العلوم والمعارف ، وهذا هو الذي يكون جديرا بالأهمية وبالبحث والدراسة لفضه تلك الأهداف والغايات وكشف نوايا أصحابها وما يطمحون إلى الوصول إليه. 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *