منهج التشكيك فيما هو قطعي في كتابات المستشرقين عن قصص القرآن الكريم… د. ناجي بن وقدان

 قال ابن منظور: الشَّكُّ: نقيض اليقين، وجمعه شُكُوك، وقد شَكَكْتُ في كذا وتَشَكَّكْتُ، وشَكَّ في الأَمر يَشُكُّ شَكّاً وشَكَّكَه فيه غيرهُ.[لسان العرب]

والشك هو: تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر.[الورقات في اصول الفقه، عبد الملك بن عبد الله] وقال السمعاني: هو التردد بين طرفي نقيض.[تفسير القرآن ، منصور بن محمد بن عبد الجبار]  وقال الرازي:  هو أن يبقى الإنسان متوقفاً بين النفي والإثبات.[التفسير الكبير، الإمام فخر الدين الرازي].

والمقصود مما سبق أن الشك خلاف اليقين ، وقد سبق و أن ذكرت من خلال التمهيد ، أن منهج التشكيك هو أحد المناهج التي ينتهجها المستشرقون، بل هو العماد الذي يتكئ عليه الفكر الغربي، وأول من دعا إليه هو المستشرق والفيلسوف الغربي رينيه ديكارت، إذ يقول: “أنا أشك إذن أنا موجود”[المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت، محمود حمدي زقزوق] والشك عند ديكارت هو خطوة التأمل الفلسفي الأولى والأساسية، وهو السبيل الأمثل للوصول إلى اليقين، وهو وسيلة للحصول على معرفة الحقيقة معرفة أكثر وضوحا، ويَنْصَب ذلك التشكيك أولا وأخيرا في كل ما يتصل بدين الإسلام بداية بالقرآن الكريم والسنة النبوية ونهاية بالتاريخ والسيرة، ومنهج التشكيك هذا متوارث بين أجيال المستشرقين فالجيل المعاصر يتبع أسلافه تبعية عمياء، إذ يسيرون في ركابهم ويطبقون مناهجهم وقواعدهم مجافين للقواعد العلمية الصحيحة والمتعارف عليها عند العلماء والباحثين ، ويبالغون كثيرا إلى حد التعدي في التشكيك في الآثار والروايات التاريخية التي تتصل بالقرآن الكريم وعلومه، وعلى وجه الخصوص فيما يتصل بالقصص القرآني. ويعتمدون في هذا المنهج على العملية الانتقائية التي تهدف إلى ما يسعون إليه، ويطمعون فيه من نتائج عكسية، كما أن عدم ثقتهم في صحة النص القرآني دفعهم إلى الشك في أمانة نقله وسلامة تبليغه، بل وفي الشك فيمن نقله إلينا عن الله وهو نبيناr ،ويتعدى هذا الشك إلى جمع القرآن الكريم وترتيبه، فيقولون زورا وبهتانا أن النص القرآني الذي جاء به محمدr قد نالته تعديلات كثيرة بالزيادة والنقصان بعد تبليغه للناس خاصة بعدما دُون وكُتب[دائرة المعارف الإسلامية 5/405] ، وكان لاختلاف المصاحف بأيدي الصحابة رضي الله عنهم أجمعين فرصة وميدانا لهؤلاء المستشرقون لينفثوا سمومهم وينشروا أباطيلهم، من أجل زلزلة العقيدة وفتح أبواب الشكوك والارتياب، فهؤلاء المستشرقون يعرفون أن الشك في نص يوجب الشك في آخر، ولذلك فهم يلحون في طلب روايات الاختلاف، وينقلونها في غير تحرز، ويؤيدونها غالبا، ولا يمتحنون أسانيدها، ولا يلتفتون إلى آراء علماء المسلمين فيها، ولنرى أحدهم وهو المستشرق الإنجليزي آرثر جفري Arthur Jeffery[آرثر جفري ( 1310 – 1379 ه‍ / 1892 – 1959 م ) هو مستشرق أسترالي] الذي جمع الاختلافات المنسوبة إلى المصاحف الفردية لبعض الصحابة أمثال:

ابن مسعود، وأبي بن كعب، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس، وأبي موسى الأشعري، وحفصة، وأنس بن مالك، وزيد بن ثابت، وغيرهم.

      ورغم التشكيك والتلبيس الذي ينشره المستشرقون ويحاولون إثباته من خلال دراساتهم وكتاباتهم ، إلا أن بعضهم يعترف جازما أن بعض الاختلافات لا يمكن أن تكون وذلك من الناحية اللغوية، والبعض الآخر يرى أنها مما استحدثه بعض اللغويين الذين نسبوها لهؤلاء الصحابة والتابعين، ولذلك فالمستشرقون يصفون مصحف عثمان بن عفانt بأنه أقرب المصاحف إلى الأصل ، ولا يقولون إنه الأصل الموثوق به نفسه، فهم يتحاشون الاعتراف بأن القرآن الكريم قد جُمع وفق منهج علمي رصين قوامه التوثيق والدقة والتثبت، وقد أجمع الصحابة على صحة هذا الجمع وتلقوه بالقبول والعناية، وأخذوا بما تضمنه من الأوجه والقراءات، ومن ضمن هؤلاء الصحابة _ بطبيعة الحال _ جميع الصحابة الذين حشد لهم آرثر جفري مصاحف خاصة تتضمن بعض الاختلافات، ومنهم علي بن أبي طالبt الذي قال: “أعظم الناس في المصاحف أجراً أبو بكر فإنه أول من جمع ما بين اللوحين”، كما أن زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير الذين ذكر لهما جفري مصحفين خاصين كانا ضمن اللجنة الرباعية التي شكّلها عثمان بن عفان t لجمع القرآن في عهده.[الجمع الصوتي الأول للقرآن، د. لبيب السعيد]

وديكارت وغيره من أصحاب مذهب الشك، لا يستثنون أي شيء من لزوم الريبة فيه، ولا بد أن يخضعوه لعملية الشك قبل الوثوق به حتى في الغيبيات التي لا تدرك بالعقل وحده، ويدل على ذلك قوله” إن هناك ثمة أحكاما كثيرة تسرعنا في إصدارها على الأشياء ربما تحول دون بلوغنا الحق، وعلقت بعقولنا قبل التيقن منها، حتى أنه لم يعد هناك أمل في التخلص منها إلا إذا شرعنا مرة أخرى في حياتنا إلى وضع جميع الأشياء التي قد تنطوي على أقل قسط من الريبة موضع الشك”.[ديكارت في الفلسفة العقلية، د. راوية عبد المنعم عباس] والمستشرقون ممن ينتمون إلى مذهب الشك، يقسمون الشك إلى قسمين حسب آراءهم وتصوراتهم الشخصية، التي لا ترتكز على قواعد علمية صحيحة، وهما:

1) الشك المنهجي، ويصفونه بالمعتدل، ويدّعون أن الغرض منه هو التوصل إلى الحقائق، ومن يأخذ بهذا الشك فهو أقرب إلى الموضوعية من الجامد أو الجاحد.

2) الشك المذهبي أو المعرفي، لأنه شك في أصل المعرفة، ويصفونه بالمتطرف، وهذا شك لا غرض منه سوى العبثية، لأنه هو في نفسه مذهب فلا ثوابت له، فصاحبه يشك ويشك في أنه يشك، وهو مذهب السوفسطائيين.[نظرية المعرفة عند مفكري الإسلام وفلاسفة الغرب المعاصرين، د.محمود زيدان].

ولعمري إن في ديار المسلمين اليوم من أمثال محمد خلف الله ومحمد الجابري ممن يُسَوقُون للفكر الليبرالي والاستشراق الغربي ممن يتأسون بالغربيين ويسيرون في خطاهم، ويجعلون الشك هو المرحلة الأولى للبحث والمعرفة، وبدون ذلك لا يتم البحث ولا تكتمل المعرفة، بل الجمود والتقليد والتخلف، ولذلك نسمع ونقرأ ما تنفثه أقلامهم الفاسدة، وتتفوه به ألسنتهم الجائرة من خلال الوسائل الإعلامية، أو شبكات التواصل الاجتماعية والانترنت، ولذلك كان من مقولاتهم:

1- لا يتأتى للإنسان العيش إلا في ظل الثقافة والفلسفة التي يشوبها الشك.

 2- لقد بلغ التفكير في الإسلام مبلغا فلسفيا لم تبلغه ثقافة أو حضارة أخرى، حتى إن المسلمين  وعلى رأسهم كبار المتكلمين من قديم وحديث أمثال واصل بن عطاء المعتزلي، مؤسس طائفة المعتزلة، أقروا مبدأ الشك والبحث للوصول إلى اليقين.

 3- مرض ثقافتنا الإسلامية هو اليقين الأعمى، الشك بما هو حَيرة بين خيارات أو سيناريوهات عدة ممكنة، وبما هو ارتياب في حقيقة واقعة ما، وبما هو إحجام عن إصدار حكم قيمة على فعل ما، وبما هو تساؤل عن المرويات والمعتقدات، وبما هو شك في امتلاك الحقيقة ناهيك عن الحقيقة المطلقة، لا محل له من الإعراب في ثقافتنا الإسلامية المشابهة في هذا الصدد، لثقافات القبائل البدائية التي لا تعرف الشك، كل شيء آت لا ريب فيه، أحكامنا قطعية، حقائقنا بديهيات، ومعارفنا مسلّمات مستغنية عن البرهان، اليقين الأعمى ساد بين النخب منذ انتصار الإسلام الحنبلي.[ما مزايا تدريس الفلسفة، العفيف الأخضر].

لكن مذهب الشك هذا ليس بالجديد وليس حديثا كما يظن كثير من الناس، أن أول من قال به ديكارت، فأهل الكلام من أهل القبلة كان الشك منتشرا فيهم، خاصة المعتزلة، حتى جعلوه واجبا، ونُقل عن أبي هشام الجبائي قوله: أول الواجبات هو الشك لتوقف القصد إلى النظر عليه.[شرح المقاصد في علم الكلام، 1/48] .

       وللمستشرقين باع طويل في التشكيك فيما ثبت قطعا من قصص القرآن الكريم بالأدلة والنصوص التي لا مجال فيها ولا مدخل للطعن والتشكيك ، والهدف لهم في ذلك واضحا جليا، يتجلى من خلال كتاباتهم ودراساتهم للتراث الإسلامي، وخصوصا فيما يتصل بالكتاب والسنة ، إذ ليس لهم من مراد سوى الصد عن دين الإسلام ، وتشويه معالمه السامية، والتشكيك في حقائقه الثابتة، وإيقاف عالميته وانتشاره المطرد ، التي وصل إلى أرجاء المعمورة رغم ما يواجه من تحديات وحرب ضروس من قبل أعدائه، وهذا مصداق قول النبي عليه الصلاة والسلام” ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر الا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر”[رواه أحمد].

       ومن يتأمل في القرآن العظيم يجد آيات كثيرة تبطل مذهب الشك، وتعيب على من ينتهج هذا المذهب الفاسد، وآيات القرآن الكريم التي تبطل هذا المعتقد عند المستشرقين وأشياعهم كثيرة جدا، نورد منها ما يؤيد ما ذكرناه من فساد مذهبهم وعمى بصيرتهم، ومنها:

 أولا: شكهم في دعوات الرسل عليهم الصلاة السلام إلى عبادة الله تعالى وحده، وترك ما يعبدون من الأوثان، كما قال تعالى (قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَٰذَا ۖ أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) (62) هود ٦٢،  وقوله تعالى(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۚ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ) هود ١١٠  وجاء عقب هذه الآية بيان بطلان ما هم عليه من عبادة غير الله تعالى، ونفي أي شك في بطلانه كما قال عز وجل (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَٰؤُلَاءِ ۚ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ ۚ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ)هود ١٠٩ ،  مما يعني أن ما هم فيه من الشك في عبادة الله تعالى باطل يقينا، كما أن ما هم فيه من عبادة الأوثان لا شك في بطلانه، فكان في هذه الآية نفي لشكين وإثبات ليقينين، ومن وجه آخر عاب الله على المشركين شكهم في ربوبيته وألوهيته فقال سبحانه (لا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) الدخان ٨ – ٩ ، قال ابن كثير رحمه الله تعالى” قد جاءهم الحق اليقين وهم يشكون فيه ويمترون ولا يصدقون به”[تفسير ابن كثير،4/139]،  ويقول عز وجل( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ۛ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ۛ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ ۚ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) إبراهيم ٩، قال الإمام الطبري رحمه الله” (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ) من حقيقة ما تدعوننا إليه من توحيد الله، ويريبنا ذلك الشك ، ويوجب لنا الريبة والتهمة فيه”[تفسير الطبري 6/4783]   ، ولذلك رد الله عليهم ردا قويا ينفي الشك فيه، ويرد هذه التهمة والفرية عليهم على ألسنة رسله عليهم السلام، ثم يلفت انتباههم إلى بعض آياته الدالة على ربوبيته، فقال عز وجل” (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ)إبراهيم ١٠،  قال البغوي رحمه الله” هذا استفهام بمعنى نفي ما اعتقدوه” وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى” هذا استفهام إنكار، والمعنى: لا شك في الله، أي: في توحيده”[معالم التنزيل، محيي السنة  أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي] ، وعاب تعالى عليهم سلوك سبيل أجدادهم حين شكُّوا في دعوة يوسف عليه السلام، ثم أكد هذا الذم بنفي الهداية عمن هو مسرف في شركه، مرتاب في ربوبيته تعالى وألوهيته،كما في قوله تعالى على لسان العبد المؤمن من آل فرعون (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ)غافر ٣٤ .[الجامع لأحكام القرآن] وذم الله تعالى أهل الكتاب عندما شكُّوا في النبي عليه الصلاة والسلام كم في قول الله تعالى (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ) الشورى ١٤ قال جمع من المفسرين: “أي في شك من محمد”[معالم التنزيل 4/122] ، والمقصود أن الله تعالى ذم أهل الكتاب على شكهم فيما لا شك فيه، وكان لابن حزم رحمه الله موقف حازم من أصحاب مذهب الشك فقال: “والله ما سمع سامع قط بأدخل في الكفر من قول من أوجب الشك في الله تعالى وفي صحة النبوة فرضا على كل متعلم لا نجاة له إلا به، ولا دين لأحد دونه، وإن اعتقاد صحة التوحيد لله تعالى وصحة النبوة باطل لا يحل، فحصل من كلامهم أن من لم يشك في الله تعالى ولا في صحة النبوة فهو كافر، ومن شك فيهما فهو محسن مؤد ما وجب عليه، وهذه فضيحة وحماقة، اللهم إنا نبرأ إليك من هذا القول”[الفصل في الملل والأهواء والنحل] ، وأهل الكلام جعلوا أول واجب هو النظر أو القصد إلى النظر الناتج عن مذهب الشك، ومذهب الشك باطل، وما بني على باطل فهو باطل، فطرائق إثبات الحقائق الغيبية عند المتكلمين بالنظر أو القصد إلى النظر غير صحيحة، والكتاب والسنة على خلافها، وذلك أن الرسل عليهم السلام دعوا أقوامهم إلى التوحيد، ولم يدعوهم إلى النظر أو القصد إلى النظر، كما في قوله تعالى(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَالنحل ٣٦   وقوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) الأنبياء ٢٥  وأخبرنا الله جل وعلا في سورة الأعراف عن نوح وهود وصالح وشعيب عليهم السلام أن كل واحد منهم قال لقومه (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) الأعراف ٥٩ ولم يدعوا أقوامهم ابتداء إلى النظر أو القصد إليه، وفي بعث معاذ إلى اليمن لدعوة الناس إلى الله، كان أول ما دعا إليه واجب التوحيد على العباد، وهذا خلاف ما يزعمه أهل الأهواء والكلام من أول واجب هو معرفة الله بالنظر، أو القصد إلى النظر، أو الشك، فعن ابن عباس رضي الله عنهما  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  لما بعث معاذا رضي الله عنه على اليمن قال ” إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم وترد على فقرائهم فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس “[رواه البخاري]،  قال السمعاني رحمه الله تعالى: “ولم يرو أنه دعاهم إلى النظر والاستدلال، وإنما يكون حكم الكافر في الشرع أن يدعى إلى الإسلام فإن أبى وسأل النظرة والإمهال لا يجاب إلى ذلك، ولكنه إما أن يسلم أو يعطي الجزية أو يقتل، وفي المرتد إما أن يسلم أو يقتل وفي مشركي العرب على ما عرف”.[الانتصار لأصحاب الحديث]

      والقصص القرآني له نصيب كبير من مغالطات وافتراءات وشبهات المستشرقين، أعداء الملة والدين، حيث كانت معظم مزاعمهم المغايرة تماما للحقائق تدور حول أن مصدر القصص القرآني هو التشابه الحاصل بين هذا القصص وبين القصص اليهودي والمسيحي، وقد كان التأثير واضحا في السور المكية، وأن محمدا عليه الصلاة والسلام استقى تعاليمه من الكتابيين، وكان من أبرز من قال بذلك منهم هم: بلاشير، جيوم، نولدكه و سايدر سكاي . يقول الفرد جيوم” ومصدر القصص القرآني هو التشابه الحاصل بين هذا القصص وبين القصص اليهودي والمسيحي، وقد كان التأثير واضحا في السور المكية، وأن محمدا استقى تعاليمه من الكتابيين”[في ظلال سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم] .

      والحاصل أن مذهب الشك هو الجسر الذي يركبه أهل الأهواء من المستشرقين وغيرهم للوصول إلى أهدافهم الخبيثة، والتي يراد من ورائها إبعاد المسلمين عن دينهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم محمد r ، وتشكيكهم في منهجية السلف الصالح رضي الله عنهم، ولهذا نجد أن منهج التشكيك عند أعداء الملة والدين قديم ومتجدد عبر الأزمان، يأخذ في كل زمان ثوبا جديدا عن ذي قبل حسب ما تقتضيه ظروف الحال والزمان ، بل وحسب الأوضاع التي يعيشها أهل ذلك الزمان، ولهذا لا نجد كتاب يبين خفاياهم، ويفضح مكامن قلوبهم مثل كتاب الله تعالى، القرآن الكريم ، كما قال عز وجل (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ*يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ *هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) التوبة ٣١ – ٣٣  يقول الإمام الطبري –رحمه الله-”  أنهم يحاولون بتكذيبهم بدين الله الذي ابتعث به رسوله ، وصدهم الناس عنه بألسنتهم ، أن يبطلوه ، وهو النور الذي جعله الله لخلقه ضياء ( ويأبى الله إلا أن يتم نوره ) ، يعلو دينه ، وتظهر كلمته ، ويتم الحق الذي بعث به رسوله محمداصلى الله عليه وسلم ( ولو كره ) إتمام الله إياه ( الكافرون ) ، يعني : جاحديه المكذبين به “[تفسير الطبري 5/3977] ، ويقول الجشي في قوله عز وجل((الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ )البقرة ٢ أي: لا شك، والريب هو الشك ، كما قال  تعالى (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) التوبة ٤٥  والريبة: الشك، وقال تعالى (لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)التوبة ١١٠ وارتاب الرجل: شك، فهو مرتاب، وقال تعالى  (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ) العنكبوت ٤٨ ، وقال عز وجل (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ )الحجرات ١٥ وقوله عز وجل (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۚ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ) هود ١١٠ ، المريب هو الذي يتشكك، والشك لا يتشكك، بل الذي يتشكك هو الشاك؟ والجواب من وجهين: أحدهما: أن هذا من باب وصف الصفة بما يستحقه الموصوف، كقولهم: شعر شاعر، وجنون مجنون، الآخر: أن أصل الريب القلق، وسمي الشاك مرتابًا، لأن الشاك ربما يقلق”[البرهان في غريب القرآن] ، والآيات في هذا السياق كثيرة جدا والتي يبين لنا ربنا فيها ويكشف ما تنطوي عليه سرائر أولئك ومن سار مسارهم من المستشرقين وأهل الأهواء الذين اتخذوا الشك والريب مذهبا يلوثون به أفكار من ينتسبون إلى الإسلام والقرآن لثنيهم عما هم عليه من التمسك بعرى القرآن والسنة ، واضلالهم وصرفهم عن الصراط المستقيم ، ولكن كل ما يفعلونه من الصد عن سبيل الله يتلاشى ويضمحل أمام قول الله عز وجل (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)التوبة 32  وأمام قوله تعالى (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )يوسف ٢١ .   

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *