شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين

 لولا الإيمان الذي مع هذه المرأة، ما فعلت هذا الشيء تلقي ابنها في البحر لو أن ابنها سقط في تابوته في البحر، لجرته فكيف وهي التي تلقيه؟ لكن لثقتها بالرب عز وجل ووعده ألقته في اليم.

وقوله: ]ولتصنع على عيني[، بالإفراد، هل ينافي ما سبق من ذكرها بالجمع؟!

الجواب: لا تنافي، وذلك لأن المفرد المضاف يعم فيشمل كل ما ثبت لله من عين، وحينئذ لا منافاة بين المفرد وبين الجمع أو التثنية.

إذاً، يبقى النظر بين التثنية والجمع، فكيف نجمع بينهما؟!

الجواب أن نقول: إن كان أقل الجمع اثنين، فلا منافاة، لأننا نقول: هذا الجمع دال على اثنتين، فلا ينافيه. وإن كان أقل الجمع ثلاثة، فإن هذا الجمع لا يراد به الثلاثة، وإنما يراد به التعظيم والتناسب بين ضمير الجمع وبين المضاف إليه.

وقد فسر أهل التحريف والتعطيل العين بالرؤية بدون عين، وقالوا: ( بأعيننا ): برؤية منا، ولكن لا عين، والعين لا يمكن أن تثبت لله عز وجل أبداً، لأن العين جزء من الجسم، فإذا أثبتنا العين لله، أثبتنا العين لله، أثبتنا تجزئة وجسماً، وهذا شيء ممتنع، فلا يجوز، ولكنه ذكر العين من باب تأكيد الرؤية، يعني: كأنما نراك ولنا عين، والأمر ليس كذلك!!

فنقول لهم: هذا القول خطأ من عدة أوجه:

الوجه الأول: أنه مخالف لظاهر اللفظ.

الثاني: أنه مخالف لإجماع السلف.

الثالث: أنه لا دليل عليه، أي: أن المراد بالعين مجرد الرؤية.

الرابع: أننا إذا قلنا بأنها الرؤية، وأثبت الله لنفسه عيناً، فلازم ذلك أنه يرى بتلك العين، وحينئذ يكون في الآية دليل على أنها عين حقيقية.

صفة السمع والبصر لله تعالى

وقوله: )قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) ( المجادلة:1 ) ( 1 )……………………………..

( 1 ) ذكر المؤلف رحمه الله في إثبات صفتي السمع والبصر آيات سبعاً:

الآية الأولى: قوله تعالى:: )قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) ( المجادلة:1 )

* ]قد[: للتحقيق.

والمجَادِلة: هي التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم: تشتكي زوجها حين ظاهر منها.

والظهار: أن يقول الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي. أو كلمة نحوها.

وكان الظهار في الجاهلية طلاقاً بائناً، فجاءت تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتبين له كيف يطلقها هذا الرجل ذلك الطلاق البائن وهي أم أولاده، وكانت تحاور النبي صلى الله عليه وسلم ، أي: تراجعه الكلام فأفتاها الله عز وجل بما أفتاها به في الآيات المذكورة.

* والشاهد من هذه الآيات قوله:: )قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ ) ففي هذا إثبات السمع لله سبحانه وتعالى، وأنه يسمع الأصوات مهما بعدت ومهما خفيت.

قالت عائشة رضي الله عنها: “تبارك( أو قالت: الحمد لله ) الذي وسع سمعه الأصوات، إني لفي ناحية البيت، وإني ليخفى على بعض حديثها[1][122]

والسمع المضاف إلى الله عز وجل ينقسم إلى قسمين:

1- سمع يتعلق بالمسموعات، فيكون معناه إدراك الصوت.

2- وسمع بمعنى الاستجابة، فيكون معناه أن الله يجيب من دعاه، لأن الدعاء صوت ينطلق من الداعي، وسَمَعَ الله دعاءه، يعني: استجاب دعاءه، وليس المراد سمعه مجرد سماع فقط، لأن هذا لا فائدة منه، بل الفائدة أن يستجيب الله الدعاء.

فالسمع الذي بمعنى إدراك الصوت ثلاثة أقسام:

أحدها: ما يقصد به التأييد.

والثاني: ما يقصد به التهديد.

والثالث: ما يقصد به بيان إحاطة الله سبحانه وتعالى.

1- أما ما يقصد به التهديد، فكقوله تعالى: ( امْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ ) ( الزخرف: من الآية80 ) أنا ، وقوله: لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء[ [آل عمران: 181].

2- وأما ما يقصد به التأييد، فكقوله تعالى لموسى وهارون: ]قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى[ [طه: 46]، أراد الله عز وجل أن يؤيد موسى وهارون بذكر كونه معهما يسمع ويرى، أي: يسمع ما يقولان وما يقال لهما ويراهما ومن أرسلا إليه، وما يفعلان، وما يفعل بهما.

3- وأما ما يقصد به بيان الإحاطة، فمثل هذه الآية، وهي:: )قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ [المجادلة: 1].

 )لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ) ( آل عمران: من الآية181 ) ( 1 ) )أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) ( الزخرف:80 ) ( 2 )…………………..

( 1 ) الآية الثانية: قوله: (  )لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ) ( آل عمران: من الآية181 ) * ]لقد[: جملة مؤكدة باللام، و( قد )، والقسم المقدر، تقديره: والله، فهي مؤكدة بثلاث مؤكدات.

والذين قالوا: ( إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ) هم اليهود قاتلهم الله، فهم وصفوا الله بالعيب، قالوا: ( إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ ).

وسبب قولهم هذا: أنه لما نزل قوله تعالى: )مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ) ( البقرة:245 ) ، قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: يا محمد! إن ربك افتقر، يسأل القرض منا.

( 2 ) الآية الثالثة: قوله: )أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) ( الزخرف:80 )

* ]أم[ في مثل هذا التركيب، يقولون: إنها متضمنة معنى ( بل )، والهمزة، يعني: بل أيحسبون، ففيها إضراب وفيها استفهام، أي: بل أيحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم.

* والسر: ما يسره الإنسان إلى صاحبه.

والنجوى: ما يناجي به صاحبه ويخاطبه، فهو أعلى من السر.

والنداء: ما يرفع به صوته لصاحبه.

فها هنا ثلاثة أشياء: سر ومناجاة ونداء.

فمثلاً: إذا كان شخص إلى جانب: وساررته، أي: كلمته بكلام لا يسمعه غيره، نسمي هذا مسارة.

وإذا كان الحديث بين القوم يسمعونه كلهم ويتجاذبونه، سمي مناجاة وأما المناداة، فتكون من بعيد لبعيد.

فهؤلاء يسرون ما يقولونه من المعاصي، ويتناجون بها، فيقول الله عز وجل مهدداً إياهم: )أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى )

* و ) بَلَى( حرف إيجاب، يعني: بلى نسمع، وزيادة على ذلك: ( وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) أي: عندهم يكتبون ما يسرون وما به يتناجون، والمراد بالرسل هنا الملائكة الموكلون بكتابة أعمال بني آدم، ففي هذه الآية إثبات أن الله تعالى يسمع سرهم ونجواهم.

وقوله: ) إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ) ( طـه: من الآية46 ) ( 1 )……………………………….

( 1 ) الآية الرابعة: قوله:: ) إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ) ( طـه: من الآية46 ).

* الخطاب لموسى وهارون عليهما الصلاة والسلام، يقول الله سبحانه وتعالى لهما:: ) إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى )، أي: أسمع ما تقولان، وأسمع ما يقال لكما، وأراكما، وأرى أن من أرسلتما إليه، وأرى ما تفعلان، وأرى ما يفعل بكما.

لأنه إما أن يساء إليهما بالقول أو بالفعل، فإن كان بالقول، فهو مسموع عند الله، وإن كان بالفعل، فهو مرئي عند الله.

وقوله: ( ألم يعلم بأن الله يرى ) ( 1 )…………………………………

( 1 ) الآية الخامسة: قوله: )أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ) ( العلق:14 )

* الضمير في: )أَلَمْ يَعْلَمْ ) يعود إلى من يسيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم: لقوله: )أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ) ( 9 ) )عَبْداً إِذَا صَلَّى ) ( 10 ) )أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى ) ( 11 ) )أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ) ( 12 ) )أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ) ( 13 ) )أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ) [العلق: 9-14]، وقد ذكر المفسرون أن المراد به أبو جهل[2][123].

وفي هذه الآية: إثبات صفة الرؤية لله عز وجل.

والرؤية المضافة إلى الله لها معنيان.

المعنى الأول: العلم.

المعنى الثاني: رؤية المبصرات، يعني: إدراكها بالبصر.

فمن الأول: قوله تعالى عن القيامة: )إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدا (  )وَنَرَاهُ قَرِيباً ) ( المعارج:6-7 ) ، فالرؤية هنا رؤية العلم، لأن اليوم ليس جسماً يرى، وأيضاً هو لم يكن بعد، فمعنى: ( وَنَرَاهُ قَرِيباً ) ، أي: نعلمه قريباً.

*وأما قوله: )أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى )، فهي صالحة لأن تكون بمعنى العلم وبمعنى الرؤية البصرية، وإذا كانت صالحة لهما، ولا منافاة بينهما وجب أن تحمل عليهما جميعاً، فيقال: إن الله يرى، أي: يعلم ما يفعله هذا الرجل وما يقوله، ويراه أيضاً.

]الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم[( 1 )……………

( 1 ) الآية السادسة: قوله: )الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ) ( 218 ) )وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) ( 219 ) )إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) [الشعراء: 218-220].

* وقبل هذه الآية قوله: )وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) ( الشعراء:217 )

* والرؤية هنا رؤية البصر، لأن قوله: )الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ) لا تصح أن تكون بمعنى العلم، لأن الله يعلم به حين يقوم وقبل أن يقوم، وأيضاً لقوله: )وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) وهو يؤيد أن المراد بالرؤية هنا رؤية البصر.

* ومعنى الآية: أن الله تعالى يراه حين يقوم للصلاة وحده وحين يتقلب في الصلاة مع الساجدين في صلاة الجماعة.

  • )إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ): ( إِنَّهُ ) ، أي: الله الذي يراك حين تقوم: ) هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(
  • وفي الآية هنا ضمير الفصل ) هُوَ ( ، من فوائده الحصر، فهل الحصر هنا حقيقي، بمعنى: أنه حصر لا يوجد شيء من المحصور في غير المحصور فيه، أو هو إضافي؟

الجواب: هو إضافي من وجه حقيقي من وجه، لأن المراد بـ]السميع[ هنا: ذو السمع الكامل المدرك لكل مسموع، وهذا هو الخاص بالله عز وجل، والحصر بهذا الاعتبار حقيقي، أما مطلق السمع، فقد يكون من الإنسان، كما في قوله تعالى: )إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) ( الانسان:2 )، فجعل الله تعالى الإنسان سميعاً بصيراً. وكذلك ]عليم[، فإن الإنسان عليم، كما قال الله تعالى )وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) ( الذريات: من الآية28 )، لكن العلم المطلق ـ أي: الكامل ـ خاص بالله سبحانه وتعالى، فالحصر بهذا الاعتبار حقيقي.

وفي هذه الآية الجمع بين السمع والرؤية.

 )وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) ( التوبة: من الآية105 ) ( 1 )………………

( 1 ) الآية السابعة: قوله: )وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) [التوبة: 105].

* والذي قبل هذه الآية: )خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ( 103 ) )أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )[التوبة: 103-104].

* في هذه الآية يقول: ) فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ(

قال ابن كثير وغيره: قال مجاهد: هذا وعيد ـ يعني من الله تعالى ـ للمخالفين أوامره، بأن أعمالهم ستعرض عليه وعلى الرسول والمؤمنين، وهذا كائن لا محالة يوم القيامة، وقد يظهر ذلك للناس في الدنيا.

والرؤية هنا شاملة للعلمية والبصرية.

ففي الآية: إثبات الرؤية بمعنييها: الرؤية العلمية، والرؤية البصرية.

وخلاصة ما سبق من صفتي السمع والرؤية:

أن السمع ينقسم إلى قسمين:

1- سمع بمعنى الاستجابة.

2- وسمع بمعنى إدراك الصوت.

وأن إدراك الصوت ثلاثة أقسام.

وكذلك الرؤية تنقسم إلى قسمين:

1- رؤية بمعنى العلم.

2- ورؤية بمعنى إدراك المبصرات.

وكل ذلك ثابت لله عز وجل.

والرؤية التي بمعنى إدراك المبصرات ثلاثة أقسام:

1-   قسم يقصد به النصر والتأييد، كقوله: ( إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ) ( طـه: من الآية46 )

2-    وقسم يقصد به الإحاطة والعلم، مثل قوله: ( إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ) ( النساء: من الآية58 )

3- وقسم يقصد به التهديد، مثل قوله:( قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ) ( التوبة: من الآية94 ).

ما نستفيده من الناحية المسلكية في الإيمان بصفتي السمع والرؤية:

– أما الرؤية، فنستفيد من الإيمان بها الخوف والرجاء: الخوف عند المعصية، لأن الله يرانا. والرجاء عند الطاعة، لأن الله يرانا. ولا شك أنه سيثيبنا على هذا، فتتقوى عزائمنا بطاعة الله، وتضعف إرادتنا لمعصيته.

– وأما السمع، فالأمر فيه ظاهر، لأن الإنسان إذا آمن بسمع الله، استلزم إيمانه كمال مراقبة الله تعالى فيما يقول خوفاً ورجاءً: خوفاً، فلا يقول ما يسمع الله تعالى منه من السوء، ورجاء، فيقول الكلام الذي يرضي الله عز وجل.

 

صفة المكر والكيد والمحال لله تعالى

وقوله: ( وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ) وقوله: )وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) ، وقوله: )وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) وقوله: )إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً )وَأَكِيدُ كَيْداً ) ( 1 )…………………………………..

 ذكر المؤلف رحمه الله ثلاث صفات متقاربه في أربع آيات: المحال ، والمكر و الكيد.

الآية الأولى: في المحال ، وهي قوله: ( وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ) {سورة الرعد: 13} .

* أي: شديد الأخذ بالعقوبة. وقيل: إن المحال بمعنى المكر؛ أي: شديد المكر ، وكأنه على هذا التفسير مأخوذ من الحيلة وهي أن يتحيل بخصمه حتى يتوقع به . وهذا المعنى ظاهر صنيع المؤلف رحمه الله؛ لأنه ذكرها في سياق آيات المكر والكيد.

والمكر؛ قال العلماء في تفسيره: إنه التوصل بالأسباب الخفية إلى الإيقاع بالخصم؛ يعني: أن تفعل أسباباً خفية فتوقع بخصمك وهو لا يحس ولا يدري، ولكنها بالنسبة لك معلومة مدبرة.

والمكر يكون في موضع مدحاً ويكون في موضع ذماً: فإن كان في مقابلة من يمكر؛ فهو مدح؛ لأنه يقتضي أنك أنت أقوى منه. وإن كان في غير ذلك؛ فهو ذم ويسمي خيانة.

ولهذا لم يصف الله نفسه به إلا على سبيل المقابلة والتقييد؛ كما قال الله تعالى: )وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) {النمل: 50} ، ) وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ) {الأنفال: 30}، ولا يوصف الله سبحانه وتعالى به على الإطلاق؛ فلا يقال: إن الله ماكر ! لا على سبيل الخبر ، ولا على سبيل التسمية ولا يقال إنه كائد لا على سبيل الخبر ، ولا على سبيل التسمية؛ ذلك لأن هذا المعنى يكون مدحاً في حال ويكون ذماً في حال؛ فلا يمكن أن نصف الله به على سبيل الإطلاق.

فأما قوله تعالى: ( وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) {آل عمران: 54}؛ فهذا كمال؛ ولهذا لم يقل: أمكر الماكرين بل قال:  ( وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ )؛ فلا يكون مكره إلا خيراً ، ولهذا يصح أن نصفه بذلك؛ فنقول: هو خير الماكرين. أو نصفه بصفة المكر في سبيل المقابلة؛ أي: مقابلة من يمكر به، فنقول: إن الله تعالى ماكر بالماكرين؛ لقوله تعالى: )وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ).

الآية الثانية: في المكر ، وهي قوله: )وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) {سورة آل عمران: 54}.

* هذه نزلت في عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام ، مكر به اليهود ليقتلوه ، ولكن كان الله تعالى أعظم منهم مكراً ، رفعه الله، وألقى شبهه على أحدهم، على الذي تولى كبره وأراد أن يقتله ، فلما دخل عليه هذا الذي يريد القتل ، وإذا عيسى قد رفع ، فدخل الناس ، فقالوا: أنت عيسى ! قال: لست عيسى ! فقالوا: أنت هو! لأن الله تعالى ألقى عليه شبهه، فقتل هذا الرجل الذي كان يريد أن يقتل عيسى بن مريم؛ فكان مكره عائداً عليه، )وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ).

الآية الثالثة: في المكر أيضاً ، وهي قوله: )وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) {النمل: 50} .

هذا في قوم صالح ، كان في المدينة التي كان يدعو الناس فيها إلى الله تسعة رهط-أي: أنفار – ) تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ){النمل: 49}؛ يعني: لنقتلنه بالليل ( ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) ( النمل:49 )؛ يعني: أنهم قتلوه بالليل؛ فما يشاهدونه . لكن مكروا ومكر الله ! قيل: إنهم لما خرجوا ليقتلوه، لجئوا إلى غار ينتظرون الليل؛ انطبق عليهم الغار ، فهلكوا، وصالح وأهله لم يمسهم سوء ، فيقول الله: )وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً

* )ومكرا(: في الموضعين منكرة للتعظيم؛ أي: مكروا مكراً عظيماً، ومكرنا مكراً أعظم.

الآية الرابعة: في الكيد ، وهي قوله: ]إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً[ {الطارق: 15-16}.

*]إنهم[؛ أي: كفار مكة، ]يكيدون[ للرسول صلى الله عليه وسلم ]كيداً[ لا نظير له في التنفير منه ومن دعوته ، ولكن الله تعالى يكيد كيداً أعظم وأشد.

*]وأكيد كيداً[؛ يعني: كيداً أعظم من كيدهم .

ومن كيدهم ومكرهم ما ذكره الله في سورة الأنفال: )وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ) ( لأنفال: من الآية30 ) : ثلاثة آراء.

 ( ليثبتوك )؛ يعني: يحبسوك.

 ( يقتلوك )؛ يعني: يعدموك.

 ( يخرجوك )؛ يعني: يطردوك

 وكان رأي القتل أفضل الآراء عندهم بمشورة من إبليس؛ لأن إبليس جاءهم بصورة شيخ نجدي ، وقال لهم: انتخبوا عشرة شبان من عشر قبائل من قريش ، وأعطوا كل واحد سيفاً ثم يعمدون إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، فيقتلونه قتلة رجل واحد ، فيضيع دمه في القبائل؛ فلا تستطيع بنو هاشم أن تقتل واحداً من هؤلاء الشبان وحينئذ يلجئون إلى الدية ، فتسلمون منه . فقالوا: هذا الرأي!! وأجمعوا على ذلك. ولكنهم مكروا مكراً والله تعالى يمكر خيراً منه؛ قال الله تعالى: (  ) وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ){الأنفال: 30}؛ فما حصل لهم الذي يريدون ! بل إن الرسول عليه الصلاة والسلام خرج من بيته، يذر التراب على رؤوس العشرة هؤلاء، ويقرأ: )وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) ( يّـس:9 )، كانوا ينتظرون الرسول عليه الصلاة والسلام يخرج، فخرج، من بينهم، ولم يشعروا به.

إذاً، صار مكر الله عز وجل أعظم من مكرهم، لأنه أنجى رسوله منهم وهاجر.

*قال هنا: ( يكيدون كيدا ) ( 15 ) ( وأكيد كيدا ) [الطارق: 15-16]، والتنكير فيها للتعظيم، وكان كيد الله عز وجل أعظم من كيدهم.

وهكذا يكيد الله عز وجل لكل من انتصر لدينه، فإنه يكيد له ويؤيده، قال الله تعالى:( كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ) ( يوسف: من الآية76 ) ، يعني: عملنا عملاً حصل به مقصوده دون أن يشعر به أحد.

وهذا من فضل الله عز وجل على المرء، أن يقيه شر خصمه على وجه الكيد والمكر على هذا الخصم الذي أراد الإيقاع به.

فإن قلت: ما هو تعريف المكر والكيد والمحال؟ .

فالجواب: تعريفها عند أهل العلم: التوصل بالأسباب الخفية إلى الإيقاع بالخصم؛ يعني: أن توقع بخصمك بأسباب خفية لا يدري عنها. وهي في محلها صفة كمال يحمد عليها وفي غير محلها صفة نقص يذم عليها.

ويذكر أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما بارز عمرو بن ود والفائدة من المبارزة أنه إذا غلب أحدهما انكسرت قلوب خصومه-فلما خرج عمرو؛ صرخ علي: ما خرجت لأبارز رجلين. فالتفت عمرو ، فلما التفت؛ ضربه علي رضي الله عنه على رقبته حتى أطاح برأسه ‍‍‍

هذا خداع ، لكنه جائز، ويحمد عليه؛ لأنه في موضعه؛ فإن هذا الرجل ما خرج ليكرم علي بن أبي طالب ويهنئه، ولكنه خرج ليقتله؛ فكاد له علي بذلك.

والمكر والكيد والمحال من صفات الله الفعلية التي لا يوصف بها على سبيل الإطلاق؛ لأنها تكون مدحاً في حال ، وذماً في حال؛ فيوصف بها حين تكون مدحاً ، ولا يوصف بها إذا لم تكن مدحاً؛ فيقال: الله خير الماكرين، خير الكائدين، أو يقال: الله ماكر بالماكرين، خادع لمن يخادعه.

والاستهزاء من هذا الباب؛ فلا يصح أن نخبر عن الله بأنه مستهزئ على الإطلاق؛ لأن الاستهزاء نوع من اللعب ، وهو منفي عن الله؛ قال الله تعالى: )وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ) ( الدخان:38 )، لكن في مقابلة من يستهزئ به يكون كمالاً؛ كما قال تعالى: )وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ) ( البقرة:14 )؛ قال الله: )اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ) ( البقرة: من الآية15 )

فأهل السنة والجماعة يثبتون هذه المعاني لله عز وجل على سبيل الحقيقة.

لكن أهل التحريف يقولون: لا يمكن أن يوصف بها أبداً ، لكن ذكر مكر الله ومكرهم من باب المشاكلة اللفظية، والمعنى مختلف؛ مثل: ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) ( المائدة: من الآية119 ) .

ونحن نقول لهم: هذا خلاف ظاهر النص ، وخلاف إجماع السلف. وقد قلنا سابقاً: إذا قال قائل: أئت لنا بقول لأبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي يقولون فيه: إن المراد بالمكر والاستهزاء والخداع الحقيقة‍

فنقول لهم: نعم؛ هم قرؤوا القرآن وآمنوا به ، وكونهم لم ينقلوا هذا المعنى المتبادر إلى معنى آخر؛ يدل على أنهم أقروا به، وأن هذا إجماع، ولهذا يكفينا أن نقول في الإجماع: لم ينقل عن واحد منهم خلاف ظاهر الكلام، وأنه فسر الرضى بالثواب ، أو الكيد بالعقوبة . . . . ونحو ذلك . وهذه الشبهة ربما يوردها علينا أحد من الناس؛ يقولون: أنتم تقولون: هذا إجماع السلف؛ أين إجماعهم؟

نقول: عدم نقل ما يخالف ظاهرها عنهم دليل الإجماع.

ما نستفيده من الناحية المسلكية في إثبات صفة المكر والكيد والمحال:

 

المكر: يستفيد به الإنسان بالنسبة للأمر المسلكي مراقبة الله سبحانه وتعالى، وعدم التحيل على محارمه ، وما أكثر المتحيلين على المحارم ‍فهؤلاء المتحيلون على المحارم، إذا علموا أن الله تعالى خير منهم مكراً، وأسرع منهم مكراً؛ فإن ذلك يستلزم أن ينتهوا عن المكر .

ربما يفعل الإنسان شيئاً فيما يبدوا للناس أنه جائز لا بأس به، لكنه عند الله ليس بجائز ، فيخاف ، ويحذر.

وهذا له أمثلة كثيرة جداً في البيوع والأنكحة وغيرهما:

مثال ذلك في البيوع: رجل جاء إلى آخر؛ قال: أقرضني عشرة آلاف درهم . قال: لا أقرضك إلا بأثني عشر ألف وهذا رباً وحرام سيتجنبه لأنه يعرف أنه رباً صريح لكن باع عليه سلعة باثنى عشر آلفاً مؤجلة إلى سنة بيعاً تاماً وكتبت الوثيقة بينهما، ثم إن البائع أتى إلى المشترى ، وقال: بعنية بعشرة ألاف نقداً . فقال: بعتك إياه . وكتبوا بينهما وثيقة بالبيع فظاهر هذا البيع الصحة، ولكن نقول: هذه حيلة؛ فإن هذا لما عرف أنه لا يجوز أن يعطيه عشر الآف باثني عشر ألفاً؛ قال: أبيع السلعة عليه باثني عشر، وأشتريها نقداً بعشرة.

ربما يتسمر الإنسان في هذه المعاملة لأنها أمام الناس معاملة ليس فيها شيء لكنها عند الله تحيل على محارمه ، وقد يملي الله تعالى لهذا الظالم ، حتى إذا أخذه لم يفلته؛ يعني: يتركه ينمو ماله ويزداد وينمو بهذا الربا لكن إذا أخذه لم يفلته؛ وتكون هذه الأشياء خسارة عليه فيما بعد ، وماله إلى الإفلاس ، ومن الكلمات المشهورة على ألسنة الناس: من عاش في الحيلة مات فقيراً.

 مثال في الأنكحة: امرأة طلقها زوجها ثلاثاً؛ فلا تحل له إلا بعد زوج، فجاء صديق له، فتزوجها بشرط أنه متى حللها – يعني: متى جامعها – طلقها ، ففعل؛ تزوج بعقد وشهود ومهر، ودخل عليها ، وجامعها ، ثم طلقها ،  ولما طلقها؛ أتت بالعدة ، وتزوجها الأول؛ فإنها ظاهراً تحل للزوج الأول، لكنها باطناً لا تحل؛ لأن هذه حيلة.

فمتى علمنا أن الله أسرع مكراً ، وأن الله خير الماكرين؛ أو جب لنا ذلك أن نبتعد غاية البعد عن التحيل على محارم الله .

صفة العفو والمغفرة والرحمة والعزة

وقوله: )إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ) ( 1 ) . . . ……………………

ذكر المؤلف رحمه الله أربع آيات في صفة العفو والقدرة والمغفرة والرحمة والعزة:

الآية الأولى: في العفو والمقدرة: قوله: )إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ) {النساء: 149}.

يعني: إن تفعلوا خيراً ، فتبدوه؛ أي: تظهروه للناس ، ( أو تخفوه )؛ يعني: عن الناس فإن الله تعالى يعلمه، ولا يخفى عليه شيء.

وفي الآية الثانية: )إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً )  {الأحزاب: 54} ، وهذا أعم يشمل الخير والشر وما ليس بخير ولا شر .

ولكل آية مكانها ومناسبتها لمن تأمل .

وقوله: ( أو تعفوا عن سوء ): العفو: هو التجاوز عن العقوبة؛

فإذا أساء إليكم إنسان فعفوت عنه؛ فإن الله سبحانه وتعالى يعلم ذلك. ولكن العفو يشترط للثناء على فاعله أن يكون مقروناً بالإصلاح؛ لقوله تعالى: ) فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ) ( الشورى: من الآية40 ) ، وذلك أن العفو قد يكون سبباً للزيادة في الطغيان والعدوان ، وقد يكون سبباً للانتهاء عن ذلك، وقد لا يزيد المعتدي ولا ينقصه.

1- فإذا كان سبباً للزيادة في الطغيان؛ كان العفو هنا مذموماً ، وربما يكون ممنوعاً؛ مثل أن نعفوا عن هذا المجرم ، ونعلم – أو يغلب على الظن أنه يذهب فيجرم إجراماً أكبر؛ فهنا لا يمدح العافي؛ عنه ، بل يذم.

2-وقد يكون العفو سبباً للانتهاء عن العدوان؛ بحيث يخجل ويقول: هذا الذي عفا عني لا يمكن أن أعتدي عليه مرة أخرى، ولا على أحد غيره. فيخجل أن يكون هو من المعتدين ، وهذا الرجل من العافين؛ فالعفو محمود ومطلوب وقد يكون واجباً.

3-وقد يكون العفو لا يؤثر ازدياداً ولا نقصاً؛ فهو أفضل لقوله تعالى:( وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَ ) ( البقرة: من الآية237 ) .

وهنا يقول تعالى: ) أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً )؛ يعني: إذا عفوتم عن السوء؛ عفا الله عنكم ، ويؤخذ هذا الحكم من الجواب: ( فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً )؛ يعني: فيعفو عنكم مع قدرته على الانتقام منكم ، وجمع الله تعالى هنا بين العفو والقدير؛ لأن كمال العفو أن يكون عن قدرة . أما العفو الذي يكون عن عجز؛ فهذا لا يمدح فاعله؛ لأنه عاجز عن الأخذ بالثأر . وأما العفو الذي لا يكون مع قدرة؛ فقد يمدح لكنه ليس عفواً كاملاً، بل العفو الكامل ما كان عن قدرة.

ولهذا جمع الله تعالى بين هذين الاسمين ( العفو ) و ( التقدير ):

فالعفو: هو المتجاور عن سيئات عباده، والغالب أن العفو يكون عن ترك الواجبات، و المغفرة عن فعل المحرمات.

والقدير: ذو القدرة يتمكن بها الفاعل من الفعل بدون عجز.

وهذان الاسمان يتضمنان صفتين، وهما العفو، والقدرة.

 ) وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ( النور:22 ).

الآية الثانية: في المغفرة والرحمة: قوله: ( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم )النور: 22].

  • هذه الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، وذلك أن مسطح بن أثاثه رضي الله عنه كان ابن خالة أبي بكر، وكان ممن تكلموا في الإفك.

وقصة الإفك[124] ان قوماً من المنافقين تكلموا في عرض عائشة رضي الله عنها، وليس والله قصدهم عائشة، لكن قصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يدنسوا فراشه، وأن يلحقوه العار والعياذ بالله! ولكن الله – ولله الحمد – فضحهم، وقال: ] والذي تولي كبره منهم له عذاب عظيم [ [ النور: 11].

تكلموا فيها، وكان أكثر من تكلم فيها المنافقون، وتكلم فيها نفر من الصحابة رضي الله عنهم معروفون بالصلاح، ومنهم مسطح بن أثاثة، فلما تكلم فيها، وكان هذا من أكبر القطيعة قطعية الرحم أن يتكلم إنسان في قريبه بما يخدش كرامته، لا سيما وأن ذلك في أم المؤمنين زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقسم أبو بكر إلا ينفق عليه، وكان أبو بكر هو الذي ينفق عليه، فقال الله تعالى: )وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) وكل هذه الأوصاف ثابتة في حق مسطح، فهو قريب ومسكين ومهاجر  ( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم ) [ النور: 22]، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بلى والله، نحب أن يغفر الله لنا! فرد عليه النفقة.

هذا هو ما نزلت فيه الآية:

  • أما تفسيرها، فقوله: ( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ): اللام لامر الأمر، وسكنت لأنها أتت بعد الواو، ولام الأمر تسكن إذا وقعت بعد الواو كما هنا أو بعد الفاء أو بعد ( ثم ): قال الله تعالى: ) وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ) ( الطلاق: من الآية7 ) [ الطلاق: 7] وقال تعالى: ( )ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ) ( الحج: من الآية29 ) [ الحج: 29]، هذا إذا كانت لام أمر، أما إذا كانت لام تعليل، فإنها تبقي مكسورة، لا تسكن ، وإن وليت هذه الحروف.
  • قوله: ]وليعفوا [، يعني: يتجاوزوا عن الأخذ بالذنب.
  • ]وليصفحوا [، يعني: يعرضوا عن هذا الأمر، ولا يتكلموا فيه، مأخوذ من صفحة العنق، وهي جانبه، لأن الإنسان إذا أعرض، فالذي يبدو منه صفحة العنق.

والفرق بين العفو والصفح: أن الإنسان قد يعفو ولا يصفح، بل يذكر هذا العدوان وهذه الإساءة، لكنه لا يأخذ بالندب، فالصفح أبلغ من مجرد العفو.

  • وقول: ) أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يعفو الله لكم ): ( ألا ): للعرض، والجواب: بلى نحب ذلك، فإذا كنا نحب أن يغفر الله لنا، فلنتعرض لأسباب المغفرة.
  • ثم قال: ( والله غفور رحيم ): ( غفور ) هذه إما أن تكون اسم فاعل للمبالغة، وإما أن تكون صفة مشبهة، فإذا كانت صفة مشبهة، فهي دالة على الوصف اللازم الثابت، هذا هو مقتضى الصفة المشبهة، وإن كانت اسم فاعل محولاً إلي صيغة التكثير، كانت دالة على وقوع المغفرة من الله بكثرة.

وبعد هذا نقول: إنها جامعة بين الأمرين، فهي صفة مشبهة، لأن المغفرة صفة دائمة لله عز وجل، وهي أيضاً فعل يقع بكثرة، فما أكثر مغفرة الله عز وجل وما أعظمها.

  • وقوله: ( رحيم ): هذه أيضاً اسم فاعل محول إلي صيغة المبالغة، وأصل اسم الفاعل من رحم: راحم، لكن حول إلى رحيم لكثرة رحمة الله عز وجل وكثرة من يرحمهم الله عز وجل.

والله سبحانه وتعالى يقرن بين هذين الاسمين، لأنهما دالان على معنى متشابه، ففي المغفرة زوال المكروب و آثار الذنب، وفي الرحمة حصول المطلوب، كما قال الله تعالى للجنة: ” أنت رحمتي أرحم بك من أشاء[4][125]

وقوله: ) وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ  ( 1 )……………………..

( 1 )   الآية الثالثة: في العزة، وهي قوله: ) وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ )[المنافقون:8].

  • هذه الآية نزلت في مقابلة قول المنافقين: ) لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ )[ المنافقون: 8]، يريدون أنهم الأعز، وأن رسول الله والمؤمنين الأذلون، فبين الله تعالى أنه لا عزة لهم، فضلاً عن أن يكونوا هم الأعزون، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.

  ومقتضى قول المنافقين أن الرسول صلى الله وعلى آله وسلم والمؤمنين هم الذين يخرجون المنافقين، لأنهم أهل العزة، والمنافقين أهل الذلة، ولهذا كانوا يحسبون كل صيحة عليهم، وذلك لذلهم وهلعهم، وكانوا إذا لقوا الذين آمنوا، قالوا: آمنا، خوفاً وجبناً، وإذا خلوا إلي شياطينهم ، قالوا: إنا معكم، إنما نحن مستهزئون ! وهذا غاية الذل.

أما المؤمنون، فكانوا أعزاء بدينهم، قال الله عنهم في مجادلة أهل الكتاب: ) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) ( آل عمران:64]، فيعلنونها صريحة، لا يخافون في الله لومه لائم.

       وفي هذه الآية الكريمة إثبات العزة لله سبحانه وتعالى.

وذكر أهل العلم أن العزة تنقسم إلي ثلاثة أقسام: عزة القدر، وعزة القهر، وعزة الامتناع:

   فعزة القدر: معناه أن الله تعالى ذو قدر عزيز، يعني: لا نظير له.

  1. وعزة القهر: هي عزة الغلبة، يعني: أنه غالب كل شيء، قاهر كل شيء، ومنه قوله تعالي: ) فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ )[ ص: 23]، يعني: غلبني في الخطاب. فالله سبحانه عزيز لا غالب له بل هو غالب كل شيء.
  2. وعزة الامتناع: وهي أن الله تعالى يمتنع أن يناله سوء أو نقص، فهو مأخوذ من القوة والصلابة، ومنه قولهم: أرض عزاز، يعني قوية شديدة.

هذه معاني العزة التي أثبتها الله تعالى لنفسه، وهي تدل على كمال قهره وسلطانه، وعلى كمال صفاته، وعلى تمام تنزهه عن النقص.

تدل على كمال قهره وسلطانه في عزة القهر.

وعلى تمام صفاته وكمالها وأنه لا مثيل لها في عزة القدر.

وعلى تمام تنزهه عن العيب والنقص في عزة الامتناع.

       قوله: ] ولرسوله وللمؤمنين[، يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم، له عزة، وللمؤمنين أيضاً عزة وغلبة.

  • ولكن يجب أن نعلم أن العزة التي أثبتها الله لرسوله وللمؤمنين ليست كعزة الله، فإن عزة الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين قد يشوبها ذلة، لقوله تعالى: )وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ )[ آل عمران: 123]، وقد يغلبون أحياناً لحكمة يريدها الله عز وجل، ففي أحد لم يحصل لهم تمام العزة، لأنهم غلبوا في النهاية لحكم عظيمة، وكذلك في حنين ولوا مدبرين، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم، من أثني عشر ألفاً إلا نحو مائة رجل. هذا أيضاً فقد للعزة، لكنه مؤقت. أما عزة الله عز وجل، فلا يمكن أبداً أن تفقد.

وبهذا عرفنا أن العزة التي أثبتها الله لرسوله وللمؤمنين ليست كالعزة التي أثبتها لنفسه.

وهذا أيضاً يمكن أن يؤخذ من القاعدة العامة، وهي أنه: لا يلزم من اتفاق الاسمين أن يتماثل المسميان، ولا من اتفاق الصفتين أن يتماثل الموصوفان.

وقوله عن إبليس: ) فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) ( 1 ) ………………..

( 1 )   الآية الرابعة: في العزة أيضاً، وهي قوله عن إبليس: ) فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ )[ ص: 82].

  • الباء هنا للقسم، لكنه اختار القسم بالعزة دون غيرها من الصفات لأن المقام مقام مغالبة، فكأنه قال: بعزتك التي تغلب بها من سواك لأغوين هؤلاء وأسيطر عليهم يعني: بني آدم حتى يخرجوا من الرشد إلى الغي.

ويستثنى من هذا عباد الله المخلصون، فإن إبليس لا يستطيع أن يغويهم، كما قال تعالى: )إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ) ( الحجر: 42].

ففي هاتين الآيتين إثبات العزة لله.

وفي الآية الثالثة إثبات أن الشيطان يقر بصفات الله!

فكيف نجد من بني آدم من ينكر صفات الله أو بعضها، أيكون الشيطان أعلم بالله وأعقل مسلكاً من هؤلاء النفاة؟!

ما نستفيده من الناحية المسلكية:

في العفو والصفح: هو أننا إذا علمنا أن الله عفو، وأنه قدير، أوجب لنا ذلك أن نسأله العفو دائماً، وأن نرجو منه العفو عما حصل منا من التقصير في الواجب.

أما العزة أيضاً: نقول: إذا علمنا أن الله عزيز، فإننا لا يمكن أن نفعل فعلاً نحارب الله فيه.

مثلاً الإنسان المرابي معاملته مع الله المحاربة: )فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ )[ البقرة: 279]. إذا علمنا أن الله ذو عزة لا يغلب، فإنه لا يمكننا أن نقدم على محاربة الله عز وجل.

قطع الطريق محاربة: )إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ) [المائدة: 33]، فإذا علمنا أن قطع الطريق محاربة لله، وأن العزة لله، امتنعنا عن العمل، لأن الله هو الغالب.

ويمكن أن نقول فيها فائدة من الناحية المسلكية أيضاً، وهي أن الإنسان المؤمن ينبغي له أن يكون عزيزاً في دينه، بحيث لا يذل أمام أحد من الناس، كائناً من كان، على المؤمنين، فيكون عزيزاً على الكافرين، ذليلاً على المؤمنين.

 

إثبات الاسم لله تعالى

وقوله: ] تبارك اسم ربك ذي الجلال والأكرم[ ( 1 ) …………………..

   ذكر المؤلف رحمه الله آية في إثبات الاسم لله تعالي، وآيات أخرى كثيرة في تنزيه الله تعالى ونفي المثيل عنه.

آية إثبات الاسم: )تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ ) [الرحمن: 78].

   ] تبارك [: قال العلماء: معناها: تعالى وتعاظم إن وصف بها الله، كقوله: ) تبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) ( [المؤمنون: 14] ، وإن وصف بها اسم الله، معناها: أن البركة تكون باسم الله، أي أن اسم الله إذا صاحب شيئاً، صارت فيه البركة.

ولهذا جاء في الحديث: ” كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بـ ” بسم الله ” فهو أبتر ” [126]إي: ناقص البركة.

بل إن التسمية تفيد حل الشيء الذي يحرم بدونها، فإنه إذا سمى الله على الذبيحة صارت حلالاً، وإذا لم يسم صارت حراماً وميتة، وهناك فرق بين الحلال الطيب الطاهر، والميتة النجسة الخبيثة.

وإذا سمى الإنسان على طهارة الحدث، صحت، وإذا لم يسم، لم تصح على أحد القولين.

وإذا سمى الإنسان على طعامه، لم يأكل معه الشيطان، وإن لم يسم، أكل معه.

وإذا سمى الإنسان على جماعه، وقال: ” اللهم ! جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا “[127]، ثم قدر بينهما ولد، لم يضره الشيطان أبداً، وإن لم يفعل، فالولد عرضه لضرر الشيطان.

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *