أهداف الاستشراق…. د. ناجي بن وقدان

خاض الباحثون وأمعنوا النظر كثيرا حول أهداف الاستشراق والمستشرقين، وبذلوا جهدا كبيرا في تحديد ماهية هذه الأهداف، بل وثارت بينهم جدليات وتصورات ذاتية، نتج عنها مؤثرات نفسية سيطرة على قواهم العقلية، مما حدا بهم إلى الوقوع تحت التأثيرات الدينية والعرقية والتاريخية، فمن وقع تحت هذه الضغوط نظر إلى الاستشراق على أنه هدف ينبع عن حقد ديني، وكراهية عنصرية، ونزعة تاريخية مقيتة، ومن وقع تحت تأثيرات التقدم التقني المادي ولم يتأثر بالشعور الديني والقومي، نظر إلى الاستشراق على أنه مجرد هدف علمي موضوعي ومنهجي فحسب، وأمثال هؤلاء وهؤلاء كثير على الساحة العلمية.

ومن هنا يتبين لنا أن حركة الاستشراق لها أهداف متعددة ذكرها الباحثون في كتبهم وعبر مقالاتهم المختلفة، ويمكن لنا إجمال هذه الأهداف في هدفين أساسيين وهما:

أولا: الهدف البنائي.

      ويتمثل هذا الهدف البنائي في اتجاه وإقبال الكثير من المستشرقين على جمع كل ما يجدوه من التراث الإسلامي على اختلاف مشاربه، جمعا ودراسة وتحقيقا بل ونشرا أيضا، وتعدى الأمر في ذلك إلى ترجمة هذا التراث ، وتلك العلوم للإفادة منها في تطوير قواهم العلمية والتقنية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، تلك البعثات العلمية التي أرسلت إلى الأندلس للنهل من تلك العلوم والمعارف العربية والإسلامية، مما كان له الدور الكبير في تأسيس الحركة الاستشراقية، التي قامت عليها معالم النهضة الأوروبية الحديثة. ولم يكن جل اهتمام الحركة الاستشراقية بالجوانب المادية فحسب، بل تعدى الأمر وانصب على دراسة العقيدة التي نهضت على أساسها هذه الحضارة العظيمة للعرب والمسلمين، ولذلك انبرى عدد كبير وتخصص في دراسة الموروث الديني لدى المسلمين المتمثل في القرآن الكريم، والسنة النبوية، والفقه الإسلامي وغير ذلك من المجالات.

      وعند استقراء التاريخ لهؤلاء المستشرقون ، نجد أن الفوائد التي جمعوها من التراث الإسلامي لم تتجاوز الحد المعرفي، ولم يكن لها أثر في المجال العلمي التطبيقي في حياة أولئك. بمعنى أوضح أنهم أخذوا ما يخدم حضارتهم وتقدمهم العلمي فحسب.

ثانيا: الهدف الهدمي.

      ويتركز العمل في هذا الهدف على قطع كل علاقة بين إنسان الحضارة العربية والإسلامية وبين حضارته ودينه وثقافته وعقيدته، والسعي الحثيث إلى طمس معالم هذه الحضارة وهذا التراث المجيد، وذلك من أجل أن تخلو الساحة أمام الحضارة الغربية لمد نفوذها وإحكام سيطرتها على الحضارات والثقافات الأخرى، وعلى وجه الخصوص حضارة الإسلام وأهله، ولذلك سعت الدراسات الغربية غير العلمية وتعمدت تشويه التراث الإسلامي، وتنفير المجتمعات من مبادئه، والتغيير والتبديل والحذف والكذب وتزوير الحقائق، حسب ما تقتضيه مصالحهم ومطامعهم الخاصة.

      إن مما ساعد المستشرقين الغربيين في ذلك كله، هو مساعدة الدول الاستعمارية في تدمير العالم الإسلامي وحضارته وتراثه الخالد ، ويأتي ذلك إما بالتمهيد لحركة الاستعمار العالمي أو تجذيرها وتوطينها، ولقد كان للمستشرقين دور كبير وفعال في مساعدة الدول الغربية الاستعمارية في احتلال العالم الإسلامي، وهذا ما اعترفت به الدول الكبرى الاستعمارية. ولم تقتصر مهمة المستشرقين على التمهيد للدول الاستعمارية في الاستيلاء على الدول الاسلامية فحسب، بل تعدى ذلك إلى أمر أخطر وهو التمهيد لحملات التنصير التي نشطت ونجحت في كثير من الأمان في تنصير الناس وإخراجهم من دينهم، فالاستشراق والمستشرقون لايزالون الأداة المثلى، والطريق الكبرى لحركات التنصير في كل مكان، منه تستمد معارفها وعلومها، وتستعين به على تقويم مهماتها.

    وخلاصة القول فيما سبق، أن ما ذُكر من أهداف سابقة، تكون هي الأهداف الرئيسية لحركة الاستشراق والمستشرقين، التي يرمي الأعداء من ورائها إحكام القبضة على العالم الإسلامي بدوله وأقاليمه، وعلى مدخراته ومكتسباته، ومع ذلك كله وما يواجه من موجة استعمارية، ونفوذ تنصيري، يبقى الإسلام صامدا في قلوب أهله، ويبقى المسلمون معتزون بدينهم فخورون بتراثهم المجيد وتبقى كلمتهم واحدة وكتابهم واحد وإن تباعدت الأقطار، وتناءت الديار (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) يوسف٢١.     

 الفرق بين الدوافع والأهداف

      لكي يتسنى لنا معرفة الفرق بين الدوافع والأهداف، لا بد لنا من تعريف كل واحد منهما على حدة ، التعريف اللغوي وكذلك الاصطلاحي، ومن ثم يتبين لنا الفرق بينهما، مع أن الكثير لم يفرقوا بينهما، وجعلوا معناهما متشابها، أي كل واحد منهما يفسر الآخر، ومنهم من يرى التفريق، ولعلنا من خلال التعريف نخلص إلى نتيجة حتمية ينتفي معها الخلاف في الأمر.

أولا: الدوافع في اللغة.

قال ابن منظور: الدَّفْع: الإِزالة بقوّة، دَفَعَه يَدْفَعُه دَفْعاً ودَفاعاً ودافَعَه ودَفَّعَه فانْدَفَع وتَدَفَّع وتَدافَع، وتدافَعُوا الشيءَ: دَفَعَه كلّ واحد منهم عن صاحبه، وتدافَع القومُ أَي دفَع بعضُهم بعضاً، ورجل دَفّاع ومِدْفَع: شديد الدَّفْع، ورُكْن مِدْفَعٌ: قويّ، ودفَع فلان إِلى فلان شيئاً ودَفع عنه الشرّ على المثل، ومن كلامهم: ادْفَعِ الشرّ ولو إِصْبعاً، حكاه سيبويه، ودافَع عنه بمعنى دفَع، تقول منه: دفَع الله عنك المَكْروه دَفْعاً، ودافع اللهُ عنك السُّوء دِفاعاً.

وقال الجوهري: دَفَعْتُ إلى فلان شيئاً، ودَفَعْتُ الرجل فانْدَفَعَ، وانْدَفَعَ الفرس، أي أسرع في سيره، وانْدَفَعوا في الحديث، والمُدافَعَةُ: المماطلةُ.

وقال ابن فارس: الدال والفاء والعين أصلٌ واحد مشهور، يدلُّ على تنحيَة الشيء، يقال دَفَعْتُ الشّيءَ أدفعُه دفْعا، ودافع الله عنه السُّوءَ دِفاعا، والمدفَّع الفقير، لأن هذا يدافِعُه عند سؤالِهِ إلى ذلك.

ثانيا: الدوافع في الاصطلاح.

     يختلف التعريف لمصطلح الدوافع من كاتب لآخر، وذلك من كثرة ما كتب عنها، وتباينت هذه التعاريف ، وصار هناك عدد من التعاريف ما بين موجز ومسهب ، وإن كانوا يتفقون فيما بينهم على المضمون، إلا أن تعبيراتهم تتباين من واحد لآخر.

ونورد هنا جملة من هذه التعاريف حتى ينجلي لنا الأمر وتتضح الرؤيا:

1) يقول أحدهم “الدافع أو الحافز هو أي عمل داخلي في الكائن يدفعه إلى عمل معين، والاستمرار في هذا العمل مدة معينة من الزمن حتى يشبع هذا الدافع”.

2) ويرى أحد الباحثين أن “الدوافع هي كل ما يحرك السلوك ويدفعه”.

3) ويقول آخر “أن الدوافع قوة أو عامل أو استعداد أو حالة داخلية دائمة أو مؤقتة تثير السلوك الظاهر أو الباطن في ظروف  معينة وتواصله حتى ينتهي إلى غاية أو غايات معينة وبعبارة أخرى “فالدافع قوة محركة موجهة في آن واحد”.

4) ويعرفها العيسوي بأنها: “حالة داخلية أو استعداد داخلي، فطري أو مكتسب شعوري أو لا شعوري، عضوي أو اجتماعي أو نفسي، يثير السلوك ذهنياً كان أو حركياً وتوصله ويسهم في توجيهه إلى غاية شعورية أو لا شعورية”.

ويتبين مما سبق أن الدوافع هي كل ما يحرك السلوك ويدفعه للوصول إلى غايات وأهداف معينة.

ثالثا: الأهداف في اللغة.

قال ابن فارس: الهاء والدال والفاء : أُصَيْلٌ يدلُّ على انتصابٍ وارتفاع،  والهَدَف كلُّ شيء عظيمٍ مرتفع، ولذلك سمِّي الرَّجُل الشَّخيص الجافي هَدَفاً  قال :

إذا الهَدَفُ المِعزالُ صَوَّبَ رأسَه *** وأعجبهُ ضَفْوٌ من الثَّلَّةِ الخُطْلِ

 والهَدَف ، الغرض ،  ورَكَب مستَهْدِف ، عَرِيض ، قال النَّابغة : وامرأة مُهْدِفَة : لَحِيمة.

وقال الجوهري: الهَدَفُ : كل شيء مرتفعٍ، من بناء أو كثيب رملٍ أو جبلٍ، ومنه سمِّي الغرض هَدَفاً، وبه شبِّه الرجلُ العظيم، وأَهْدَفَ على التلِّ : أشرفَ، وامرأةٌ مُهْدِفَةٌ، أي لَحيمَةٌ.

 وأَهْدَفَ إليه، أي لجأ، وأَهْدَفَ لك الشيءُ واسْتَهْدَفَ، أي انتصب، ويقال : رَكَبٌ مُسْتَهْدِفٌ، أي عريضٌ، والهِدْفَةُ القِطعة من الناس والبيوت.

رابعا: الأهداف في الاصطلاح.

الهدف في الاصطلاح حدد بأنه: “ما انعقد العزم على إحداثه في المتعلم، من تحول في مستوى المعارف والمهارات والمواقف، بشرط أن يقع التثبت من حصول ذلك التحول إثر فترة من التكوين تحدد مسبقًا”.

ومما سبق من التعريفات اللغوية والاصطلاحية، يتبين لنا أن الأهداف هي الغايات التي يسعى الإنسان جاهدا إلى تحقيقها ، أو بمعنى أوضح هي الأشياء التي من الممكن تحقيقها في المدى القريب.

      والخلاصة مما سبق كله من تعريفات الدوافع والأهداف، يتضح لنا جليا التقارب بين الجانبين في التعريف، والفرق يسير بينهما، وهو أن الدوافع هي المحركات والمحفزات نحو الفعل الموجود داخل الإنسان بمعنى، يكون لدى المرء نية داخلية تدفعه بقوة نحو ما يريد من الهدف، بينما الأهداف هي ما يصبوا الإنسان إلى تحقيقها، فالأهداف شيء مؤقت ينتهي بمجرد تحقيقه، ومعظم الناس لديهم أهداف، متغيرة ومتجددة فما إن تتحقق لهم أهداف، تتجدد أهداف أخرى يتم السعي لتحقيقها وهكذا والله تعالى أعلم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *