في أواخر شهر ذي القعدة من السنة الخامسة للهجرة ، حدث أن مر المسلمون بظروف قاسية عندما تجمعت أكبر قوة معادية للمسلمين في ذلك الوقت ، للقضاء عليهم داخل المدينة ، وأحاطت جيوش الأحزاب بالمدينة في عشرة آلاف مقاتل ، من مشركي قريش وقبائل غطفان وأشجع وأسد وفزارة وبني سليم على حين لم يزد عدد المسلمين على ثلاثة آلاف مقاتل. وكان المتوقع أن ينضم يهود بني قريظة إلى صفوف المسلمين ضد القوات الزاحفة على المدينة ، وذلك بناء على نصوص المعاهدة التي أبرمت بين الفريقين. لكن الذي حدث هو عكس هذا، فقد فوجئ المسلمون ببني قريظة يخونونهم في أخطر أوقات محنتهم ولم يرعوا للجوار حقاً، ولا للعهود حرمة، ولقد كانوا يسعون من وراء انضمامهم هذا إلى صفوف الأحزاب التعجيل بسحق المسلمين والقضاء عليهم قضاء تاماً. ولقد أحدث نقض بني قريظة لعهدهم مع المسلمين وإعلانهم الانضمام إلى صفوف الغزاة فزعاً شديداً في صفوف المسلمين لأنهم ما كانوا يتوقعون أن يحدث هذا في مثل تلك الظروف، لدرجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرص أول الأمر على كتمان الخبر على المسلمين لمـا كان يخشى من وقعه على نفوسهم.وقد أخبرنا الله تعالى في الكتاب العزيز أن ملة الكفر واحدة ، وإن اختلفت مللها ونحلها فهم نهاية يجمعون ويجتمعون دون اختلاف إذا كان الأمر ضد الإسلام والمسلمين ، وفي هذه الحال لا يرعون عهدا ولا ميثاقا ، ولا يفون بأمانة ولا ذمة. كما قال عز وجل ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى… ) البقرة 120 ،وبمجرد أن انتهى إلى سمعه النبأ أرسل وفدا مكونا من سعد بن معاذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج، وعبد الله بن رواحة، وخوات بن جبير ليذكروا القوم بما بينهم وبين المسلمين من عهود، ويحذروهم مغبة ما هم مقدمون عليه، وأوصاهم قائلا: “انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا، فإن كان حقاً فألحنوا لي لحنا أعرفه (أي ألمحوا لي في الكلام تلميحا دون تصريح) ، حتى لا يفت ذلك في عضد الناس، وأما إن كانوا على الوفاء بيننا وبينهم فاجهروا به للناس..” فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم. وقالوا عن رسول اللهr ، من رسول الله؟أن لا عهد بيننا وبينه ولا عقد، فرجع الوفد وأخبر رسول اللهr تلميحا لا تصريحاً.بأن قالوا له عضل والقارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم،( الله أكبر، أبشروا يا معاشر المسلمين ) وهكذا ركب القوم رؤوسهم، وقرروا الانضمام الفعلي للغزاة، وأخذوا يمدونهم بالمال والعتاد.. وكانت خيانتهم الأثيمة تلك بمثابة طعنة للمسلمين من الخلف أشق على نفوسهم من هجوم الأحزاب من خارج المدينة، لأنهم ما كانوا يظنون أن يأتيهم الروع من مأمنهم الحصين، وعند ذلك عظم البلاء، واشتد الخوف. وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن، وظهر النفاق من بعض المنافقين يفتون بذلك في عضد المسلمين ، ويرجفون به في المدينة، حتى أن أحدهم ليقول :(كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن أن يذهب إلى الغائط) . وبعد أن ولى المشركون وحلفاؤهم الأدبار، يحملون معهم كل معاني الإخفاق رجع المسلمون إلى منازلهم بالمدينة يغسلون أنفسهم من وعثاء الجهاد والتعب ويلتقطون أنفاسهم بعد قلق نفسي بالغ دام شهرا كاملا. ويبدو أن البعض ظن أن الموضوع انتهى إلى ذلك الحد لكن أيترك الناكثون للعهود دون محاسبة وتأديب ، ذلك ما لا يكون ، ولذلك كان عقابها عاجلاً، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من وعثاء المرابطة في غزوة الأحزاب في بيت أم سلمة رضي الله عنها إذ تبدى له جبريل عليه السلام فقال: “أوضعت السلاح يا رسول الله، قال: نعم. قال: ولكن الملائكة لم تضع أسلحتها، وهذا أوان رجوعي من طلب القوم، ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة فإني عامد إليهم فمزلزل بهم . فنادى عليه الصلاة والسلام في المسلمين “ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة”، فسار الناس فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم بل نصلي، ولم يرد منا ذلك فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم .وتبعهم عليه الصلاة والسلام بعد أن استخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، وحاصر القوم شهراً أو خمسة وعشرين يوما وقيل خمس عشرة ليلة . وقبل تحركه عليه الصلاة والسلام إلى بني قريظة ، أمر الصحابي الجليل علي بن أبي طالبرضي الله عنه أن يتقدمه برايته إلى بني قريظة ، فسار رضي الله عنه حتى إذا دنا من الحصون ، سمع منهم مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرجع حتى لقي الرسول عليه الصلاة والسلام بالطريق ، فقال: يارسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث ، قال: لم؟ أظنك سمعت منهم لي أذى؟ قال: نعم يارسول الله ، قال لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا.فلما دنا رسول الله r منهم : قال يا إخوان القردة ، هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟ قالوا يا أبا القاسم ، ما كنت جهولا.
وفي أثناء سيره عليه الصلاة والسلام إلى بني قريظة ، مر بنفر من أصحابه بالصورين ، فقال:{هل مر بكم أحد}قالوا نعم دحية الكلبي ، مر على بغلة عليها رحالة عليها قطيفة من استبرق ، فأمرنا بلبس السلاح فأخذنا سلاحنا وصففنا ، وقال لنا:هذا رسول الله يطلع عليكم الآن. وعند ابن هشام (مر بنا دحية بن خليفة الكلبي ، على بغلة بيضاء عليها رحالة ، عليها قطيفة ديباج ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :ذلك جبريل ، بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ، ويقذف الرعب في قلوبهم.
ولما وصل النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه ديار بني قريظة ، نزل على بئر تسمى أنا أو أنى، ولما تلاحق المسلمون وقد أتى رجال منهم من بعد العشاء الآخرة ، ولم يصلوا العصر ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ، فشغلهم مالم يكن لهم منه بد في حربهم ، وأبوا أن يصلوا ، لقول النبي عليه الصلاة والسلام:(حتى تأتوا بني قريظة) فصلوا العصر بعد العشاء الآخرة ، فما عابهم الله بذلك في كتابه ، ولا عنفهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم .وحاصرهم عليه الصلاة والسلام حتى جهدهم الحصار ، وطلب منهم النزول فأبوا أن ينزلوا ، وأيقنوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لن يفلتهم وأنه مناجزهم ، وفي هذه الأثناء ، قام فيهم كعب بن أسد أحد أشرافهم ، وهو صاحب الحل والعقد بينهم ، فقال يا معشر يهود ، قد نزل بكم من الأمر ما ترون ، وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيها شئتم ، قالوا : وما هي؟قال نتابع هذا الرجل ونصدقه ، فو الله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل ، وأنه للذي تجدونه في كتابكم ، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم ، قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا ، ولا نستبدل به غيره ، قال:فإذا أبيتم هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين السيوف ، لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ، فإن نهلك ، نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه ، وإن نظهر فلعمري لنجدن النساء والأبناء.قالوا:نقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم؟قال فإن أبيتم على هذه ، فإن الليلة ليلة سبت ، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها ، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة ، قالوا نفسد سبتنا علينا ، ونحدث فيه مالم يحدثه من كان قبلنا إلا من قد علمت فأصابهم مالم يخف عليك من المسخ.وهنا قال كعب:ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما.
وهنا وبعد ردهم للخصال الثلاث ، واشتداد حيرتهم ، وتعاظم مخاوفهم ، أنزلوا رجلا منهم هو شاس بن قيس ليفاوض رسول الله r في شأنهم ، فنزل وكلم الرسول عليه الصلاة والسلام وعرض عليه أن يعاملهم معاملة بني النضير بحيث يخرجون بأموالهم ونسائهم وأولادهم ، ويتركون السلاح ، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال شاس تحقن دماءنا وتعطينا النساء و الذرية ولا نأخذ من أموالنا شيئا ، فأبى الرسول عليه الصلاة والسلام إلا أن ينزلوا على حكمه ، فعاد شاس فأخبرهم بنتيجة المفاوضات وأنها في غير صالحهم.ولما لم يبق أمامهم سوى النزول على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا يتم بعد استشارة بعض حلفائهم من المسلمين وذلك لمعرفة ما الذي سينتظرهم إذا نزلوا على حكمه. يقول ابن هشام رحمه الله في السيرة:( ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم :أن ابعث إلينا أبا لبابة أخا بني عمر بن عوف ، وكانوا حلفاء الأوس ، لنستشيره في أمرنا ، فأرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم ، فلما رأوه قام إليه الرجال ، وجهش إليه النساء والصبيان فرق لهم ، وقالوا يا أبا لبابة: أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال نعم وأشار بيده إلى حلقه ، إنه الذبح. وعندها استدرك أبو لبابة الأمر وفطن أنه قال قولا عظيما ما كان ينبغي أن يقوله ، وكأن أبا لبابة قال ذلك لأنه فهم من عدم إجابة الرسولصلى الله عليه وسلم لهم بحقن دمائهم ، وعرف أن الرسول عليه الصلاة والسلام سيذبحهم إن نزلوا على حكمه .قال أبو لبابة:فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم انطلق على وجهه ، ولم يأت رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده ، وقال :لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله على مما صنعت ، وعاهد الله:أن لا أطأ بني قريظة أبدا ، ولا أرى في بلد خنت الله ورسوله فيه.يقول الإمام الطبري رحمه الله(لما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم خبره وأبطأ عليه وكان قد استبطأه قال أما لو جاءني لاستغفرت له فأما إذ فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه.)قال ابن هشام رحمه الله:( وأنزل الله في أبي لبابة ، فيما قال سفيان ابن عيينة عن اسماعيل ابن أبي خالد عن عبد الله ابن أبي قتادة: ( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون) سورة التوبة 27، وفي سحر الليلة السادسة من ارتباطه ، سمعت أم سلمة النبي صلى الله عليه وسلم يضحك فقالت له :مم تضحك يارسول الله ؟ أضحك الله سنك قال:” تيب على أبي لبابة” قالت أفلا أبشره يارسول الله؟ قال” بلى” فقامت على باب حجرتها ، وكان الحجاب لم يضرب بعد على نساء النبي والمؤمنين ، وقالت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك فثار الناس إليه ليطلقوه فقال: لا والله حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده فلما مر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه. قال ابن هشام:(أقام أبو لبابة مرتبطا بالجذع ست ليال ، تأتيه امرأته في كل وقت صلاة ، فتحله للصلاة ، ثم يعود ويرتبط بالجذع ، فيما حدثني بعض أهل العلم.)
وفي ليلة نزول بني قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم الله أربعة أنفار من اليهود فأسلموا ، ثلاثة منهم ليسوا من بني قريظة والرابع قرظي ، فغير القرظيين هم ثعلبة بن سعية ، وأسيد بن سعية ، وأسد بن عبيد ،والقرضي هو عمر بن سعدى القرظي، فإنه أبى أن يدخل مع قريظة في غدرها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال لا أغدر محمدا أبدا ، ومر في الليل بحرس رسول الله علي الصلاة والسلام الذي عليه محمد بن مسلمة ، فعرفه محمد بن مسلمة ، وقال اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام ، وخلى سبيله ، فذهب على وجهه حتى أتى مسجد رسول الله r فبات به تلك الليلة ، ثم ذهب فلم يدرى أين توجه من الأرض إلى يومنا هذا.ولما ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(ذاك رجل نجاه الله بوفائه)
ولما أصبح الصباح وأعلن عن نزول بني قريظة على حكم رسول الله r توافد رجال الأوس على رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وقالوا يارسول الله إنهم موالينا دون الخزرج ، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد فعلت – وهو أنه قد وهب بني قينقاع لابن أبي الخزرجي ، لما ألح عليه في ذلك شافعا فيهم بوصفهم مواليه أي أحلاف الخزرج_ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا بلى ، قال صلى الله عليه وسلم ( فذلك إلى سعد بن معاذ) وكان رسول الله عليه الصلاة والسلام قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم ، يقال لها رفيدة ، في مسجده ، كانت تداوي الجرحى ، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين ، وكان رسول اللهصلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصاب سعد بن معاذ السهم بالخندق:اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب.فلما حكمه الرسول عليه الصلاة والسلام في بني قريظة ، أتاه قومه فحملوه على حمار قد وطئوا له بوسادة من أدم ، وكان رجلا جسيما جميلا ، ثم أقبلوا معه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهم يقولون يا أبا عمرو ، أحسن في مواليك ، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم ، فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم،فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني الأشهل ، فنعى لهم رجال من بني قريظة ، قبل أن يصل إليهم سعد ، عن كلمته التي سمعوا منه.فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام:قوموا إلى سيدكم – فأما المهاجرون من قريش ، فيقولون إنما أراد الرسول عليه الصلاة والسلام الأنصار ، وأما الأنصار ، فيقولون قد عم بها الرسول عليه الصلاة والسلام – فقاموا إليه ، فقالوا:يا أبا عمرو ، إن الرسولصلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم ، فقال سعد بن معاذ:عليكم بذلك عهد الله وميثاقه ، أن الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا :نعم قال وعلى من هاهنا؟ في الناحية التي فيها رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وهو معرض عن رسول الله عليه الصلاة والسلام إجلالا له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :نعم ، قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال ، وتقسم الأموال ، وتسبى الذراري والنساء. فقال رسول الله r لسعد:لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة. وعند البخاري ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (فقال تقتل مقاتلتهم وتسبي ذراريهم قال قضيت بحكم الله وربما قال بحكم الملك ) .
قلت وكان حكم سعد بن معاذ في غاية العدل والإنصاف ولا سيما أنه وافق حكم الله عز وجل فيهم ، فهم ليسوا أهلا للشفقة والرحمة وهم أهل غدر وخيانة وسوء طوية ، وتعاون مع الكفر وأهله على الإسلام وأهله ، وقد بيتوا الحرب على المؤمنين وجمعوا لها من السيوف والرماح وغيرها الشيء الكثير وجدت في بيوتهم بعد حكم الله فيهم وأسر الرسول r لهم .
وبعد ما حكم سعد بن معاذ فيهم ، وكانوا حينئذ في حصونهم ، أبو النزول على الحكم ، فصاح علي بن أبي طالب t قائلا ، يا كتيبة الإيمان ، وتقدم هو والزبير بن العوام ، وقال :والله لأذوقن ما ذاق حمزة ، أو لأفتحن حصنهم ، فقالوا: يا محمد ، ننزل على حكم سعد بن معاذ.
قال ابن هشام:ثم استنزلوا ، واقتيدوا إلى المدينة ، فحبسوا في دار بنت الحارث ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة ، فخندق بها خنادق ، ثم بعث إليهم ، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق ، يخرج بهم إليه أرسالا وفيهم عدو الله حيى ين أخطب ، وكعب بن أسد ، رأس القوم ، وهم ستمائة أو سبعمائة ، وقد قالوا لكعب بن أسد ، وهم يذهب بهم إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام أرسالا:يا كعب ما تراه يصنع بنا؟ قال أفي كل موطن لا تعقلون؟ألا ترون الداعي لا ينزع ، وأنه من ذهب به منكم لا يرجع؟ هو والله القتل! فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .ثم أتي بعدو الله حيى بن أخطب وعليه حلة فقاحيةقد شقها من كل ناحية قدر أنملة ، حتى لا ينتفع بها أحد من المسلمين ، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل ، فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: والله ما لمت نفسي في عداوتك ، ولكنه من يخذل الله يخذل ، ثم أقبل على الناس ، فقال أيها الناس: إنه لا بأس بأمر الله ، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل ، ثم جلس فضربت عنقه. وكان قد أمر عليه الصلاة والسلام ، بقتل من أنبت واحتلم من ذكران بني قريظة ، وترك من لم ينبت ، فكان ممن لم ينبت عطية القرظي ، فترك حيا وأسلم وله صحبة.
القرظية العجب: تروي لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قصة المرأة القرظية ، فتقول:لم يقتل من نساء بني قريظة إلا امرأة واحدة إنها والله عندي تتحدث معي وتضحك وتتقلب ظهرا لبطن من الضحك ، ورسول اللهصلى الله عليه وسلم يقتل رجالها في السوق ، إذ هتف هاتف باسمها : أين فلانة؟قالت:أنا والله ، فقلت لها ويلك مالك؟ قالت: أقتل. قلت:ولم؟ قالت: بحدث أحدثته ، فانطلق بها فضرب عنقها.فكانت عائشة تقول:والله ما أنسى عجبا منها طيب نفسها وكثرة ضحكها ، وقد عرفت أنها تقتل.
وقرظي أعجب: هذا القرظي الأعجب حالا من القرظية العجب هو الزبير بن باطا أحد أعيان بني قريظة.وكان هذا الرجل قد من على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية ، وذلك في حرب بعاث ، إذ قد جز ناصيته وخلى سبيله ، فجاء ثابت وهو شيخ كبير فقال يا أبا عبدالرحمن هل تعرفني؟ قال وهل يجهل مثلي مثلك؟ قال إني أردت أن أجزيك بيدك عندي ، قال الزبير :إن الكريم يجزي الكريم.ثم أتى ثابت النبي r قال: يا رسول الله إنه قد كان للزبير بن باطا على منة ، وقد أحببت أن أجزيه بها فهب لي دمه.فقال النبي عليه الصلاة والسلام(هو لك) فأتاه فقال له:إن رسول الله r قد وهب لي دمك فهو لك ، فقال الزبير:شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة؟ فأتى ثابت رسول الله r فقال بأبي أنت وأمي يا رسول الله هب لي امرأته وولده ، قال (هم لك)، فأتاه فقال له قد وهب لي رسول الله r أهلك وولدك فهم لك ، فقال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك؟فأتى ثابت رسول اللهr فقال يا رسول الله ماله ، قال(هو لك) فأتاه ثابت فقال له قد أعطاني رسول الله عليه الصلاة والسلام مالك فهو لك ‘ قال أي ثابت:ما فعل الذي كأن وجهه مرآة صينية يتراءى فيها عذارى الحي ، كعب بن أسد؟قال قتل .قال فما فعل سيد الحاضر والبادي حيى بن أخطب؟قال قتل.قال:فما فعل مقدمتنا إذا شددنا ، وحاميتنا إذا فررنا ، عزال بن سموأل؟ قال قتل. قال فما فعل المجلسان؟ يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة ، قال: ذهبوا قتلوا.قال: فإني أسألك يا ثابت بيدي عندك إلا ألحقتني بالقوم ، فو الله ما في العيش بعد هؤلاء من خير ، فما أنا بصابر لله فتلة دلو ناضح حتى ألقى الأحبة ، فقدمه ثابت فضرب عنقه.
فلما بلغ أبا بكر الصديق قوله( ألقى الأحبة)قال: يلقاهم والله في نار جهنم خالدا فيها مخلدا. قال ابن إسحاق: وجاءت سلمى بنت قيس ، أم المنذر ، أخت سليط ابن قيس – وكانت إحدى خالات النبي صلى الله عليه وسلم ، قد صلت معه القبلتين ، وبايعته بيعة النساء – فقالت يا نبي الله بأبي أنت وأمي ، هب لي رفاعة (أي رفاعة بن سموأل القرظي الذي بقي ولم يقتل من ذكران بني قريظة ، وكان قد التجأ إليها) فإنه زعم أنه سيصلي ويأكل لحم الجمل ، قال:فوهبه لها فاستحيته .
وبناء على حكم سعد بن معاذ الذي وافق فيه حكم الله تعالى ورضيه رسوله صلى الله عليه وسلم قسم الرسول عليه الصلاة والسلام أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين ، فأعطى الفارس ثلاثة أسهم ، وللراجل سهم ، بعد أخذ الخمس الذي هو لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، وعلى هذا مضت السنة في تقسيم الغنائم ، إلا أن بعض أئمة الفقه يرون أن الفارس يعطى سهمين ، والراجل يعطى سهما واحدا ، وهذه الرسالة ليست مجالا لبحثه من الناحية الفقهية ووجه الاختلاف فيه لأن مجالها مجالا دعويا.ثم بعث عليه الصلاة والسلام سعد بن زيد الأنصاري أخا بني عبد الأشهل بسبايا من بعض سبايا بني قريظة إلى نجد ، فابتاع لهم بها خيلا وسلاحا. قال بن إسحاق:في قصة إسلام ريحانة الحبيب عليه الصلاة والسلام :(وكان رسول الله قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خناقة إحدى نساء بني عمرو بن قريظة ، فكانت عند رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى توفي عنها وهي في ملكه ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض عليها أن يتزوجها ويضرب عليه الحجاب ، فقالت يا رسول الله:بل تتركني في ملكك فهو أخف على وعليك فتركها ، وقد كانت حين سباها قد تعصت بالإسلام ، وأبت إلا اليهودية ، فعزلها رسول الله عليه الصلاة والسلام ، ووجد في نفسه لذلك من أمرها ، فبينما هو مع أصحابه ، إذ سمع وقع نعلين خلفه ، فقال إن هذا لثعلبة بن سعية يبشرني بإسلام ريحانة ، فجاءه فقال يا رسول الله قد أسلمت ريحانة ، فسره ذلك من أمرها)
وفاة سعد بن معاذ رضي الله عنه: بعد أن حكم سعد بن معاذ في بني قريظة الذي وافق حكمه حكم الله ورضا رسوله عليه الصلاة والسلام ، عادوا به إلى خيمة رفيدة الأسلمية بالمسجد النبوي ، وكان قد دعا الله بقوله ” ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة” ، ولما تم أمر بني قريظة ، أجيبت دعوة الرجل الصالح سعد بن معاذ رضي الله عنه وانتقض جرحه .قالت عائشة رضي الله عنها:فانفجرت من لبته فلم يرعهم – وفي المسجد خيمة بني غفار – إلا والدم يسيل إليهم ، فقالوا يا أهل الخيمة ، ما هذا يأتينا من قبلكم ، فإذا سعد يغذوا جرحه دما ، فمات منها. وفي الصحيحين عن جابر أن رسول الله r قال:( اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ) وفي حديث أنس رضي الله عنه قال:لما حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون: ما أخف جنازته.فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم 🙁 إن الملائكة كانت تحمله).
قال ابن إسحاق: وانزل الله في تعالى في أمر الخندق وأمر بني قريظة من القرآن ، القصة في الأحزاب وما نزل فيها من البلاء ، ونعمته عليهم ، وكفايته إياهم ، حين فرج عنهم ، بعد مقالة من قال من أهل النفاق(يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنودٌ فأرسلنا عليهم ريحاً وجنواً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا) والجنود قريش وغطفان وبنو قريظة . (إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا) فالذين جاءوهم من فوقهم بنو قريظة ، والذين جاءوهم من أسفل منهم قريش وغطفان. (هنالك أبتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديدا) أي قريشا وغطفان. (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويًا عزيزًا} أي بني قريظة أنزلهم من الحصون والآطام التي كانوا فيها.
وبهذا تنتهي أحداث هذه الغزوة المباركة التي نصر الله فيها أهل الحق والإيمان على أهل الكفر والنفاق والخذلان. ومكن للدين وأهله في هذه البقعة المباركة التي شع منها النور والهدى والخير إلى جميع أصقاع الأرض ، وخلفت هذه الغزوة المباركة من الفوائد والدروس والعبر الشيء الكثير وهو ما سيتم الكلام عنه بحول الله بعد هذه الأحداث ، لتكون منارات إشعاع يهتدي بها الداعية إلى الله في طريق دعوته ، لبيان أن هذا الدين العظيم ما جاء إلا هداية للبشرية ، وسعادة ونجاة لها في الدنيا والآخرة.