النتائج والفوائد والعبر من خلال غزوة بني قريظة….. د. ناجي بن وقدان

الأمة الإسلامية تتعلم من مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم الآداب الرفيعة ، والأخلاق الفاضلة ، والعقائد السليمة ، والعبادات الصحيحة ، وسمو الأخلاق ، وطهارة القلب ، وحب الجهاد في سبيل الله ، والدعوة إلى دينة وشريعته ، وطلب الشهادة في سبيله ولذلك قال علي بن الحسن«كنا نُعلّم مغازي النبيصلى الله عليه وسلم كما نعلّم السورة من القرآن »   .وإن المتفحص بإنصاف ودقة للعشر السنوات التي قضاها عليه الصلاة والسلام بعد الهجرة مجاهدا في سبيل الله لرفع راية التوحيد ، وداعيا إلى دين الله ، وإقامة دعائم هذا الدين ،ليجد أنه لم يكن همه عليه الصلاة والسلام الدنيا ومتعها الزائلة ، بل كانت غايته أسمى الغايات وهي تثبيت دعائم التوحيد ، وإزالة معالم الشرك والوثنية ، بالدعوة الصحيحة ، والمنهج السليم ، وأن لا يعبد إلا الله عز وجل ، ونشر العدل ، وعودة الجاهل إلى الحق ، وأن تجتمع الأمة ، وينتظم أمر الجماعة على بينة من الفضائل ، بعد أن طغت عليهم غشاوة من الرذائل ، وأن يوحدهم بعد أن كانوا شعوبا وقبائل متفرقين ، يسودهم الصراع والتقاتل على أتفه الأمور. ولهذا كان لغزواته من النتائج والفوائد والعبر ما يفوق الحصر ، مما كان له الأثر الكبير في ربط الأمة بدينها ، وثقتها بنصر ربها عز وجل ، وفي هذا المبحث سأتعرض للكلام عن هذه الفوائد والعبر بشكل موسع لاستيضاح معالمها ، واكتشاف مكامنها ، لتنير الطريق أمام الدعاة إلى الله للإفادة منها في دعوتهم للناس ، والسير على نهجها ، ولا سيما أنها نتاج لكفاح طويل ، خاض غماره سيد الثقلين عليه الصلاة والسلام مع أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين،ومن هذه النتائج والفوائد والعبر ما يلي:

أولا: جواز قتالِ مَن نقض العهد: وقد جعل الإمام مسلم- رحمه الله- هذا الحكم بابا أسماه باب”جواز قتال من نقض العهد”، فالصلح والمعاهدة والاستئمان بين المسلمين وغيرهم، كل ذلك ينبغي احترامه على المسلمين ما لم ينقض الآخرون العهد أو الصلح أو الأمان، وحينئذ يجوز للمسلمين قتالهم إن رأوا المصلحة في ذلك ولا زالت الدول تحكم بقتل الخونة الذين يتواطؤون مع الأعداء حتى زماننا هذا. فالغدر والخيانة من أحط الصفات وأسوا الأخلاق ولا تسود الخيانة في الناس إلا انتشر فيهم الخوف فلا يأمن بعضهم بعضا ولذا جاءت شريعة الله تعالى آمرة بالأمانة والوفاء ناهية عن الغدر والخيانة كما قال تعالى آمرا بالوفاء بالعهود والمواثيق{ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} المائدة 1 وقال عز وجل ناهيا عن الغدر والخيانة {ياأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} الأنفال 27 وقال عز وجل {إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما} النساء 107 ولذلك كانت  العقوبة في حق بني قريظة عادلة ، وكانوا أهلا لاستحقاقها بما اقترفوه من غدر وخيانة وفي أحلك الظروف وأضيق السبل التي يواجهها النبي عليه الصلاة والسلام في مواجهة الأعداء من كفار قريش وغطفان يقول ابن القيم رحمه الله:(وأما قريظة فكانت أشد اليهود عداوة لرسول اللهr وأغلظهم كفرا ولذلك جرى عليهم ما لم يجري على إخوانهم) .والغدر والخيانة والمكر من أخبث الفعال التي تحيط بأصحابها ، وتعود وبالا عليهم ، فالمكر السيء لا يحيق إلا بأهله ، والنوايا الخبيثة لا توقع إلا بأصحابها كما قال عز وجل {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عضيما} الفتح 10 وقال عز وجل{إستكبارا في الأرض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله} فاطر 43 فاليهود موصوفون عبر التاريخ بصفات الغدر والخيانة ونقض العهود والمواثيق ، وإن الناظر إلى أحوالهم في زمننا الحاضر يرى ويدرك مدى انطباعهم بهذه الصفات ، وما يحصل لإخواننا في فلسطين أكبر شاهد على نقض العهود، واليهود لا تنفع معهم العهود والمواثيق والاتفاقيات ، لسان حالهم ومقالهم هو أنه لا يوجد وعود مقدَّسة وكثيرا ما اكتوى العرب والمسلمون بلظى نقضهم لما اتفق عليه من خلال المفاوضات والاجتماعات كما قال الله عز وجل {أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون} البقرة 100، ولعله من المناسب هنا أن أورد بعضا من صفاتهم الذميمة التي عرفوا بها عبر تاريخهم المشين إيجازا واختصارا لتوقي الإطالة ومن هذه الصفات:

1) معرفة الحق وكتمانه والتواصي بينهم على ذلك ، كما أوضح الله ذلك لنا في سورة الفاتحة في قوله تعالى {غير المغضوب} الفاتحة 6 قال ابن كثير رحمه الله:( هم اليهود الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحق فعدلوا عنه)،  وكانوا يقرون بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، ويجدونه عندهم في التوراة ، ولكنهم يقولون إنه إلى العرب خاصة وليس إلى الأمة كافة ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا : لا تحدثوا العرب بهذا(أي بإقراركم بأنه نبي حق)فإنكم كنتم تستفتحون به عليهم فكان منهم ، ولذلك قال الله تعالى كاشفا خفاياهم ، وما ينطوون عليه من كتمان الحق {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون} البقرة 76.

2) البخل الشديد و هذه صفة خبيثة إذا اتصف بها الإنسان اكتسب مقت الناس واحتقارهم ، فالبخل صفة لا يحبها الله ولا رسوله ولا يحبها الناس ، فالبخيل بعيد عن الله ، بعيد عن الناس ، وهذه الصفة المذمومة ملازمة لليهود منذ القدم قال الله تبارك وتعالى واصفا حالهم {أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا} النساء 53،  قال ابن كثير رحمه الله (هذا استفهام استنكاري ، أي ليس لهم نصيب من الملك ، ثم وصفهم بالبخل فقال:فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ، أي لأنهم لو كان لهم نصيب من الملك والتصرف لما أعطوا أحدا من الناس ولا سيما محمد r شيئا ، ولا ما يملأ النقير وهو النقطة التي في النواة ، وهذا في قول ابن عباس رضي الله عنهما و الأكثرين.).

3) أكل أموال الناس بغير حق من ربا واحتيال وخداع بشتى صوره، واليهود هم سادة العالم في ذلك ، وقد كشف الله سترهم ، وفضح أمرهم فقال تعالى {وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون} المائدة 62، ومنه قوله تعالى {وأخذهم الربا وقد نهو عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما} النساء 161.

4) جبنهم الشديد ، فهم أحرص الناس على البقاء في الحياة ولو كان الثمن في ذلك الذلة والصغار ، لباسهم الجبن عند اللقاء ، فلا يقاتلون إلا من وراء ستار أو جدار أو ملاذ محصن ، يود الواحد منهم لو يبقى في الحياة مئات السنين ، ولهذا عندما حاصرهم النبي عليه الصلاة والسلام ، ورأوا أن الأمر جد لا هزل أذعنوا واستسلموا ، ونزلوا على حكم سعد بن معاذرضي الله عنه وقد أخبرنا الله بحالهم في قوله عز وجل  {لا يقاتلونكم إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى بأنهم قوم لا يفقهون} الحشر 14.

5) تحريفهم الكلم عن مواضعه ، ويأولون كلام الله على غير تأويله ومراده ، قصدا منهم وافتراء على الله كما أخبر الله عنهم بقوله سبحانه  {من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا}النساء 46 ، فالتناقض في كلامهم وأفعالهم سمة ملازمة لهم في كل زمان ومكان.

6) الإفساد في الأرض، ولهذا فهم في جميع استطلاعات الرأي أكثر الشعوب في العالم إثارة للمشاكل والقلاقل وإثارة الحروب والإيقاع بين الشعوب كما قال عز وجل {كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين }المائدة 64.

7) قتلة الأنبياء والرسل والعلماء والدعاة ، {إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس} آل عمران 21.

ثانيا: جواز التحكيم في أمور المسلمين ومهامهم: قال النووي- رحمه الله-: (فيه جواز التحكيم في أمور المسلمين وفي مهامهم العظام والرجوع في ذلك إلى حكم مسلم عادل صالح الحكم، وقد أجمع العلماء عليه في شأن الخوارج، فإنهم أنكروا على علي التحكيم، وإقام الحجة عليهم، وفيه جواز مصالحة أهل قرية أو حصن على حكم حاكم مسلم عادل صالح للحكم أمين على هذا الأمر، وعليه الحكم بما فيه مصلحة المسلمين، وإذا حكم بشيء لزم حكمه، ولا يجوز للإمام ولا لهم الرجوع، ولهم الرجوع قبل الحكم.) قلت: ولهذا كان إسناد التحكيم في بني قريظة إلى سعد بن معاذرضي الله عنه ، كونه من الأوس وهم حلفاء لبني قريظة ، وسيرضون ويسلمون بحكمه ، دليل على جوازه حيثما لزم الاحتياج إليه ويتولاه من هو معروف بالعدالة والأمانة من المسلمين.كما أنه يجوز لولي الأمر إذا رأى المصلحة في المعاهدة مع غير المسلمين إبرامها وأن ذلك لا يعتبر من تولي الكافرين.

ثالثا: تأكد اليهود من نبوة محمدصلى الله عليه وسلم: لقد رَأيتُ من مجرى كلام كعب بن أسد مع إخوانه اليهود أنهم كانوا على يقين من نبوة محمدr  وعلى اطلاع تام على ما أثبتته التوراة من الحديثِ عنه وعن علاماته وبعثته، ولكنهم كانوا عبيدا لعصبيتهم وتكبرهم، وذلك هو سبب الكفر عند كثير ممن يتظاهر بعدم الإيمان والفهم، وذلك هو الدليل البين على أن الإسلام في عقيدته وعامة أحكامه إنما هو دين الفطرة البشرية الصافية، ينسجم في عقيدته مع العقل وينسجم في تشريعاته وأحكامه مع حاجات الإنسان ومصالحه، فلن تجد من عاقل سمع باسم الإسلام وألم بحقيقته وجوهره ثم كفر به كفرا عقليا صادقا، إنما هو أحد شيئين، إما أنه لم يسمع بالإسلام على حقيقته وإنما قيل له عنه كلام زائف باطل، وإما أنه وقف على حقيقته واطلع على جوهره، فهو يأباه إباء نفسيا لحقد على المسلمين أو غرض أو هوى يخشى فواته ، ولهذا أخبرنا الله في القرآن أن خبر نبوة وبعثة نبينا عليه الصلاة والسلام قد جاءت في التوراة والإنجيل فقال عز وجل{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} الصف 6،  { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} الأعراف 157.

 رابعا: حكم القيام إكراما للقادم: أمرَ النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار حينما أقبل نحوهم سعد بن معاذ راكبا دابته أن يقوموا إليه تكريما له، ودل على هذا التعليل قوله: لسيدكم أو خيركم، وقد استدل عامة العلماء بهذا وغيره على مشروعية إكرام الصالحين والعلماء بالقيام إليهم في المناسبات الداعية إلى ذلك عرفا. يقول الإمام النووي رحمه الله في تعليقٍ على هذا الحديث:( فيه إكرام أهل الفضل وتلقيهم بالقيام لهم إذا أقبلوا.. هكذا احتج به جماهير العلماء لاستحباب القيام، قال القاضي: وليس هذا من القيام المنهي عنه، وإنما ذلك فيمن يقومون إليه وهو جالس ويمثلون قياما طول جلوسه.. قلت: القيام للقادم من أهل الفضل مستحب، وقد جاء فيه أحاديث ولم يصح في النهي عنه شيء صريح.) .

خامسا: علو شأن وقدر سعد بن معاذ: حبا الله الصحابي الجليل سعد بن معاذ t بمزايا عديدة رفعت من شأنه ومرتبته عند الله عز وجل وعند رسوله عليه الصلاة والسلام وعند العباد يذكر بها في كل مناسبة ودرس وخطبة يتعرض فيها لسيرتهرضي الله عنه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وأصبح بها متميزا عن سائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، كيف لا وهو الذي اهتز لموته عرش الرحمن ، وفتحت له أبواب السماء ، وشيعته الملائكة الكرام ،  ومن هذه المزايا:

أولا: إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم  له صلاحية الحكم بما يشاء على بني قريظة، وجعل موقفه منه- وهو رسول الله عليه الصلاة والسلام موقف الموافق والمؤيد لكل ما سيحكم به ، فوافق حكمه حكم الله من فوق سبع سماوات ، وقابل الجميع هذا الحكم بالرضا والتسليم.

ثانيا: أمر النبي صلى الله عليه وسلم  للأنصار بالقيام إليه حينما أقبل إليهم، وتلك مزية كبرى لسعد حينما يكون هذا الأمر صادرًا من رسول الله عليه الصلاة والسلام.

ثالثا:استجابة الله عز وجل لدعائه ونجد ذلك في قصة الجرح الذي كان قد أصابه في كاحله في غزوة الخندق، لقد رفع يديه يدعو الله تعالى يوم أن أصابه هذا الجرح قائلاً: “اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلي أن أجاهدهم فيك، من قوم كذبوا رسولك صلى الله عليه وسلم وأخرجوه، اللهم فإن بقي من حرب قريش شيء فأبقني له حتى أُجاهدهم فيك”، وقد استُجيب دعاء سعد فتحجر جرحه وتماثل للشفاء، حتى كانت غزوة بني قريظة، وجعل رسول الله- عليه الصلاة والسلام- الحكم فيهم إليه، وكفى الله المؤمنين شر اليهود، وتطهرت المدينة من أرجاسهم، رفع سعد يدعو الله ثانية يقول: “اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم (يعني قريشا والمشركين) فإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها واجعل موتي فيها” وقد استجيب دعاؤه فانفجر جرحه تلك الليلة ومات رحمه الله تعالى ورضي عنه. قال ابن حجر في الفتح: “والذي يظهر لي أن ظن سعد كان مصيبا وأن دعاءه في هذه القصة كان مُجابا، وذلك أنه لم يقع بين المسلمين وبين قريش من بعد وقعة الخندق حرب يكون ابتداء القصد فيها من المشركين، فإنه صلى الله عليه وسلم تجهز إلى العمرة فصدوه عن دخول مكة، وكادت الحرب أن تقع بينهم فلم تقع كما قال تعالى {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا } الفتح 24 ، ثم وقعت الهدنة، واعتمر رسول الله r  من قابل، واستمر ذلك إلى أن نقضوا العهد، فتوجه إليهم غازيا ففتحت مكة. وقد قال رسول الله r في منصرفه عن غزوةِ الأحزاب، فيما رواه البخاري:(الآن نغزوهم وهم لا يغزوننا، نحن نسير إليهم).

رابعا:اهتزاز العرش لموته ، وهذه منقبة عظيمة من مناقب سعد بن معاذt ، فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ” ، يهتز هذا العرش بكل مافيه من جبروت وعظمه لماذا ؟ فرحا بموت سعد بن معاذ يقول الإمام الذهبي رحمه الله: ” وقد تواتر قول النبي صلى الله عليه وسلم أن العرش اهتز فرحا لموت سعد “

خامسا: فتحت له أبواب السماء ، وشيعته الملائكة الكرام ، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول اللهr قال:” هذا العبد الصالح ، الذي تحرك له العرش وفتحت له أبواب السماء ، وشهده سبعون ألفا من الملائكة لقد ضم ضمة ثم فرج عنه”،وهذا إكرام من الله تعالى لهذا الصحابي الجليل ، الذي قضى عمره نصرة للإسلام والمسلمين.

 سادسا:تجليات الكرم والحلم والحزم المحمدي في غزوة بني قريظة ، يرى ويلمس ذلك كل من استعرض أحداث الغزوة ووقائعها ، ومن ذلك تحريه عليه الصلاة والسلام للعدل والإصابة في ما نقل إليه من خبر نقض بني قريظة للعهد والميثاق الذي كان قد أبرمه معهم عندما دخل المدينة مهاجرا ، وهذا من شمائله أنه يتحرى الصدق ويتحقق من الأمر قبل الحكم مبتعدا عن إلصاق التهم دون تروي وتيقن ، وإن كان اليهود يصدق عليهم ما ينقل عنهم من نقض العهود وخيانة المواثيق والأعراف إلا أنه عليه الصلاة والسلام يعطي أمته وخصوصا الدعاة منهم إلى الله درسا عمليا في عدم التسرع عند سماع الأخبار وأن الواجب التريث والتثبت من الحقائق ، كيف لا وهو الذي وصفه الله بأنه على خلق عظيم ، وهذا الخلق العظيم هو خلق القرآن الكريم ، الذي أمر الله فيه بالتثبت والتبين كما قال عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} الحجرات 6  ، وهل أوقع كثير من أمة الإسلام ودعاتها في كثير من المشكلات والخصومات إلا سماع الأخبار الكاذبة والحكم مباشرة وعدم التريث والتبين مع أن الله قد أرشدها ، والرسول صلى الله عليه وسلم هو قدوتها ، حتى مع أعداء الملة والدين الذين تصدق في حقهم الأخبار ، إلا أنه عليه الصلاة والسلام يتبين ويتريث ويرسل من يتحقق من الخبر حتى يحكم عن يقين ودراية ، ولتكون سنة وهديا لأمته من بعده. وهذا شأن كل داعية إلى الله ، أن يتصف بهذه الصفة النبيلة والخلة الكريمة ، حتى لا تتلوث دعوته إلى الله بزيف الأخبار ، وكذب الأنباء. ومن كرمه وحسن خلقه عليه الصلاة والسلام التزامه ووفائه بالعهد مع اليهود وهم أعداء الله وأعداء عباده المؤمنين ، ولم ينقض ما بينه وبينهم حتى بدأوا بالنقض والخيانة وعندها لم يبق لهم عهد ولا ميثاق ، بل استئصال شوكتهم وتطهير المدينة من رجسهم.ومن حزمه عليه الصلاة والسلام العزم على إيقاع العقوبة ببني قريظة إزاء الخيانة ونقض العهد ومعاونة الكفار والمشركين على المؤمنين ، فمن هذه أحوالهم وأخلاقهم فلا علاج لهم سوى السيف وتطهير الأرض من رجسهم.ومن ذلك أيضا حزمه r في الرد عليهم عندما عرضوا عليه عرضهم الأول بأن يعاملهم معاملة بني النضير بحيث يخرجون بأموالهم ونساءهم وأولادهم ، ويتركون السلاح ، أو يحقن دماءهم ويعطيهم نساءهم وأولادهم ويتركون أموالهم وسلاحهم ، فكان رده الرفض والحزم والتصميم على نزولهم على حكمه ، ويتبين لنا من هديه عليه الصلاة والسلام الحزم في موضعه واللين في موضعه وهذا من حكمته التي أودعها الله في صدره وقلبه.ويتبين لنا اللين في هديه وخلقه مع الأعداء وذلك من خلال العرض الثاني الذي عرضوا عليه فيه أن يرسل لهم أبا لبابة tليستشيروه في النزول على الحكم فأجابهم إليه وأرسله إليهم.ومن كرمه وطيب خلقه عليه الصلاة والسلام فرحته بتوبة الله على أبي لبابة ، وهذا فن عظيم من فنون الدعوة إلى الله ، أن يتحلى الداعية بحبه الخير للناس فيفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم ، ويعيشهم ظروفهم وأحوالهم حال السراء والضراء فيكون لدعوته صدى واثر فعال في حياتهم.ومن كرمه وحلمه عليه الصلاة والسلام وطيب معشره إكرامه لأهل الفضل والخير والدعوة والبذل في سبيل الله ، حين أكرم الصحابي الجليل سعد بن معاذ t بأمره للناس بالقيام له احتراما وتقديرا لأهل العلم والدعوة والفضل ، وحين أسند إليه التحكيم في شأن بني قريظة وهذه خلة عظيمة ، وخلق جم يتخلق به الداعية إلى الله في تقدير أهل العلم والفضل وتكريمهم ولا سيما علماء الشرع و الدعاة إلى الله عز وجل فهم ورثة الأنبياء والموقعون عن الله عز وجل.ومن حلمه وجوده عليه الصلاة والسلام ما من به على الصحابي الجليل ثابت بن قيس حينما تردد عليه مرارا ليهبه الزبير بن باطا اليهودي وماله وأهله في يد سابقة له عليه ، فأعطاه كل ذلك ، ومن هذا الخلق النبيل يستقي الداعية إلى الله في فعل المعروف ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، ففيه استمالة القلوب ومحبتها للداعي وما يدعوا إليه ، والنفوس مجبولة على محبة من أحسن إليها ، والدعاة إلى الله أولى بهذا الخلق النبيل لعظم ما يحملونه من النور إلى الناس.ومن كرمه وحلمه r عدالته في تقسيم أموال بني قريظة ونسائهم وأبناءهم على المسلمين ، فأعطى وأكرم وعدل بنور من الله وإلهام.ومن ذلك أيضا فرحته العظيمة بإسلام ريحانة من بني عمرو بن قريظة التي اصطفاها عليه الصلاة والسلام قبل قسمة السبايا ، وأرادها زوجة ويضرب عليها الحجاب فرفضت وطلبت منه أن يبقيها في ملكه فتركها ، وعرض عليها  الإسلام فأبت إلا اليهودية فعزلها ، فوجد في نفسه لذلك من أمرها ، فبينما هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال:(إن هذا لثعلبة بن سعية يبشرني بإسلام ريحانة) فجاء فقال يا رسول الله قد أسلمت ريحانة فسره الخبر وفرح لذلك فكانت عنده عليه الصلاة والسلام حتى توفي وهي في ملكه رضي الله عنها.

سابعا: بيان فضل الله على أبي لبابة رضي الله عنه في قبول توبته ، وفضل أبي لبابة في صدق لجوئه إلى الله عزوجل.فهذا الذنب والخطأ اقترن به من الخوف والحياء والمهابة والتعظيم، ما جعل صاحبه يفعل ذلك الفعل، فكانت التوبة من الله تبارك وتعالى عليه، وكان ذلك خيرا له فيما نرجو له عند الله سبحانه وتعالى، مما لو لم يفعل شيئاً من ذلك . وإن موطن العبرة في هذا الموقف تتجلى في تصرف أبي لبابة بعدما وقعت منه هذه الزلة التي أفشى بها سرا حربيا خطيرا ، فأبو لبابة لم يحاول التكتم على ما بدر منه والظهور أمام رسول الله عليه الصلاة والسلام والمسلمين بمظهر الرجل الذي أدى مهمته بنجاح ، وأنه لم يحصل منه شيء من المخالفات ، وكان بإمكانه أن يخفي هذا الأمر حيث لم يطلع عليه أحد من المسلمين ، وأن يستكتم اليهود أمره ، ولكنه تذكر رقابة الله وعلمه بما يسر ويعلن ، وتذكر حق رسول الله عليه الصلاة والسلام العظيم عليه وهو الذي ائتمنه على هذا السر ، ففزع لهذه الزلة فزعا عظيما ، وأقر بذنبه واعترف به وبادر إلى العقوبة الذاتية التلقائية ، دون انتظار توقيع وتحقيق العقوبة الواجبة ، إنها صورة تطبيقية لقوله تعالى {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } النساء 17.

ثامنا: التحقق من الأخبار عند سماعها وعدم التعجل في الاتهام والحكم ، فما أحوج الأمة عامة والدعاة إلى الله خاصة إلى التروي والتأني وعدم التعجل عند سماع الأخبار ، فما أكثر ما يساق من الأخبار التي تتضح نهاية أنها أخبار غير صحيحة ، وقد يحصل بسببها من المشاكل الشيء الكثير ، بل وقد يذهب بسببها خلق كثير وتفقد الأمة عزتها ومكانتها ومدخراتها ، ولذلك كان نبينا عليه الصلاة والسلام قدوة حية في التأني والتروي عندما أتته أخبار نقض بني قريضة للعهد وتحالفها مع الأعداء ،وأرسل إليهم أربعة من أصحابه ليتأكدوا له من صحة الخبر فوجدوا الخبر صحيحاً وسمعوهم يقولون ( من محمد لا عهد بيننا وبينه ولاعقد). فالواجب التأكد من الأخبار ومن أصحابها ومصادرها الأصلية ،وخاصة في هذه الأزمان المتأخرة التي كثر فيها الهرج والمرج ، وقيل وقال والإرجاف في الأرض وكثرة النقل للأخبار التي لا تستند إلى مصدر صحيح موثق ، فربما يسمع الإنسان أن الشيخ الفلاني أو الجهة الفلانية أو جماعة معينة قالوا كذا وكذا أو أفتوا بكذا وكذا أو فعلوا كذا وكذا فهنا يجب أن نتأنى ولا نتسرع في الحكم والنقل بل نتأكد ونتبين ونسأل ونتحقق من صحة ما نقل إلينا ، وقد أرشدنا الله عز وجل وبين لنا السبل الكفيلة بسلامتنا وسلامة ديننا وعقيدتنا وأنفسنا وأرضنا ومدخراتنا فقال عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} الحجرات 6  ، وإن الناظر ومع الأسف الشديد إلى مجالس كثير من أفراد الأمة اليوم وجماعاتها ليجد العجب مما تتناقله هذه المجالس وتقضي به جل أوقاتها وتروح به عما اكتنفته نفوسها من زخم الحياة ومتاعبها من أخبار واهية ، إستجلبها أفرادها مما تتناقله الوسائل الحديثة كالشبكة العنكبوتية والإنترنت والجوال وغيرها ، وتحللها تحليلات فاسدة حسب ما تمليه عليها حظوظ النفس ، فيحصل بذلك من الغيبة والنميمة والإرجاف وإلصاق التهم وإصدار الأحكام ونشر الإشاعات وغير ذلك مما الله به عليم ، مما نتج عنه إفساد الأخوة الإيمانية ، وتفريق جمع الأمة ، وتأليب بعضها على بعض ، وضرب بعضها ببعض ، واشتغال بعضها ببعض ، مما أطمع الأعداء فيها وفي مدخراتها ، وجعلها مطمعا لتداعيات الأمم عليها ، والسبب في ذلك كله ما اكتنفته مجالسها ، وحصدته ألسنتها من النقل الكاذب والوهم الخاطئ.

تاسعا: أظهرت غزوة بني قريظة كغيرها من غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم محاسن الإسلام وأخلاقه ومثله العليا ، يتجلى ذلك  في أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقتل من يهود بني قريظة إلا الرجال وأما النساء والأطفال فلم يتعرض لهم بسوء ، وأما المرأة التي قتلها النبي عليه الصلاة والسلام وهي(نباتة) فلا علاقة لها بالأمر ، فإن قتلها إنما هو لجريمة قتل ارتكبتها إذ كانت قد طرحت الرحى عل خلاد بن سويد فقتلته ، فكان تنفيذ الحكم فيها قتل نفس بنفس وهذا حكم الله عز وجل.وهذه الأخلاق التي يحملها الإسلام للعالم لانجدها في أي دين غيره ، وما نشاهده اليوم في الحروب ليكشف لنا أخلاقيات العالم التي لا تحمل سوى القتل والإبادة ، ولا تفرق في ذلك بين صغير وكبير أو ذكر أو أنثى ، ولا ترعون أعراض ولا أعراف ، فشتان بين أخلاقيات الإسلام الذي جعله الله سلاما وعدلا وإنصافا حتى مع الأعداء وبين أخلاقيات الكفر التي لا تؤمن ولا تعترف إلا بالماديات البحتة ، ولا ترقب إلا مصالحها الخاصة ولو على حساب أمن وكرامات وأعراض الشعوب.والنبي صلى الله عليه وسلم  يضرب لنا أروع الأمثال في الاعتراض وعدم الرضا بالظلم والعدوان حال السلم وحال الحرب ، ويري العالم أجمع عدالة الإسلام وسماحته فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما) أن امرأة وجدت في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان(.

عاشرا: تطهير الجبهة الداخلية للمدينة من الخونة اليهود ، واطمئنان المسلمين وتخلصهم من جواسيس اليهود وسقوط آخر دعامة لمشركي العرب في المدينة، وقطع أملهم من إثارة القلاقل والفتن داخلياوتقوية بنية المسلمين المالية بواسطة غنائم هذه الغزوة و
فتح آفاق جديدة للانتصارات المستقبلية، وخاصة فتح خيبر وتثبيت مكانة الحكومة الإسلامية وهيبتها في نظر العدو والصديق، في داخل المدينة وخارجها.

الحادي عشر: إراحة الله للمسلمين من شر الجوار ، وقد كان عليه الصلاة والسلام يذكر أصحابه وأمته بالتعوذ بالله من جار السوء ، فعن أبي هريرةt قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  “تعوذوا بالله من جار السوء في دار المقام فإن جار البادية يتحول عنك”، فلقد كان بنو قريظة وغيرهم من اليهود أشر خلق الله جوارا ، وأخبثهم أسرارا ، فكانت إبادتهم قطعا لدابرهم وراحة للمدينة وأهلها من جوارهم ، يقول القاسمي: (وبتمام تلك الغزوة أراح الله المسلمين من شر مجاورة اليهود الذين تعودوا الغدر والخيانة، ولم يبق إلا بقية من كبارهم بخيبر مع أهلها، وهم الذي كانوا السبب في إثارة الأحزاب) ، ولذلك يحذر كثيرا من عواقب التهور والطيش التي لا يجني أهلها منها إلا الوبال والدمار ، وهذا ليس في الحروب والمعاهدات فحسب بل في أمور الحياة كلها ، قال بعض العلماء: (يا لله ما أسوأ عاقبة الطيش فقد تكون الأمة مرتاحة البال هادئة الخواطر، حتى تقوم جماعة من رؤسائها بعمل غدر يظنون من ورائه النجاح فيجلب عليهم الشرور ويشتتهم من ديارهم، وهذا ما حصل لليهود، لم يوفوا بتلك العهود حسدا منهم وبغيا، فتم عليهم ما تم، فإن الله لا يصلح أعمالهم { وكان الله على كل شيء قديرا} الأحزاب 27،أي وقد شاهدتم بعض مقدارته، فاعتبروا بغيرها) .

الثاني عشر: إحترام الإسلام لاختلاف وجهات النظر ما دامت عن اجتهاد سليم، والنبي عليه الصلاة والسلام قد أخبرنا أن كلا الأطراف المجتهدة على أجر وفضل ، فالمجتهد المصيب له أجران ، والمجتهد المخطئ له أجر لاجتهاده ، فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع رسول اللهr قال:”إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر” ، والناس غالبا أحد رجلين،رجل يقف عند حدود النصوص الظاهرة لا يعدوها، ورجل يتبين حكمتها ويستكشف غايتها، ثم يتصرف في نطاق ما وعى من حكمتها وغايتها ولو خالف الظاهر القريب،وهذا ظاهر من اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في فهم مراد الرسولr في قوله عليه الصلاة والسلام” لا يصلين أحدٌ العصر إلا في بني قريظة” ،فغربت الشمس قبل أن يأتوهم، فقالت طائفة من المسلمين: إن رسول اللهr لم يرد أن تدعوا الصلاة فصلوا، وقالت طائفة،والله إنا لفي عزيمة رسول الله وما علينا من إثم، فصلت طائفة إيمانا واحتسابا، وتركت طائفة إيمانا واحتسابا، ولم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلمأحدا من الفريقين، وكلا الفريقين يشفع له إيمانه واحتسابه، سواء أصاب الحق أو ند عنه  

الثالث عشر:أن مجازفة رؤساء القوم وتهورهم عن غير علم وبصيرة ونظرة للعواقب تكون مصدر وبال ودمار على أقوامهم ، يتكبدون معها كوارث ومصائب تصل إلى خسارة أرواحهم وأعمارهم ، وأمنهم ورغد عيشهم ، ودنياهم وآخرتهم ، وهذا ما حصل بالفعل لبني قريظة حينما سمعوا لزعيمهم البائد حيي بن أخطب ، ولو أنه وأضرابه سكنوا في جوار الإسلام، وعاشوا على ما أوتوا من مغانم، ما تعرضوا ولا تعرض قومهم لهذا القصاص الذي أودى بحياتهم ، ولكنهم دفعوا دماءهم ثمنا فادحا لأخطاء قادتهم ، والمفترض في قائد القوم النظر في العواقب وفي مصالح قومه بعيدا عن العته وحظوظ النفس ، ولذلك ينعى القرآن على أولئك الرؤساء مطامعهم ومطالبهم التي يحملها غيرهم قبلهم كما قال تعالى{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} إبراهيم 28، قال ابن كثير رحمه الله:(هم كفار مكة ، وفي الكفار عامة فإن الله تعالى بعث محمداr رحمة للعالمين ونعمة للناس فمن قبلها وقام بشكرها دخل الجنة ، ومن ردها وكفرها دخل النار) ولذلك نقم بنو قريظة نعمة الله عليهم بحسن الجوار ورحمة النبي عليه الصلاة والسلام ، وأطاعوا سادتهم وكبراءهم فأوردوهم المهالك ، وهذا شأن كل من حذى حذوهم واتبع طريقهم.

الرابع عشر: كشفت غزوة بني قريظة أحوال بني يهود وما جبلوا وطبعوا عليه من الخلال القبيحة ، فهم إذا أمِنوا سفهوا البشرية ، وإذا سنحت لهم فرصة على المؤمنين قتلوا وسفكوا الدماء ، وإذا خافوا اتقوا الشر بمديح الناس وذكرهم بالمثل العليا ليتخذوا منها نفسا    

واستعادة للقوى ثم النيل من العباد ، وأما نقض العهود فهي سمة وعلامة فارقة في حياتهم بين الشعوب.

كانت هذه بعض من الفوائد والنتائج والعبر في هذه الغزوة العظيمة التي قطع الله فيها دابر الكفر والشرك والنفاق وأهله ، ومكن الله لدولة الإسلام على يد المصطفى عليه الصلاة والسلام وأصحابه أولو الفضل والإحسان ، وبقيت المدينة النبوية منارة علم وأمن للبشرية التي تهوي إليها من شتى بقاع المعمورة ، وستبقى كذلك ما شاء الله أن تبقى تزخر بالعلم والأمن والإيمان لكل مسلم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *