شرح العقيدة الواسطية…. للشيخ محمد بن عثيمين

فكلام الله عز وجل لموسى كلام حقيقي ، بحرف وصوت سمعه ، ولهذا جرت بينهما محاورة؛ كما في سورة طه وغيرها.

 ) مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ) ( 1 ) وقوله )وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ) ( 2 ) )وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ) ( 3 )……………………………………..

( 1 )الآية السادسة: قوله: ( منهم من كلم الله ) {البقرة:253}.

( منهم )؛أي: من الرسل

( من كلم الله ): الاسم الكريم ( الله ) فاعل كلّم، ومفعولها محذوف يعود على ( من ) ، والتقدير: كلمه الله.

( 2 )الآية السابعة: قوله: وقوله: ( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ) .

{الأعراف:143}.

*أفادت هذه الآية أن الكلام يتعلق بمشيئته ، وذلك لأن الكلام صار حين المجيء. ، لا سابقاً عليه، فدل هذا على أن كلامه يتعلق بمشيئته. 

فيبطل به قول من قال: إن كلامه هو المعنى القائم بالنفس ، وإنه لا يتعلق بمشيئته؛ كما تقوه الأشاعرة.

وفي هذه الآية إبطال زعم من زعم أن موسى فقط هو الذي كلم الله ، وحرف قوله تعالى: ( وكلم الله موسى تكليم ) إلى نصب الاسم الكريم؛ لأنه في هذه الآية لا يمكنه زعم ذلك ولا تحريفها.

( 3 )الآية الثامنة: قوله: وقوله: ( وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ) .{مريم:52}.

 ( وناديناه ): ضمير الفاعل يعود إلى الله ، وضمير المفعول يعود إلى موسى؛ أي: نادى الله موسى.

( نجياً ): حال ، وهو فعيل بمعنى مفعول؛ أي: مناجي.

والفرق بين المناداة والمناجاة أن المناداة تكون للبعيد ، والمناجاة تكون للقريب وكلاهما كلام.

وكون الله عز وجل يتكلم مناداة ومناجاة داخل في قول السلف: “كيف شاء”.

فهذه الآية مما يدل على أن الله يتكلم كيف شاء مناداة كان الكلام أو مناجاة.

 )وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ( 1 ) ) وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ ) ( 2 )………..

( 1 )الآية التاسعة: قوله: ( وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين ) {الشعراء:10}.

( وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى )؛ يعني: واذكر إذ نادى.

والشاهد قوله: ( وإذ نادى ربك موسى ): فسر النداء بقوله: ( أن ائت القوم الظالمين ).

فالنداء يدل على أنه بصوت، و ( أن ائت القوم الظالمين ): يدل على أنه بحرف.

( 2 )الآية العاشرة: قوله: ( وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ) {الأعراف:22}.

( وناداهما ): ضمير المفعول يعود على آدم وحواء.

( ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ): يقرر أنه نهاهما عن تلكما الشجرة ، وهذا يدل على أن الله كلمهما من قبل، وأن كلام الله بصوت وحرف، ويدل على أنه يتعلق بمشيئته؛ لقوله: ( ألم أنهكما )؛ فإن هذا القول بعد النهي، فيكون متعلقاً بالمشيئة.

 )وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ) ( 1 )……………………………..

( 1 )الآية الحادية عشرة: قوله: ]ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين[ {القصص:65}.

يعني: واذكر يوم يناديهم، وذلك يوم القيامة ، والمنادي هو الله عز وجل:]فيقول[.

وفي هذه الآية إثبات الكلام من وجهين: النداء والقول.

وهذه الآيات تدل بمجموعها على أن الله يتكلم بكلام حقيقي، متى شاء ، بما شاء ، بحرف وصوت مسموع، لا يماثل أصوات المخلوقين.

وهذه هي العقيدة السلفية عقيدة أهل السنة والجماعة.

إثبات أن القرآن كلام الله تعالى

ذكر المؤلف رحمه الله الآيات الدالة على أن القرآن كلام الله. وهذه المسألة وقع فيها النزاع الكثير بين المعتزلة وأهل السنة ، وحصل بها شر كثير على أهل السنة ، وممن أوذي في الله في ذلك الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إمام أهل السنة، الذي قال فيه بعض العلماء: “إن الله سبحانه وتعالى حفظ الإسلام ( أو قال: نصره ) بأبي بكر يوم الردة، وبالإمام أحمد يوم المحنة”.

والمحنة: هو أن المأمون عفا الله عنا وعنه أجبر الناس على أن يقولوا بخلق القرآن ، حتى إنه صار يمتحن العلماء ويقتلهم إذا لم يجيبوا ، وأكثر العلماء رأوا أنهم في فسحة من الأمر، وصاروا يتأولون:

إما بأن الحال حال إكراه ، والمكره إذا قال الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان؛ فإنه معفو عنه.

وإما بتنزيل اللفظ على غير ظاهره؛ يتأولون، فيقولون مثلاً: القرآن والتوراة والإنجيل والزبور؛ هذه مخلوقة . وهو يتأول أصابعه.

أما الإمام أحمد ومحمد بن نوح [141] رحمهما؛ فأبيا ذلك، وقالا: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق . ورأيا أن الإكراه في هذا المقام لا يسوغ لهما أن يقولا خلاف الحق؛ لأن المقام مقام جهاد ، والإكراه يقتضي العفو إذا كانت المسألة شخصية؛ بمعنى أن تكون على الشخص نفسه، أما إذا كانت المسألة لحفظ شريعة الله؛ فالواجب أن يتبرع الإنسان برقبته لحفظ شريعة الله عز وجل فالواجب أن يتبرع الإنسان برقبته لفظ شريعة الله.

لو قال الإمام أحمد في ذلك الوقت: إن القرآن مخلوق ، ولو بتأويل أو لدفع الإكراه؛ لقال الناس كلهم: القرآن مخلوق! وحينئذ يتغير المجتمع الإسلامي من أجل دفع الإكراه، لكنه صمم ، فصارت العاقبة له، ولله الحمد.

المهم أن القول في القرآن جزء من القول في كلام الله على العموم ، لكن لما وقعت فيه المحنة، وصار محك النزاع بين المعتزلة وأهل السنة؛ صار الناس يفردون القول في القرآن بكلام خاص، والمؤلف رحمه الله من الآن ساق الآيات الدالة على أن القرآن كلام الله في آيات متعددة.

 )وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ) ( 1 )…………………………..

( 1 )الآية الأولى: قوله: ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ) {التوبة:6}.

( أحد ): هذه اسم ، و ( وإن ): أداة الشرط ، والاسم إذا ولي أداة الشرط؛ فقد ولي أداة لا يليها إلا الفعل، فاختلف النحويون في هذا: فقال بعضهم: إنه فاعل لفعل محذوف يفسره ما بعده ، وعليه يكون ]أحد[ فاعل لفعل محذوف ، والتقدير: وإن استجارك أحد من المشركين؛ فأجره، ومثلها: ]إذا السماء انشقت ( 1 ) [ الانشقاق: 1 ]؛ فـ  ( السماء ): فاعل لفعل محذوف ، والتقدير: إذا السماء انشقت .

القول الثاني: وهو قول الكوفيين وهم في الغالب أسهل من البصريين: أن ( أحد ) فاعل مقدم، والفعل استجارك مؤخر ، ولا حاجة للتقدير.

القول الثالث: أن ورود الأسماء بعد أدوات الشرط في القرآن كثيراً يدل على عدم امتناعه، وعلى هذا القول يكون الإسم الواقع بعد أداة الشرط مبتدأ إذا كان مرفوعاً، فيكون ( أحد ): مبتدأ ، و ( استجارك ): خبر المبتدأ.

والقاعدة عندي أن ما كان أسهل من أقوال النحويين؛ فهو المتبع، حيث لا مانع شرعاً من ذلك.

قوله: ( استجارك )؛ أي: طلب جوارك، والجوار: بمعنى العصمة والحماية.

( حتى يسمع ): ( حتى ): للغاية؛ والمعنى: إن أحد استجارك ليسمع كلام الله؛ فأجره حتى يسمع كلام الله؛ أي: القرآن، وهذا بالاتفاق.

 وإنما قال: ( فأجره حتى يسمع كلام الله )؛ لأن سماع كلام الله عز وجل مؤثر ولا بد كما قال تعالى: ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ){ق:37}، وكم من إنسان سمع كلام الله فآمن ، لكن بشرط أن يكون يفهمه تماماً.

وقوله: ( كلام الله ): أضاف الكلام إلى نفسه ، فقال: ( كلام الله ) ، فدل هذا على أن القرآن كلام الله، وهو كذلك.

وعقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن؛ يقولون: إن القرآن كلام الله ، منزل ، غير مخلوق منه بدأ ، وإليه يعود. قولهم: ( ( كلام الله ) ): دليله: قوله تعالى هنا: ( فأجره حتى يسمع كلام الله ) [ التوبة: 6 ] ، وبما يأتي من الآيات . 

قولهم: “منزل”: دليله قوله تعالى: ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) {البقرة:185} ، وقوله: ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) {القدر: 1} ، وقوله: ( وقرأنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً ) {الإسراء:106}.

وقولهم: “غير مخلوق”: دليله: قوله تعالى: ( ألا له الخلق والأمر ) {الأعراف:54}؛ فجعل الخلق شيئاً والأمر شيئاً آخر؛ لأن العطف يقتضي المغايرة ، والقرآن من الأمر؛ بدليل قوله تعالى: ( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا ) {الشورى:52}؛ فإذا كان القرآن أمراً ، وهو قسيم للخلق؛ صار غير مخلوق؛ لأنه لو كان مخلوقاً؛ ما صح التقسيم. وهذا دليل سمعي.

أما الدليل العقلي؛ فنقول: القرآن كلام الله، والكلام ليس عيناً قائمة بنفسها حتى يكون بائناً من الله، ولو كان عيناً قائمة بنفسها بائنة من الله؛ لقلنا: إنه مخلوق ، لكن الكلام صفة للمتكلم به، فإذا كان صفة للمتكلم به، وكان من الله؛ كان غير مخلوق؛ لأن صفات الله عز وجل كلها غير مخلوقة. 

وأيضاً؛ لو كان مخلوقاً؛ لبطل مدلول الأمر والنهي والخبر والاستخبار؛ لأن هذه الصيغ لو كانت مخلوقة. لكانت مجرد أشكال خلقت على هذه الصورة لا دلالة لها على معناها؛ كما يكون شكل النجوم والشمس والقمر ونحوها.

وقولهم: “منه بدأ”؛ أي: هو الذي ابتدأ به، وتكلم به أولاً. والقرآن أضيف إلى الله وإلى جبريل وإلى محمد ، صلى الله عليه وسلم .

مثال الأول: قول الله عز وجل: ( فأجره حتى يسمع كلام الله ) {التوبة:6} ، فيكون منه بدأ؛ أي: من الله جل جلاله ، ومنه: حرف جر وضمير قدم على عامله لفائدة الحصر والاختصاص.

ومثال الثاني-إضافته إلى جبريل-: قوله تعالى: ( إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين ) {التكوير: 19-20} .

ومثال الثالث- إضافته إلى محمد عليه الصلاة والسلام -: قوله: ( إنه لقول رسول كريم  وما هو بقول شاعر ) {الحاقة: 40-41} ، لكن أضيف إليهما لأنهما يبلغانه، لا لأنهما ابتدأاه.

وقولهم: “وإليه يعود”: في معناه وجهان:

الأول: أنه كما جاء في بعض الآثار: يسرى عليه في ليلة ، فيصبح الناس ليس بين أيديهم قرآن؛ لا في صدورهم ، ولا في مصاحفهم ، يرفعه الله عز وجل[142].

وهذا-والله أعلم-حينما يعرض عنه الناس إعراضاً كلياً؛ لا يتلونه لفظاً ولا عقيدة ولا عملاً؛ فإنه يرفع؛ لأن القرآن أشرف من أن يبقى بين يدي أناس هجروه وأعرضوا عنه فلا يقدرونه قدره، وهذا-والله أعلم-نظير هدم الكعبة في آخر الزمان[143]؛ حيث يأتي رجل من الحبشة قصير أفحج أسود ، يأتي بجنوده من البحر إلى المسجد الحرام، وينقض على الكعبة حجراً حجراً، كلما نقض حجراً؛ مده للذي يليه . . . . وهكذا يتمادون الأحجار إلى أن يرموها في البحر، والله عز وجل يمكنهم من ذلك، مع أن أبرهة جاء بخيله ورجله وفيله فقصمه الله قبل أن يصل إلى المسجد لأن الله علم أنه سيبعث هذا النبي وتعاد إلى المسجد هيبته وعظمته، ولكن آخر الزمان لن يبعث نبي بعد محمد عليه الصلاة والسلام، وإذا أعرض الناس عن تعظيم هذا البيت نهائياً؛ فإنه يسلط عليه هذا الرجل من الحبشة؛ فهذا نظير رفع القرآن . والله أعلم.

الوجه الثاني: في معنى قولهم: “وإليه يعود”: أنه يعود إلى الله وصفاً؛ أي أنه لا يوصف به أحد سوى الله فيكون المتكلم بالقرآن هو الله عز وجل، وهو الموصوف به.

ولا مانع من أن نقول: إن المعنيين كلاهما صحيح.

 هذا كلام أهل السنة والجماعة في القرآن الكريم.

ويرى المعتزلة أن القرآن مخلوق، وليس كلام الله!

ويستدلون لذلك بقول الله تعالى: )اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ){الزمر:62} ، والقرآن شيء ، فيدخل في عموم قوله: ( كل شيء ) ، ولأنه ما ثم إلا خالق ومخلوق ، والله خالق ، وما سواه مخلوق.

والجواب من وجهين:

الأول: أن القرآن كلام الله تعالى، وهو صفة من صفات الله ، وصفات الخالق غير مخلوقة.

الثاني: أن مثل هذا التعبير ( كل شيء ) عام قد يراد به الخاص؛ مثل قوله تعالى عن ملكة سبأ: ]وأوتيت من كل شيء[ {النمل:23}، وقد خرج شيء كثير لم يدخل في ملكها منه شيء؛ مثل ملك سليمان.

فإن قال قائل: هل هناك فرق كبير بين قولنا: إنه منزل ، وقولنا:إنه مخلوق؟

فالجواب: نعم؛ بينهما فرق كبير، جرت بسببه المحنة الكبرى في عصر الإمام أحمد.

فإذا قلنا: إنه منزل. فهذا ما جاء به القرآن؛ قال الله تعالى: )تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ){الفرقان:1}.

وإذا قلنا: إنه مخلوق. لزم من ذلك:

أولاً: تكذيب للقرآن؛ لأن الله يقول: ]وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا[ {الشورى:52}، فجعله الله تعالى موحى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ، ولو كان مخلوقاً؛ ما صح أن يكون موحى؛ فإذا كان وحياً لزم ألا يكون مخلوقاً؛ لأن الله هو الذي تكلم به. 

ثانياً: إذا قلنا: إنه مخلوق؛ فإنه يلزم على ذلك إبطال مدلول الأمر والنهي والخبر والاستخبار؛ لأن هذه الصيغ لو كانت مخلوقة؛ لكانت مجرد شكل خلق على هذه الصورة؛ كما خلقت الشمس على صورتها ، والقمر على صورته، والنجم على صورته. . وهكذا ، ولم تكن أمراً ولا نهياً ولا خبراً ولا استخباراً؛ فمثلاً: كلمة ( قل ) ( لا تقل ) ( قال فلان ) ( هل قال فلان ) كلها نقوش على هذه الصورة ، فتبطل دلالتها على الأمر والنهي والخبر والاستخبار ، وتبقى كأنها صور ونقوش لا تفيد شيئاً.

ولهذا قال ابن القيم في “النونية”: “إن هذا القول يبطل به الأمر والنهي؛ لأن الأمر كأنه شيء خلق على هذه الصورة دون أن يعتبر مدلوله ، والنهي خلق على هذه الصورة دون أن يقصد مدلوله، وكذلك الخبر والاستخبار”.

ثالثاً: إذا قلنا: إن القرآن مخلوق، وقد أضافه إلى نفسه إضافة خلق؛ صح أن نطلق على كل كلام من البشر وغيرهم أنه كلام الله؛ لأن كل كلام الخلق مخلوق، وبهذا التزم أهل الحلول والاتحاد؛ حيث يقول قائلهم:

وكل كلام في الوجود كلامه                 سواء علينا نثره ونظامه

وهذا اللازم باطل، وإذا بطل اللازم بطل الملزوم.

فهذه ثلاثة أوجه تبطل القول بأنه مخلوق.

والوجه الرابع: أن نقول: إذا جوزتم أن يكون الكلام-وهو معنى لا يقوم إلا بمتكلم – مخلوقاً؛ لزمكم أن تجوزوا أن تكون جميع صفات الله مخلوقة؛ إذ لا فرق؛ فقولوا إذا: سمعه مخلوق ، وبصره مخلوق. . . . وهكذا.

فإن أبيتم إلا أن تقولوا: إن السمع معنى قائم بالسامع لا يسمع منه ولا يرى، بخلاف الكلام؛ فإنه جائز أن الله يخلق أصواتاً في الهواء فتسمع !! قلنا لكم: لو خلق أصواتاً في الهواء، فسمعت؛ لكان المسموع وصفاً للهواء ، وهذا أنتم بأنفسكم لا تقولوه؛ فكيف تعيدون الصفة إلى غير موصوفها ؟!

هذه وجوه أربعة كلها تدل على أن القول بخلق القرآن باطل، ولو لم يكن منه إلا إبطال الأمر والنهي والخبر والاستخبار؛ لكان ذلك كافياً.

 ) وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( 1 ). …………………..

( 1 )الآية الثانية: قوله: ( وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ) {البقرة:75}.

هذا في سياق قوله تعالى: ( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم )؛ يعني: لا تطمعون أن يؤمنوا لكم؛ أي: اليهود.

( فريق منهم ): طائفة منهم، وهم علماؤهم.

( يسمعون كلام الله ): يحتمل أن يراد به القرآن ، وهو ظاهر صنيع المؤلف، فيكون دليلاً على أن القرآن كلام الله . ويحتمل أن يراد به كلام الله تعالى لموسى حين اختار موسى سبعين رجلاً لميقات الله تعالى، فكلمه الله وهم يسمعون ، فحرفوا كلام الله تعالى من بعدما عقلوه وهم يعلمون. ولم أر الاحتمال الأول لأحد من المفسرين.

 أيا كان؛ ففيه إثبات أن كلام الله بصوت مسموع ، والكلام صفة المتكلم ، وليس شيئاً بائناً منه؛ فوجب أن يكون القرآن كلام الله لا كلام غيره.

( ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ): ( يحرفونه ): أي: يغيرون معناه.

وقوله: ( من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ): هذا أشد في قبح عملهم وجرأتهم على الله سبحانه وتعالى: أن يحرفوا الشيء من بعد ما عقلوه ووصل إلى عقولهم وهم يعلمون أنهم محرفون له؛ لأن الذي يحرف المعنى عن جهل أهون من الذي يحرفه بعد العقل والعلم.

 ) يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ ) ( 1 )…………………………………..

( 1 ) الآية الثالثة ]يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل[ {الفتح:15}.

في هذه الآية إثبات أن القرآن كلام الله؛ لقوله: ( يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل ).

والضمير يعود على الأعراب الذين قال الله فيهم: )سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ) {الفتح: 15}؛ فهؤلاء أرادوا أن يبدلوا كلام الله ، فيخرجوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام ، ولكن الله تعالى إنما كتب المغانم لقوم معينين ، للذين غزوا في الحديبية ، وأما من تبعوه لأخذ الغنائم فقط؛ فلا حق لهم فيها.

وفي الآية ايضاً إثبات القول لله تعالى؛ لقوله: ( كذلكم قال الله من قبل ) .

 )وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) ( 1 ) ……………………………….

( 1 ) الآية الرابعة: قوله: ( واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته {الكهف: 27}.

قوله: ( ما أوحي إليك )؛ يعني: القرآن ، والوحي لا يكون إلا قولاً؛ فهو إذا غير مخلوق.

وقوله: ( من كتاب ربك ): أضافه إليه سبحانه وتعالى؛ لأنه هو الذي تكلم به، أنزله على محمد ، صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل الأمين.

( لا مبدل لكلماته )؛ يعني: لا أحد يبدل كلمات الله ، أما الله عز وجل؛ فيبدل آية مكان آية؛ كما قال تعالى: )وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ){النحل: 101}.

وقوله: ( لا مبدل لكلماته ): يشمل الكلمات الكونية والشرعية:

أما الكونية: فلا يستثنى منها شيء ، لا يمكن لأحد أن يبدل كلمات الله الكونية: إذا قضى الله على شخص بالموت؛ ما استطاع أحد أن يبدل ذلك. إذا قضى الله تعالى بالفقر؛ ما استطاع أحد أن يبدل ذلك.

إذا قضى الله تعالى بالجدب؛ ما استطاع أحد أن يبدل ذلك.

وكل هذه الأمور التي تحدث في الكون؛ فإنها بقوله؛ لقوله تعالى: )إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ){يس:82}.

– أما الكلمات الشرعية؛ فإنها قد تبدل من قبل أهل الكفر والنفاق، فيبدلون الكلمات: إما بالمعنى، وإما باللفظ إن استطاعوا، أو بهما.

 وفي قوله: ]لكلماته[ دليل على أن القرآن كلام الله تعالى.

 )إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ( 1 )   )وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ) ( 2 )…..

( 1 )الآية الخامسة: قوله: (  )إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) {النمل:76}.

الشاهد قوله: ]يقص[ ، والقصص لا يكون إلا قولاً؛ فإذا كان القرآن هو الذي يقص؛ فهو كلام الله ؛ لأن الله تعالى هو الذي قص هذه القصص؛ قال الله سبحانه وتعالى: )نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ){يوسف:3} ، وحينئذ يكون القرآن كلام الله عز وجل.

إثبات أن القرآن منزل من الله تعالى

( 2 ) ذكر المؤلف رحمه الله الآيات التي فيها أن القرآن منزل من الله تعالى:

الآية الأولى: قوله: (  )وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ ) ( الأنعام:155}.

( وهذا كتاب ): المشار إليه القرآن .

( كتاب ) أي: مكتوب؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ ، ومكتوب في الصحف التي بأيدي السفرة ، ومكتوب في المصاحف التي بأيدينا.

وقوله: ( مبارك )؛ أي: ذو بركة.

فهو مبارك؛ لأنه شفاء لما في الصدور ، إذا قرأه الإنسان بتدبر وتفكر؛ فإنه يشفي القلب من المرض ، وقد قال الله تعالى: )وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ){الإسراء:82}.

مبارك في اتباعه؛ إذ به صلاح الأعمال الظاهرة والباطنة.

مبارك في آثاره العظيمة؛ فقد جاهد المسلمون به بلاد الكفر؛ لأن الله يقول: ( وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ){الفرقان:52}، والمسلمون فتحوا مشارق الأرض ومغاربها بهذا القرآن حتى ملكوها ،  ولو رجعنا إليه؛ لملكنا مشارق الأرض ومغاربها؛ كما ملكها أسلافنا ، ونسأل الله ذلك.

مبارك في أن من قرأه؛ فله بكل حرف عشر حسنات؛ فكلمة ( قال ) مثلاً فيها ثلاثون حسنة ، وهذا من بركة القرآن؛ فنحن نحصل خيرات كثيرة لا تحصى بقراءة آيات وجيزة من كلام الله عز وجل.

والحاصل: أن القرآن كتاب مبارك؛ فكل أنواع البركة حاصلة بهذا القرآن العظيم.

والشاهد في قوله: ( أنزلناه ).

وثبوت نزوله من الله دليل على أنه كلامه.

 )لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّه ) ( 1 )…………………………………

( 1 )الآية الثانية: قوله: ]لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله[ {الحشر:21}.

* الجبل من أقسى ما يكون ، والحجارة التي منها تتكون الجبال هي مضرب المثل في القساوة؛ قال الله تعالى: )ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) {البقرة: 74}، ولو نزل هذا القرآن على جبل؛ لرأيت هذا الجبل خاشعاً متصدعاً من خشية الله.

 ( خاشعاً )؛ أي: ذليلاً.

ومن شدة خشيته لله يكون ( متصدعاً ) يتفلق ويتفتق.

وهو ينزل على قلوبنا ، وقلوبنا –إلا أن يشاء الله –تضمر وتقسو لا تتفتح ولا تتقبل. 

فالذين آمنوا إذا نزلت عليهم الآيات؛ زادتهم إيماناً، والذين في قلوبهم مرض؛ تزيدهم رجساً إلى رجسهم؛ والعياذ بالله!

ومعنى ذلك: أن قلوبهم تتصلب وتقسو أكثر وتزداد رجساً إلى رجسها ، نعوذ بالله من ذلك!

وهذا القرآن لو أنزل على جبل؛ لتصدع الجبل وخشع؛ لعظمة ما أنزل عليه من كلام الله.

وفي هذا دليل على أن للجبل إحساساً؛ لأنه يخشع ويتصدع ، والأمر كذلك ، قال النبي ، صلى الله عليه وسلم في أحد: “هذا أحد جبل يحبنا ونحبه”[144] .

وبهذا الحديث نعرف الرد على المثبتين للمجاز في القرآن ، والذي يرفعون دائماً علمهم مستدلين بهذه الآية: )فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ) {الكهف:77}؛ يقول: كيف يريد الجدار؟!

فنقول: يا سبحان الله ! العليم الخبير يقول:( يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ )، وأنت تقول: لا يريد ! أهذا معقول؟

فليس من حقك بعد هذا أن تقول: كيف يريد؟!

وهذا يجعلنا نسأل أنفسنا: هل نحن أوتينا علم كل شيء؟

فنجيب بالقول بأننا ما أوتينا من العلم إلا قليلاً

فقول من يعلم الغيب والشهادة: ( يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ): لا يسوغ لنا أن نعترض عليه ، فنقول: لا إرادة للجدار ! ولا يريد أن ينقض !

وهذا من مفاسد المجاز؛ لأنه يلزم منه نفي ما أثبته القرآن.

أليس الله تعالى يقول: )تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ){الإسراء:44}؛ هل تسبح بلا إرادة ؟!

يقول: ( تُسَبِّحُ لَهُ ): اللام للتخصيص؛ إذا؛ هي مخلصة ، وهل يتصور إخلاص بلا إرادة؟! إذا؛ هي تريد وكل شيء يريد لأن الله يقول: ) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ ) ، واظنه لا يخفى علينا جميعاً أن هذا من صيغ العموم؛ فـ( إن ): نافية بمعنى ( ما ) ، و ( من شيء ): نكرة في سياق النفي ، ( إلا يسبح بحمده ) ، فيعم كل شيء.

فيا أخي المسلم ! إذا رأيت قلبك لا يتأثر بالقرآن؛ فاتهم نفسك؛ لأن الله أخبر أن هذا القرآن لو نزل على جبل لتصدع، وقلبك يتلى عليه القرآن ، ولا يتأثر. اسأل الله أن يعينني وإياكم.

 )وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( 101 ) )قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) ( 102 ) )وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) ( النحل:103 ) ( 1 )………………………….

 ( 1 )  الآية الثالثة والرابعة والخامسة: قوله: ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) )قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) )وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) {النحل: 101-103} .

قوله عز وجل ( وإذا بدلنا آية مكان آية ): قوله: ( بدلنا )؛ أي: جعلنا آية مكان آية ، وهذا إشارة إلى النسخ المذكور في قوله تعالى: )مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا ){البقرة:106}، فالله سبحانه إذا نسخ آية؛ جعل بدلها آية ، سواء نسخها لفظاً ، أو نسخها حكماً.

وقوله: ( والله أعلم بما ينزل ): هذه جمله اعتراضية ، وهي من أحسن ما يكون في هذا الموضع ، والمعنى أن تبديلنا للآية بدل الآية  ليس سفهاً وعبثاً ، بل هو صادر عن علم بما يصلح الخلق، فنبدل آية مكان آية؛ لعلمنا أن ذلك أصلح للخلق وأنفع لهم.

وفيها أيضاً فائدة أخرى، وهي أن هذا التبديل ليس من عمل الرسول عليه الصلاة والسلام. بل هو من الله ، أنزله بعلمه ، وأبدل آية مكان آية بعلمه، وليس منك أيها الرسول.

قال تعالى: )وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ ) {يونس: 15}؛ فماذا كان الجواب؟ كان الجواب بأن أجاب عن شيء من كلامهم وترك شيئاً فقال تعالى ) قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ) ( يونس:15}، ولم يقل: ولا آتي بقرآن غيره . لماذا؟ لأنه قد يأتي بتبديل من عنده، وإذا كان لا يمكنه تبديله؛ فالإتيان بغيره أولى بالامتناع.

فالمهم: أن الذي يبدل آية مكان آية، سواء لفظها أو حكمها ، هو الله سبحانه. 

قوله: ( إنما أنت مفتر ): الجملة جواب ( وإذا ) .

قوله: ( إنما أنت ): الخطاب هنا لمحمد ، صلى الله عليه وسلم .

قوله: ( مفتر )؛ أي: كذاب ، بالأمس تقول لنا كذا ، واليوم تقول لنا كذا ، هذا كذب، ، إنما أنت مفتر!!

لكن هذا القول الذي يقولونه إزاء إتيانه بآية مكان آية هو قول سفه ، ولو أمعنوا النظر؛ لعلموا علم اليقين أن الذي يأتي بآية مكان آية هو الله سبحانه، وذلك يدل على صدقه ، صلى الله عليه وسلم؛ لأن الكذاب يحذر غاية الحذر أن يأتي بكلام غير كلامه الأول؛ لأنه يخشى أن يطلع على كذبه، فلو كان كاذباً كما يدعون أن ذلك من علامة الكذب؛ ما أتى بشيء يخالف الأول؛ لأنه إذا أتى بشيء يخالف الأول على زعمهم تبين كذبه بل إتيانه بما يخالف الأول دليل على صدقه بلا شك.

ولهذا قال هنا: ) بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ، وهذا إضراب إبطالي؛ معناه: بل لست مفترياً ، ولكن أكثرهم لا يعلمون ، ولو أنهم كانوا من ذوي العلم لعلموا أنه إذا بدلت آية مكان آية فإنما ذلك دليل على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام.

قوله تعالى: )قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقّ ): ( روح القدس ): هو جبريل، ووصفه بذلك لطهارته من الخيانة عليه الصلاة والسلام. ولهذا قال في آية أخرى )إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) (  )ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ) {التكوير:19-21}.

قوله: ( من ربك ) قال: ( من ربك ) ، ولم يقل: من رب العالمين؛

إشارة إلى الربوبية الخاصة؛ ربوبية الله للنبي ، صلى الله عليه وسلم ، وهي ربوبية أخص الخاصة.

وقوله: ( بالحق ): إما أن يكون وصفاً للنازل أو للمنزول به.

فإن كان وصفاً للنازل؛ فمعناه: أن نزوله حق، وليس بكذب.

وإن كان وصفاً للمنزول به؛ فمعناه: أن ما جاء به فهو حق.

وكلاهما مراد؛ فهو حق من عند الله ، ونازل بالحق.

قال الله تعالى: )وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَل ){الإسراء:105}.

فالقرآن حق، وما نزل به حق. قوله: ( ليثبت الذين آمنوا ): هذا تعليل وثمرة عظيمة ، يثبت الذين آمنوا به ، ويمكنهم من الحق ، ويوقيهم عليه .

قوله: ]وهدى وبشرى للمسلمين[؛ أي: هدى يهتدون به، ومناراً يستنيرون به، وبشارة لهم يستبشرون به.

بشارة؛ لأن من عمل به، واستسلم له كان ذلك دليلاً على أنه من أهل السعادة، قال الله تعالى:: )فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ) (  )وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ) (  )فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ) {الليل:5-7}.

ولهذا ينبغي للإنسان أن يفرح إذا رأى من نفسه الخير والثبات عليه والإقبال عليه، يفرح؛ لأن هذه بشارة له؛ فإن الرسول ، صلى الله عليه وسلم لما حدث أصحابه؛ قال “ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار”. قالوا أفلا ندع العمل ونتكل؟ قال: “لا؛ اعملوا؛ فكل ميسر لما خلق له”، ثم قرأ:( فأما من أعطى وأتقى ) )وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ) )فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ) )وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ) (  )وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ) (  )فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ){الليل:5-10}[145]

فإذا رأيت من نفسك أن الله عز وجل قد من عليك بالهداية ، والتوفيق والعمل الصالح ومحبة الخير وأهل الخير؛ فأبشر؛ فإن في هذا دليلاً على أنك من أهل اليسرى ، الذين كتبت لهم السعادة.

ولهذا قال هنا: ( وهدى وبشرى للمسلمين ) .

قوله: )وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ )؛ قال: ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ ) ، ولم يقل: لقد علمنا؛ لأن قولهم هذا يتجدد ، فكان التعبير بالمضارع أولى من التعبير بالماضي؛ لأنه لو قال: لقد علمنا؛ لتبادر إلى ذهن بعض الناس أن المعنى: علمنا أنهم قالوا ذلك سابقاً ، لا أنهم يستمرون عليه.

وسبب نزول هذه الآية أن قريشاً قالت: إن هذا القرآن الذي يأتي به محمد ليس من عند ربه، وإنما هو من شخص يعلمه ويقص عليه من قصص الأولين، ويأتي ليقول لنا: هذا من عند الله ! أعوذ بالله!!

ادعوا أنه كلام البشر! والعجيب أنهم يدعون أنه كلام بشر، ويقال لهم: ائتوا بمثله ، ولا يستطيعون!!

وقد أبطل الله افتراءهم هذا بقوله تعالى: ( لسان الذي يلحدون إليه أعجمي ) ، ومعنى ( يلحدون ) يميلون؛ لأن قولهم هذا ميل عن الصواب بعيد عن الحق. والأعجمي: هو الذي لا يفصح بالكلام ، وإن كان عربياً ، والعجمي بدو همزة هو: المنسوب إلى العجم وإن كان يتكلم العربية.

فلسان هذا الذي يلحدون إليه أعجمي لا يفصح بالكلام العربي.

وأما القرآن؛ فإن الله قال فيه: ( وهذا لسان عربي مبين ) . بين في نفسه مبين لغيره.

فالقرآن كلام عربي، وهو أفصح الكلام ، كيف يأتي من هذا الرجل الأعجمي، الذي لسانه لا يفصح بالكلام؟!

والشاهد هو قوله: ]والله أعلم بما ينزل[ ، وقوله: ]قل نزله روح القدس من ربك[ ، وقوله ]وهذا لسان عربي مبين[ .

وكل هذه تدل على أن القرآن كلام الله تعالى منزل من عنده.

والمؤلف ترك الآية التي بعدها؛ لأنه ليس فيها شاهد ، ولكنها مفيدة؛ فنذكرها: قال تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) )إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) {النحل:104-105}. ومعنى هذه الآية: أن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولا ينتفعون بآياته، والعياذ بالله؛ فالهداية مسدودة عليهم.

وهذه الحقيقة فيها فائدة كبيرة، وهي: أن من لم يؤمن بآيات الله لا يهديه الله

ومفهوم المخالفة فيها: أن من آمن بآيات الله؛ هداه الله.

مثال ذلك: أننا نجد من لم يؤمن بالآيات؛ لم يهتد لبيان وجهها؛ مثل قول بعضهم: كيف ينزل الله إلى السماء الدنيا وهو في العلو؟!

فنقول: آمن تهتد ! فإذا آمنت بأنه ينزل حقيقة علمت أن هذا ليس بمستحيل: لأنه في جانب الله عز وجل، ولا يماثله شيء.

ونجد من يقول في قوله تعالى ) َجداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ ) ( الكهف:77}: كيف يريد الجدار؟

فنقول: آمن بأن الجدار يريد أن يتبين لك أن هذا ليس بغريب.

وهذه قاعدة ينبغي أن تكون أساسية عندك، وهي: آمن تهتد!

والذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله، ويبقى القرآن عليهم عمى-والعياذ بالله – ولا يستطيعون الاهتداء به، نسأل الله لنا ولكم الهداية.

ما نستفيده من الناحية المسلكية من هذه الآيات:

نستفيد أننا إذا علمنا أن هذا القرآن تكلم به رب العالمين؛ أوجب لنا ذلك تعظيم هذا القرآن ، واحترامه ، وامتثال ما جاء فيه من الأوامر ، وترك ما فيه من المنهيات والمحذورات ، وتصديق ما جاء فيه من الأخبار عن الله تعالى وعن مخلوقاته السابقة واللاحقة.

إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة

ذكر المؤلف رحمه الله آيات إثبات رؤية الله تعالى.

 )وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَة ) )إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) ( 1 )…………………………………………….

( 1 )   الآية الأولى: قوله: ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) {القيامة:22-23}.

قوله: ( وجوه يومئذ )؛ يعني بذلك اليوم الآخر.

قوله: ( ناضرة )؛ أي: حسنة، من النضارة؛ بالضاد ، وهي: الحسن، يدل على ذلك قوله تعالى: )فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نضرة وسروراً ) {الإنسان:11}؛ أي: حسناً في وجوههم ، وسروراً في قلوبهم. قوله: ( إلى ربها ناظرة ): ( ناظرة )؛ بالظاء ، من النظر ، وهنا عدي النظر بـ ( إلى ) الدالة على الغاية، وهو نظر صادر من الوجوه، والنظر الصادر

من الوجوه يكون بالعين؛ بخلاف النظر الصادر من القلوب؛ فإنه يكون بالبصيرة والتدبر والتفكر؛ فهنا صدر النظر من الوجوه إلى الرب عز وجل؛ لقوله: )إِلَى رَبِّهَا ) .

فتفيد الآية الكريمة: أن هذه الوجوه الناضرة الحسنة تنظر إلى ربها عز وجل، فتزداد حسناً إلى حسنها.

وانظر كيف جعل هذه الوجوه مستعدة متهيئة للنظر إلى وجه الله عز وجل؛ لكونها نضرة حسنة متهيئة للنظر إلى وجه الله.

ففي هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يرى بالأبصار وهذا هو قول أهل السنة والجماعة.

واستدلوا لذلك بالآيات التي ساقها المؤلف ، واستدلوا أيضاً بالأحاديث المتواترة عن النبي ، صلى الله عليه وسلم والتي نقلها عنه صحابة كثيرون ونقلها عن هؤلاء الصحابة تابعون كثيرون ، ونقلها عن التابعين من تابع التابعين كثيرون. وهكذا.

والنصوص فيها قطعية الثبوت والدلالة؛ لأنها في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله ، صلى الله عليه وسلم المتواترة.

وأنشدوا في هذا المعنى:

مما تواتر حديث من كذب ومن بنى لله بيتاً واحتسب

ورؤية شفاعة والحوض              ومسح خفين وهذي بعض

 فالمراد بقوله: “ورؤية” رؤية المؤمنين لربهم.

وأهل السنة والجماعة يقولون: إن النظر هنا بالبصر حقيقة.

ولا يلزم منه الإدراك؛ لأن الله تعالى يقول: )لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ) {الأنعام:103}؛ كما أن العلم بالقلب أيضاً لا يلزم منه الإدراك؛ قال الله تعالى: ]ولا يحيطون به علماً[ {طه:110}.

ونحن نعلم ربنا بقلوبنا ، لكن لا ندرك كيفيته وحقيقته ، وفي يوم القيامة نرى ربنا بأبصارنا، ولكن لا تدركه أبصارنا.

 )عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ) ( 1 ) ……………………………………….

( 1 )الآية الثانية: قوله: ]على الأرائك ينظرون[ {المطففين:23}.

]الأرائك[: جمع أريكة، وهي السرير الجميل المغطى بما يشبه الناموسية.

]ينظرون[: لم يذكر المنظور إليه، فيكون عاماً لكل ما يتنعمون بالنظر إليه.

وأعظمه وأنعمه النظر إلى الله تعالى؛ لقوله تعالى: ]تعرف في وجوههم نضرة النعيم[ {المطففين:24}؛ فسياق الآية يشبه قوله: ]وجوه يومئذ ناضرة . إلى ربها ناظرة[؛ فهم ينظرون إلى كل ما يتنعمون بالنظر إليه.

ومنه النظر إلى قرناء السوء يعذبون في الجحيم؛ كما قال تعالى: )قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يقول  أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ )  )قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لمدينون قال أي: لأصحابه: ]هل أنتم مطلعون[: ]هل[ . للتشويق يطلعون على ماذا ؟! على هذا القرين، )فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ )!! أعوذ بالله! رآه في سوائها أي: في أصلها، وقعرها ، سبحان الله هذا في أعلى عليين ، وهذا في أسفل سافلين ، وينظر إليه مع بعد المسافة العظيمة!

لكن نظر أهل الجنة ليس كنظر أهل الدنيا، هناك ينظر الإنسان في ملكه في الجنة مسيرة ألفي عام ينظر أقصاه كما ينظر أدناه ، من كمال النعيم؛ لأن

الإنسان لو كان نظره كنظره في الدنيا؛ ما استمتع بنعيم الجنة؛ لأنه ينظر إلى مدى قريب ، فيخفى عليه شيء كثير منه.

اطلع من أعلى عليين إلى أسفل سافلين، فرآه في سواء الجحيم، قال يخاطبه: ]تالله إن كدت لتردين[؛ وهذا يدل على أنه كان دائماً يحاول أن يضله ،  ولهذا قال: ]إن كدت[؛ يعني: إنك قاربت ، و ]وإن[ هذه المخففة لا الثقيلة ، ]ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين . أفما نحن بميتين[ إلى آخر الآيات {الصافات: 54-58}.

أقول: إن الناس سابقاً يمارون في مثل هذا؛ كيف يكون في أعلى مكان ويخاطب من ينظر إليه ويكلمه في أسفل مكان ؟!

ولكن ظهرت الآن أشياء من صنع البشر؛ كالأقمار الصناعية، والهواتف التليفزيونية . . . . وغير ذلك؛ يرى الإنسان من خلالها من يكلمه وينظر إليه وهو بعيد.

مع أنه لا يمكن أن نقيس ما في الآخرة على ما في الدنيا.

إذاً؛ ]ينظرون[: عامة: ينظرون إلى الله، وينظرون مالهم من النعيم، وينظرون ما يحصل لأهل النار من العذاب.

إذا قال قائل: هذا فيه إشكال!! كيف ينظرون إلى أهل النار ينكتون عليهم ويوبخونهم ؟!

فنقول: والله؛ ما أكثر ما أذاق أهل النار أهل الجنة في الدنيا من العذاب والبلاء والمضايقة ، قال الله تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ): يضحكون سواء في مجالسهم ، أو معهم ، )وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ) (  )وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ )؛ أي: انقلبوا متنعمين بأقوالهم، )وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ )! قال الله تعالى: )فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ) {المطففين: 29-35}؛ ينظرون إليهم وهم-والعياذ بالله –في سواء الجحيم. إذاً؛ يكون هذا من تمام عدل الله عز وجل؛ بأن جعل هؤلاء الذين كانوا يضايقون في دار الدنيا، جعلهم الآن يفرحون بنعمة الله عليهم، ويوبخون هؤلاء الذين في سواء الجحيم.

 )لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ) ( 1 )……………………………………………….

الآية الثالثة: قوله: ]للذين أحسنوا الحسنى وزيادة[ {يونس: 26} .

قوله: ]للذين[: خبر مقدم.

و ]الحسنى[: مبتدأ مؤخر ، وهي الجنة.

]زيادة[: هي النظر إلى وجه الله.

هكذا فسره النبي ، صلى الله عليه وسلم: كما ثبت ذلك في “صحيح مسلم”[146] وغيره. ففي هذه الآية دليل على ثبوت رؤية الله من تفسير الرسول عليه الصلاة والسلام ، وهو أعلم الناس بمعاني القرآن بلا شك ، وقد فسرها بالنظر إلى وجه الله، وهي زيادة على نعيم الجنة.

إذاً؛ فهي نعيم ليس من جنس النعيم في الجنة؛ لأن جنس النعيم في الجنة نعيم بدن، أنهار ، وثمار ، وفواكه، وأزواج مطهرة . . . . . وسرور القلب فيها تبع، لكن النظر إلى وجه الله نعيم قلب، لا يرى أهل الجنة نعيماً أفضل منه، نسأل الله أن يجعلنا ممن يراه .

  وهذا نعيم ما له من نظير أبداً؛ لا فواكه ، ولا أنهار ، ولا غيرها أبداً ، ولهذا قال:  ]وزيادة [؛ أي: زيادة على الحسنى .

] لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد [ ( 1 ) ………………………………..

( 1 )الآية الرابعة: قوله: ( لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد ) [ ق: 35 ] .

قوله:  ] لهم ما يشاءون فيها [؛ أي: في الجنة كل ما يشاءون .

وقد ورد في الحديث الصحيح أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ! أفي الجنة خيل ؟ فإني أحب الخيل . فقال: ( ( إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرسا ، من ياقوتة حمراء ، تطير بك في الجنة شئت إلا فعلت ) ) .

وقال الأعرابي: يا رسول الله ! أفي الجنة إبل ؟ فإني أحب الإبل . قال: ( ( يا أعرابي ! إن يدخلك الله الجنة؛ أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذّت عينك ) )[147] .

وهذا نعيم ما له من نظير أبداً؛ لا فواكه، ولا أنهار ، ولا غيرها أبداً، ولهذا قال: ( وزيادة )؛ أي على الحسنى.

1-    الآية الرابعة: قوله: ( لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) ( قّ:35 ) .

*قوله:؛أي: في الجنة كل ما يشاءون.

وقد ورد في الحديث الصحيح أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله !أفي الجنة خيل؟ فإني أحب الخيل . فقال:” إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرساً، من ياقوتة حمراء، تطير بك في الجنة شئت إلا فعلت“.

وقال الأعرابي: يا رسول الله! أفي الجنة إبل؟ فإني أحب الإبل. قال:” يا أعرابي؟ إن يدخلك الله الجنة؛ أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك

فإذا اشتهى أي شيء؛ فإنه يكون ويتحقق، حتى إن بعض العلماء يقول: لو اشتهى الولد لكان له ولد؛ فكل شيء يشتهونه فهو لهم.

قال تعالى: ( وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ( الزخرف: من الآية71 ).

وقوله: ( وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ )؛ أي: مزيد على ما يشاءون.

يعني: أن الإنسان إذا شاء شيئاً؛ يعطى إياه، ويعطي زيادة؛ كما جاء في الحديث الصحيح في آخر أهل الجنة دخولاً، يعطيه الله عز وجل نعيماً، ونعيماً… ويقول: رضيت . يقول له:” لك مثله وعشرة أمثاله[8][148]فهو أكثر مما يشاء.

وفسر المزيدَ كثيرٌ من العلماء بما فسر به النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة وهي: النظر إلى وجه الله الكريم.

فتكون الآيات التي ساقها المؤلف لإثبات رؤية الله تعالى أربعاً.

وهناك آية خامسة استدل بها الشافعي رحمه الله، وهي قوله تعالى في الفجار: ( كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) ( المطففين:15 ).

ووجه الدلالة أنه ما حجب هؤلاء في الغضب محجوبين عن الله؛ فأهل الرضى يرون الله عز وجل.

وهذا استدل قوي جداً؛ لأنه لو كان الكل محجوبين؛ لم يكن مزية لذكر هؤلاء.

وعلى هذا؛ فنقول: الآيات خمس، ويمكن أن نلحق بها قول الله تعالى  ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) ( الأنعام:103 )؛ على ما سنقرره في الرد على النفاة إن شاء الله.

*فهذا قول أهل السنة في رؤية الله تعالى وأدلتهم، وهي ظاهرة جلية، لا ينكرها إلا جاهل أو مكابر

* وخالفهم في ذلك طائف من أهل التعطيل من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم،  واستدلوا بأدلة سمعية متشابهة، وأدلة عقلية متداعية.

أما الأدلة السمعية:

فالأول قوله تعالى: ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً ) ( لأعراف:143 )

ووجه الدلالة أن ( لن ) للنفي المؤبد، والنفي خير، وخبر الله تعالى صدق، لا يدخله النسخ.

والرد عليهم من وجوه:

–                   الأول: منع كون ( لن ) للنفي المؤبد؛ لأنه مجرد دعوى:

–                   قال ابن مالك في ” الكافية”:

     ومن رأى النفي بلن مؤبداً                     فقولهُ اردد وسِواهُ فاعضداَ

–                   الثاني: أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يطب من الله الرؤية في الآخرة؛ وإنما طلب رؤية حاضرة؛ لقوله: ( أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْك )؛ أي: الآن ، ثم ضرب الله تعالى له مثلاً بالجبل حيث تجلى الله تعالى له فجعله دكاً، فقال: ( وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي )، فلما رأى موسى ما حصل للجبل؛ علم أنه هو لا طاقة له برؤية الله، وخر صعقاً لهول ما رأى.

ونحن نقول إن رؤية الله تعالى في الدنيا مستحيلة؛ لأن الحال البشرية لا تستطيع تحمل رؤية الله عز وجل؛ كيف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: ” حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه“[149]

أما رؤية الله تعالى في الآخرة فممكنة؛ لأن الناس في ذلك اليوم يكونون في عالم آخر تختلف فيه أحوالهم عن حالهم في الدنيا؛ كما يعلم ذلك من نصوص الكتاب والسنة فيما يجرى للناس في عرصات القيامة وفي مقرهم في دار النعيم أو الجحيم.

–                   الوجه الثالث: أن يقال: استحالة رؤية الله في الآخرة عند المنكرين لها مبنية على أن إثباتها يتضمن نقصاً في حق الله تعالى! كما يعللون نفيهم بذلك ، وحينئذ يكون سؤال موسى لربه الرؤية دائراً بين الجهل بما يجب لله ويستحيل في حقه، أو الاعتداء في دعائه حين طلب من الله ما لا يليق به إن كان عالماً بأن ذلك مستحيل في حق الله ، وحينئذ يكون هؤلاء النافون أعلم من موسى فيما يجب لله تعالى ويستحيل في حقه!! وهذا غاية الضلال!

–                   وبهذا الوجه يتبين أن في الآية دليلاً عليهم لا دليلاً لهم.

    وهكذا؛ كل دليل من الكتاب والسنة الصحيحة يستدل به على باطل أو نفي حق فسيكون دليلاً على من أورده، لا دليلاً له.

الدليل الثاني لنفاة رؤية الله تعالى: قوله تعالى( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) ( الأنعام:103 ).

والرد عليهم: أن الآية فيها نفي الإدراك، والرؤية لا تستلزم الإدراك؛ إلا تري أن الرجل يرى الشمس ولا يحيط به إدراكاً؟!

فإذا أثبتنا أن الله تعالى يُرى؛ لم يلزم أن يكون يدرك بهذه الرؤية؛ لأن الإدراك أخص من مطلق الرؤية.

ولهذا نقول: إن نفي الإدراك يدل على وجود أصل الرؤية؛ لأن نفي الأخص يدل على وجود الأعم، ولو كان الأعم منتفياً؛ لوجب نفيه، وقيل: لا تراه الأبصار؛ لأن نفيه يقتضي نفي الأخص ، ولا عكس، ولأنه؛ لو كان الأعم منتفياً؛ لكان نفي الأخص إيهاماً وتلبيساً ينزّه عنه كلام الله عز وجل.

وعلى هذا؛ يكون في الآية دليل عليهم لا دليل لهم.

*وأما أدلة نفاة الرؤية العقليه؛ فقالوا: لو كان الله يُرى؛ لزم أن يكون جسماً، والجسم ممتنع على الله تعالى؛ لأنه يستلزم التشبيه والتمثيل.

والرد عليهم: أنه إن كان يلزم من رؤية الله تعالى أن يكون جسماً؛ فليكن ذلك ، لكننا نعلم علم اليقين أنه لا يماثل أجسام المخلوقين؛ لأن الله تعالى يقول: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) ( الشورى: من الآية11 ) .

على أن القول بالجسم نفياً أو إثباتاً مما أحدثه المتكلمون، وليس في الكتاب والسنة إثباته ولا نفيه.

وقد أجاب النفاة عن أدلة أهل الإثبات بأجوبة باردة، فحرفوها تحريفاً لا يخفى على أحد، وليس هذا موضع ذكرها ، وهذا مذكورة في الكتب المطولة.

ما نستفيده من الناحية المسلكية من هذه الآيات:

أما في مسألة الرؤية؛ فما أعظم أثرها على الاتجاه المسلكي؛ لأن الإنسان إذا وجد أن غاية ما يصل إليه من الثواب هو النظر إلى وجه الله كانت الدنيا كلها رخيصة عنده؛ وكل شيء يرخص عنده في جانب الوصول إلى رؤية الله عز وجل؛ لأنها غاية كل طالب، ومنتهى المطالب.

فإذا علمت أنك سوف تري ربك عياناً بالبصر؛ فوالله لا تساوي الدنيا عندك شيئاً.

فكل الدنيا ليست بشيء؛ لأن النظر إلى وجه الله هو الثمرة التي يتسابق فيها المتسابقون، ويسعى إليها الساعون، وهي غاية المرام من كل شيء.؟

فإذا علمت هذا؛ فهل تسعى إلى الوصول إلى ذلك أم لا؟!

والجواب: نعم؛ أسعى إلى الوصول إلى ذلك بدون تردد.

وإنكار الرؤية في الحقيقة حرمان عظيم، لكن الإيمان بها يسوق الإنسان سوقاً عظيماً إلى الوصول إلى هذه الغاية؛ فهو يسير ولله الحمد؛ فالدين كله يسر، حتى إذا وجد الحرج تيسر الدين؛ فأصله ميسر، وإذا وجد الحرج تيسر ثانية، وإذا لم يمكن القيام به أبداً سقط؛ فلا واجب مع العجز، ولا حرام مع الضرورة.

وهذا الباب ( 1 ) في كتاب الله كثير ( 2 )، ومن تدبر القرآن طالباً للهدى منه تبين له طريق الحق( 3 )……

( 1 )                * قوله: وهذا الباب“: الإشارة هنا إلى باب الأسماء والصفات.

( 2 )                * قوله: في كتاب الله كثير: ولذلك؛ ما من آية من كتاب الله؛ إلا وتجد فيها غالباً اسماً من أسماء الله ، أو فعلاً من أفعاله ، أو حكماً من أحكامه، بل لو شئت لقلت: كل آية في كتاب الله فهي صفة من صفات الله؛ لأن القرآن الكريم كلام الله عز وجل؛ فكل آية منه؛ فهي صفة من صفات الله عز وجل.

( 3 )                 تدبر الشيء؛معناه: التفكر فيه، كأن الإنسان يستدبره مرة ويستقبله أخرى؛ فهو يكرر اللفظ ليفهم المعنى.

فالذي يتدبر القرآن بهذا الفعل ، وأما النية؛ فهي أن يكون ” طالباً للهدى منه”؛ فليس قصده بتدبر القرآن أن ينتصر لقوله، أو أن يتخذ منه مجادلة بالباطل، ولكن قصده طلب الحق؛ فإنه سوف تكون النتيجة قول المؤلف:” تبين لهُ طَريق الحق”.

وما أعظمها من نتيجة!!

لكنها مسبوقة بأمرين: التدبر، وحسن النية؛ بأن يكون الإنسان طالباً للهدى من القرآن؛ فحينئذ يتبين له طريق الحق.

والدليل على ذلك عدة آيات؛ منها:

قوله الله تبارك وتعالى: ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل: من الآية44 ).

وقال تعالى: ( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ) ( صّ:29 ) .

وقال تعالى: ( أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ) ( المؤمنون:68 ).

وقال تعالى: ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) ( القمر:32 ) .

…والأيات في هذا كثيرة، تدل على أن من تدبر القرآن – لكن بهذه النية، وهي طلب الهدى منه-؛ لابد أن يصل إلى النتيجة، وهي تبين طريق الحق.

أما من تدبر القرآن ليضرب بعضه ببعض، وليجادل بالباطل، ولينصر قوله؛ كما يوجد عند أهل البدع وأهل الزيغ فإنه يعمى عن الحق والعياذ بالله.

لأن الله تعالى يقول: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) ( آل عمران:7 )؛ على تقدير ( أما )؛ أي: وأما الراسخون في العلم؛ ف ( يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ) ( آل عمران: من الآية7 )؛ وإذا قالوا هذا القول؛ فسيهتدون إلى بيان هذا المتشابه، ثم قال: ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) ( آل عمران: من الآية7 ).

وقال تعالى: ( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) ( فصلت: من الآية44 ).

فصل

في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ( 1 )………………………………

( 1 ) * السنة في اللغة: الطريقة، ومنه قال صلى الله عليه وسلم:” لتركبن سنن من كان قبلكم”[150] يعني: طريقتهم.

* وفي الاصطلاح هي:” قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وإقراره”.

   فتشمل الواجب والمستحب.

*والسنة هي المصدر الثاني في التشريع.

ومعني قولنا:” المصدر الثاني”: يعني: في العدد، وليس في الترتيب؛ فإن منزلتها إذا صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم كمنزلة القرآن.

لكن الناظر في القرآن يحتاج إلى شيء واحد، وهو صحة الدلالة على الحكم، والناظر في السنة يحتاج على شيئين: الأول: صحة نسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والثاني: صحة دلالتها على الحكم؛ فكأن المستدل بالسنة يعاني من الجهد أكثر مما يعانيه المستدل بالقرآن؛ لأن القرآن قد كفينا سنده؛ فسنده متواتر، ليس فيه ما يوجب الشك؛ بخلاف ما ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم . فإذا صحت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كانت بمنزلة القرآن تماماً في تصديق الخبر والعمل بالحكم، كما قال تعالى: ( وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) ( النساء: من الآية113 ).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم:” لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته؛ يأتيه الأمر من أمري؛ يقول: لا ندري! ما وجدنا في كتاب الله؛ اتبعناه ، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه”[151]

ولهذا كان القول الصحيح أن القرآن يُنسخ بالسنة إذا صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن ذلك جائز عقلاً وشرعاً، ولكن ليس له مثال مستقيم.

* * *

فالسنة تفسر القرآن( 1 ) وتبينه ( 2 )……………………………….

 ( 1 ) تفسر القرآن يعني: توضح المعنى المراد منه: كما في تفسير قوله تعالى:( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ) ( يونس: من الآية26 )؛ حيث فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها النظر إلى وجه الله عز وجل[152]

وكما في فسر النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى ( أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) ( لأنفال: من الآية60 )، فقال: ” ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي”[153]

( 2 ) يعني تبين المجمل منه؛ حيث إن في القرآن آيات مجملة، لكن السنة بينتها ووضحتها؛ مثل: قوله تعالى: ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ  ) ( البقرة: من الآية43 )أمر الله بإقامتها، وبينت السنة كيفيتها.

وقوله سبحانه:( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) ( الإسراء: من الآية78 )

( لِدُلُوكِ الشَّمْسِ )؛ يعني: من دلوك الشمس إلى غسق الليل؛ أي: غاية ظلمته، وهو نصفه؛ لأن أشد ما يكون في ظلمة الليل نصفه.

فظاهر الآية أن هذا وقت واحد، ولكن السنة فصلت هذا المجمل: فللظهر: من دلوك الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله.

وللعصر: من ذلك إلى اصفرار الشمس في الاختيار، ثم إلى غروبها في الضرورة.

وللمغرب: من غروب الشمس إلى مغيب الشفق الأحمر.

وللعشاء: من مغيب الشفق الأحمر إلى مصف الليل، وليس هناك وقت ضرورة للعشاء، ولهذا لو طهرت الحائض في منتصف الليل الأخير؛ لم يجب عليها صلاة العشاء ولا صلاة المغرب؛ لأن صلاة العشاء تنتهي بانتصاف الليل، ولم يأت في السنة دليل على أن وقت صلاة العشاء يمتد إلى طلوع الفجر.

وللفجر: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.

ولهذا قال في نفس الآية: ( لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) ، ثم فصل وقت الفجر فقال: ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) ( الإسراء: من الآية78 )؛ لأن وقت الفجر بينه وبين الأوقات الأخرى فاصل من قبله ومن بعده؛ فنصف الليل الثاني قبله، ونصف النهار الأول بعده. هذا من بيان السنة حيث بينت الأوقات.

كذلك: ( وَآتُوا الزَّكَاةَ )؛ بينت السنة الأنصبة والأموال الزكوية.

وتدل عليه ( 1 ) وتعبر عنه ( 2 ) ……………………………………….

( 1 )  هذه كلمة تعم التفسير والتبيين والتعبير؛ فالسنة تفسر القرآن وتبين القرآن.

( 2 ) يعني: تأتي بمعان جديدة أو بأحكام ليست في القرآن، وهذا كثير؛ فإن كثيراً من الأحكام الشرعية استقلت بها السنة، ولم يأت به القرآن.

لكن دل على أن لها حكم ما جاء في القرآن مثل قوله تعالى: ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ ) ( النساء: من الآية80 )،  وقوله: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) ( الحشر: من الآية7 )، وقوله: ( وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً ) ( الأحزاب: من الآية36 ).

 أما الحكم المعين؛ فالسنة استقلت بأحكام كثيرة عن القرآن، ومن ذلك ما سيأتينا في أول حديث ذكره المؤلف في هذا الفصل: ” ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر..”[154] ،فإن هذا ليس في القرآن.

إذاَ؛ السنة مقامها مع القرآن على هذه الأنواع الأربعة: تفسير مشكل، وتبيين مجمل، ودلالة عليه، وتعبير عنه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *