الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.وبعد:
أهمية الوقت في الإسلام:
من أجل النعم التي من الله بها على عباده نعمة الوقت،وجعله محل استثمار يعود على صاحبه بالنفع الدنيوي والأخروي، ونبه إلى حسن التصرف في هذا الكنز الثمين وعدم العبث به فيما لا طائل من ورائه،وأن الوقت إما أن يكون لك يابن آدم وإما أن يكون عليك.
ولأهمية الوقت فقد أقسم الله به في القرآن الكريم عدةَ مراتٍ، ومن ذلك قوله عز وجل (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ) [الفجر: 1، 2]، وقوله تعالى(وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) [الضحى: 1، 2]، وقوله سبحانه(وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر: 1، 2]، وقوله جل وعلا(وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى) [الليل: 1، 2]،إلى غير ذلك من الآيات الدالة على مكانة الوقت علو شأنه، والله جل وعلا إذا أقسم بشيء مِن خلْقِه، فذلك ليلفتَ أنظارَهم إليه، وينبههم إلى جليل منفعته، وله سبحانه أن يقسم بما شاء من مخلوقاته وليس للعبد أن يقسم إلا بالله.
تنظيم الوقت في الإسلام:
لقد نظم دين الإسلام عملية الوقت بما لا يوجد في أي دين أو نظام آخر، ولقد سعت كثير من الأنظمة إلى تحديد وتنظيم أوقاتها ولكنها أخفقت في الوصول إلى ما يناسب ويرضي أفرادها ويفي بمعطياتها، ولذلك جاء الإسلام بالتنظيم المناسب لكل فئات أفراده،في أعمالهم وأعمارهم وجميع شئونهم، فحدَّد لهم أوقاتًا للعبادات المفروضة تكون قاعدة يُرَتب عليها ما بعدها من المهام والأعمال، ومن أمثلة ذلك الصلاة فقد وقت الله لها أوقاتا تؤدى فيها بكل دقة، فقال تعالى (فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) [النساء: 103]، وقال عز وجل(أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء: 78]، وقوله تعالى (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) [هود: 114]، وفي الصيام قال عز وجل(أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) [البقرة: 184]، وقوله سبحانه(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185]، وفي الحج قوله عز وجل (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) [البقرة: 197].
وحدد عز وجل لنا أوقاتا أخرى لعبادات أخرى تؤدَّى في أقات متفرقة متاحة، كالتسبيح والاستغفار فقال تعالى(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) [ق: 39]، وقال سبحانه(وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) [آل عمران: 17]، وكل هذه الدلائل من المولى عز وجل تدل على أهمية الوقت في الإسلام ،وأنه لا بد من صرفه فيما يعود بالنفع في الدنيا والآخرة.ولذلك أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم والأمة من بعده باستثمار الفراغ وألاَّ يتركه يذهب هباء، بل يشغله بما يرضي اللهَ من أعمال مفيدة، فقال عز وجل(فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) [الشرح: 7، 8] ،وقال عليه الصلاة والسلام (نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس الصحة، والفراغ)، فهاتان النعمتان ولا شك من أعظم نِعَم الله على عباده.
ولقد دأب قوم من المسلمين على تضييع أوقاتهم وإسقاط أهميتها وصرفها في أمور لا تزيدهم من الله إلا بعدا، قد فاتهم بُعد النظر في العواقب الوخيمة التي تخلفها ضياع الأوقات والأعمار، فتجد الكثيرين قد فرقوا أوقاتهم ما بين نوم ومأكل ومشرب وسهر على كل هادم للعمر والإيمان والمصالح، من خلال الأجهزة الإلكترونية وغيرها وفي مجلس اللهو واللعب، ويفوتون على أنفسهم نفائس الأعمال، وعظائم الأمور،قد هانت في نفوسم نعمة الوقت، وهبة الخالق، فَسَهُلَ ليهم تضييعها،لو علموا حقيقة أمرهم،وشنيع فعلهم ما ضيعوا برهة واحدة من أوقاتهم.
الوقت أنفس ما عنيت بحفظه ** وأراه أسهل ما عليك يضيع
ماذا نعني بفن إدارة الوقت؟
إذا كان الوقت بهذه المكانة من الأهمية، فإنه يحتاج إلى فن في إدارته واستثماره فيما يعود بالنفع على الفرد والمجتمع، ويقود إلى السلامة والنجاة في الدنيا والآخرة ،ويعين على بلوغ الهدف المنشود.
وإدارة الوقت تتضمن وسائل تُعِينُ المرءَ على الاستفادة القصوى من وقته في تحقيق أهدافه، والاستفادةُ من الوقت هي التي تحدِّد الفارقَ بين الناجح والفاشل في هذه الحياة، يقول د. عيد محمد( السِّمةُ المشتركة بين كل الناجحين هي قدرتُهم على الموازنة ما بين الأهداف التي يرغبون في تحقيقها، والواجباتِ اللازمة عليهم، وهذه الموازنةُ تأتي من خلال إدارتهم لأوقاتهم).
ولو نظرنا إلى كمية الوقت المتاحة في وقتنا الحاضر،نجد أننا جميعا متساوون فيها ،ولكن التباين والاختلاف يكون في كيفية إدارتها واستثمارها ،ومن خلال هذه المنظومة يتضح لنا الناجح من الفاشل ،ولا يمكن بحال ادخار الوقت لأنه يتسم بحال من المرونة،وما فات لا يمكن استرجاعه، ولذلك يجب عل كل مسلم أن يكون في غاية الدقة مع وقته وصرفه فيما ينفعه،وليستحضر عظمة هذه النعمة العظيمة من الله تبارك وتعالى.
وقد دلنا رسولنا صلى الله عليه وسلم على كيفية إدارة الوقت وتنظيمه وعدم إضاعته،فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما قال :قال النبي صلى الله عليه وسلم(إغتنِمْ خمسًا قبل خمس: شبابَك قبل هَرَمِك، وصحتَك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغَك قبل شُغلك، وحياتَك قبل موتك)، وهذا من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام،فقد اختصر لنا العملية التنظيمة للوقت فيما لم يصل إليه أساتذة الإدارة ومؤلفي كتبها إلا بالإسترشاد بهذا الحديث العظيم الذي حقق لهم نجاحا باهرا، فسبحان من ألهم نبيه ما تُخْتَصَر به العبارات ،وتُنَظَم به الأوقات ،فقد تحدَّث صل الله عليه وسلم عن أهمية الوقت، والمبادرةِ إلى استثماره، واغتنامِ قوة الشباب، وفُرصِ الفراغ في العمل الصالح المثمر، وحذَّر من خمسة معوقات لاستثمار الأوقات، وكلُّ ذلك في عبارات وجيزة.
وعندما فَسَّر يوسف عليه السلام رؤيا الملك وما جاء في ثنايها من ذكر سنين الرخاء والخير ،ذكر بعدها سنين الجدب والقحط حتى تأتي سنين الرخاء مرة أخرى،فقد وضع خطة زمنية يتم من خلالها مضاعفة الإنتاج وتخزينه بأسلوب علمي لكي يُسْتَفاد منه عند حلول سنوات الجدب والقحط، وفيه إشارة إلى أهمية الوقت وإدارته بأسلوب علمي صحيح.
وإذا نظرنا إلى حالنا اليوم ،وجدنا أن الله جل وعلا قد هيا بين أيدينا من الإمكانات والتقنيات الشيء الكثير مما يعيننا على إدارة أوقاتنا بكل يسر وسهولة، وفي المقابل زادت من الحس التوعوي أمام الله عز وجل عمَّا توفَّر لنا من وقت وجهد ،كالأجهزة والتقنيات الحديثةوالآلات السريعة والحديثة ، يقول أحد المهتمين بقضية العملية التنظيمية للوقت(قد كان العلماء في الماضي يقطعون المسافات بالشهور والأيام، لتحصيل العلم، أو تحقيق الأحاديث، فيما تقطعه الطائرةُ اليوم في سويعات، وقد كانت ربَّة المنزل إلى وقتٍ قريب تقضي يومًا طويلاً في غسل الملابس، فيما يسَّره الله الآن في دقائقَ معدودةٍ بالغسالات الأوتوماتيكية الحديثة، وهناك أيضًا الوسائل التقنية، مثل: الحاسبات الآلية، والإنترنت، والبريد الإلكتروني، والهاتف، والهاتف المحمول، وآلات تصوير المستندات، والفاكس، والمفكرة الإلكترونية) ولا شك أن كلُّ جهاز من هذه الأجهزة إن أُحسن استخدامه، فإنه يفيد ويفعِّل عملية إدارة الوقت، فالهاتف مثلاً قد يجلب أنباءً مهمة، أو يُعِين على حل مشكلة، وقد تكون آلة تصوير المستندات توفر الجهد الكتابي، وكذلك الإنترنت يوفر الجهد الكتابي، وكذلك الإنترنت والبريد الإلكتروني، فهذه سلاح ذو حدين، فهي قد توفر الكثير من الوقت، وقد تكون عائقًا لإدارة الوقت، كالاتِّصالات الكثيرة غير الضرورية، أو الانشغال بالألعاب والأغاني والموسيقى المحرمة الموجودة على الهواتف المحمولة أو الإنترنت، ومن يفعل ذلك فكأنه يبدِّل نعمة الله كفرا، وعليه أن يحذر غضب الله الذي يحبُّ أن يرى أثرَ نعمته على عبده، ويراه مسخرا لها فيما يريده ويعود بالنفع الدنيوي والأخروي.
وخلاصة القول فيما سبق عن أهمية الوقت، أن على المسلم أن يهتم بوقته وتدبيره واستغلاله فيما ينفعه في الدنيا والآخرة، وألا يضيع أوقاته ويفنيها بما فيه ضرره وهلاكه، ولذلك أخبرنا الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام أن العبد مسئول أمام الله يوم القيامة عن أوقاته وعمره وفيما صرفها، فعن أبي برزة نضلة بن عبيد الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟) رواه الترمذي ،فعمر الإنسان هو دقائقه وساعاته وأيامه وشهوره وسنينه حتى يلقى الله عز وجل وهو مسئول عنها فيما صرفها، والعاقل يكون أكثر حرصا على أوقاته أكثر من حرصه على أمواله، فإن وقته إذا استقام ،إستقام ما بعده من شئون حياته. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.