إن من الأخطاء الفادحة ، والمنزلقات الخطيرة، التي انحرفت بها الدراسات الاستشراقية للقرآن الكريم عامة ، ولقصصه على وجه الخصوص، هو الاعتماد الفج على المنهجية المادية التاريخية، واعتمادهم للمنهج المادي فيما يكتبون عن قصص القرآن الكريم ، يعتبر اقصاء للوحي الإلهي، ونفي لحقائق القرآن الكريم، واتهام للنبي الكريم r وتشكيك فيما جاء به من الحقائق التي لا يمكن التشكيك فيها أو ردها، كما قال عز وجل (وَمَا يَنْطِق عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْي يُوحَى) النجم ٣ – ٤ وقوله سبحانه (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَص الْحَقّ وَمَا مِنْ إِلَه إِلَّا اللَّه وَإِنَّ اللَّه لَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم) آل عمران ٦٢، وفي الحديث عن ابي هريرة رضي الله عنه قال : قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا قال “إني لا أقول إلا حقا “[رواه الترمذي] ، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول ولا ينقل عن ربه إلا حقا، فإنه معصوم في جانب الرسالة والوحي وكل ما يأتي به من عند الله، حتى في مزاحه ومداعبته لأصحابه لا يقول لهم إلا حقا وصدقا، ولكن المستشرقين وكما هي عادتهم فيما يتصل بالإسلام والمسلمين يحيدون ويجانبون المنهجية العلمية الصحيحة في البحث والنقل، ولكنهم واقعيون إذا كان الأمر متعلقا بتراثهم وبحوثهم العلمية.
وفيما يتصل بقصص القرآن الكريم ، ينحى المستشرقون منحى الفصل بين القصص وبين الوحي الإلهي ، ويَزِنُون القصص بالميزان المادي التاريخي البحث، والذي به يخضعون الحقائق إلى تأويلات وتفسيرات خاطئة يبنون عليها مدلولاتهم، ويدعمون بها نظرياتهم، ويبرهنون عليها في كتاباتهم بما لا يصدقه عقل ولا يعتمد عليه يقين، مما حدا بهم إلى الوقوع في المتناقضات، والوصول إلى نتائج وبراهين لا يمكن التصديق بها، ولا التسليم بمضامينها من خلال المنظور الإسلامي، والمنهج العلمي الصحيح. ولا ننسى بحال العامل الاقتصادي الذي بات ظاهرا بشكل ملفت للأنظار في كتابات وشبهات المستشرقين، والذي كان نتاجا طبيعيا للمنهج المادي التاريخي، ولذلك جعل المستشرقون العامل الاقتصادي ميزانا يحتكمون إليه،وجعلوه المحرك الأساسي لمنهجهم المادي التاريخي، واصبح الاقتصاد هو المعتمد عندهم في التحليلات والتأويلات والتفسيرات التي يبنون عليها النتائج، ويستدلون في كتاباتهم على أن الصراع الطبقي ، والنواحي المادية والاقتصادية هي السبب في إسلام السابقين الأولين، وان غزوات الرسولr كان الدافع وراءها والمحرك القوي لها هو العامل الاقتصادي الصرف، مستبعدين بذلك الوحي الإلهي ، والدين الحق الذي جاء به نبينا r ، مروجين لأفكارهم أن العامل الاقتصادي ، والصراع الطبقي، والماديات هي المحرك الأوحد لعجلة الحياة.
والمتمعن فيما سبق يتبين له أن المستشرقين درسوا القرآن الكريم بقصصه وحقائقه على أنه نتاج مادي تاريخي، لا أنه وحيا من الله وعقيدة ودينا جاء به دين الإسلام، يقول د. ساسي الحاج” ينطلقون( أي المستشرقون) من منظور مادي للظواهر الفكرية التي يدرسونها، وعدم تقيدهم بالمقومات الدينية و العقدية أو الروحية نتيجة تأثرهم ببيئتهم الأوروبية التي تربوا فيها وأخذوا منها مناهجها وطرق معالجتها للحضارات، والأفكار الإنسانية وبكونها ترفض كل مصدر سابق للمعرفة باسم الوحي أو الدين ، والاعتماد على الفلسفة الوضعية وإخضاع الدراسات الإنسانية إلى مناهج العلوم التجريبية و لا ريب أن هذه المناهج لا تؤدي إلى نتائج علمية مستساغة عند تطبيقها على القضايا الإيمانية مثل الوحي والنبوة، و دورهما في حياة البشرية”[نقد الخطاب الاستشراقي في الظاهرة الاستشراقية وأثرها في الدراسات الإسلامية ]، ويقول في موضع آخر” فالأبحاث و الدراسات التي أنجزت حول التراث الإسلامي خرجت عن المقتضيات المنطقية و المنهجية العلمية في معالجة النصوص الإسلامية وذلك باعتمادها على مصادر خارجية و عوامل داخلية، بذل المستشرقون جهدا ضخما في تأصيلها باعتبارها مصادر للقرآن الكريم بالرغم أنها لا تصمد أمام النقد الموضوعي و البحث المتأني،
ضمن هذا السياق نشير إلى ما ذكره المستشرق (هنري لمنس ) بأن الرسولr اعتنق الوحدانية و آمن بالبعث والحساب ووجد نفسه متفقا في هذه المعتقدات مع اليهودية والمسيحية و أنه مادام ليس هناك سوى اله واحد، فليس هناك إلا وحي الهي واحد، وأنه مدعو لنشر هذه الحقائق بين أبناء جلدته و بلغتهم ..أي صياغة الوحي العالمي باللغة العربية”[نقد الخطاب الاستشراقي في الظاهرة الاستشراقية وأثرها في الدراسات الإسلامية] .
إن المنهج المادي التاريخي لدى المستشرقين عند دراستهم للإسلام والقرآن، ومن ذلك القصص القرآني، أصل في إلقاء التهم، وتشويه الدين، وإظهار الرسولr مظهر الشخص المادي الدنيوي، يقول المستشرق (هوبرث جريم ) “أن محمداً لم يكن في بداية أمره يسعى إلى التبشير بدين جديد وكان هدفه محصوراً في إصلاح مجتمعه في مكة ومن هنا استخدم فكرة الحساب يوم القيامة كوسيلة للضغط على الأغنياء لقبول خطته الرامية في الإصلاح الاجتماعي”[نقد الخطاب الاستشراقي في الظاهرة الاستشراقية وأثرها في الدراسات الإسلامية ص 299]، وهذا دأب المناهج الاستشراقية في دراسة القرآن الكريم وعلومه، إذ أنها تفتقد الشفافية والعدالة والمنهجية العلمية الصحيحة، وذلك لأنها تعتمد كليا على المنهج المادي المحسوس البحت، والتطور العقلي المحض ، وهذا لا يمكن بحال أن يتماشى ودراسة القرآن الكريم، الكتاب الإلهي الذي لا يخضع للتجارب المادية، ولا لمسلمات وأحكام العقل البشري، فالقرآن الكريم كلام الله ووحيه إلى رسوله محمد ، فهو منزه عن كل نقص وعيب، وكل ما جاء فيه حقائق لا يشوبها ريب ولا شك، ولا يمكن لعقل بشري أن يأتي بمثله أبدا، ويستحيل على القوة العقلية البشرية أن تأتي ولو بشيء يسير من مثله، كما قال عز وجل( قُلْ لَئِنْ اِجْتَمَعَتْ الْإِنْس وَالْجِنّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآن لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) الإسراء ٨٨ ، يقول د. حسن عزوزي ” إذا كان علماء الأديان الغربيون قد درسوا التوراة والأناجيل وفق تلك المناهج المادية في إطار من الدراسات الدينية المقارنة فإن أمر القرآن الكريم يختلف عن ذلك، فهو وحي إلهي لم تمسه تحريفات الإنسان أو تغييرات الزمان، لذلك وجب على من يدرسه ويحلل قضاياه أن يدرسه بعقلية تؤمن بالغيب وما يترتب على ذلك، ليس من المتاح لفئات المستشرقين قدامى كانوا أو معاصرين التخلص من خلفياتهم الفكرية التي نسجتها بيئات معينة وظروف خاصة، ولا من رؤاهم المادية والتغريبية التي أملتها في البحث والتحليل”[آليات المنهج الاستشراقي، د. حسن عزوزي].
وخلاصة القول فيما سبق، أن المنهج المادي التاريخي هو الميزان التحليلي، الذي يحلل به المستشرقون القصص القرآني والحقائق التراثية الإسلامية، بعيدين عن كل موضوعية وحيادية مستغلين العدائية المتغلغلة في قلوبهم لبث سمومهم، وترويج أفكارهم الباطلة، لتنطلي على من قل نصيبه من فهم معاني الإسلام السامية، وحقائقه الدائمة، وتعاليمه الثابتة والصالحة لكل زمان ومكان، وليس لأعداء الإسلام من المستشرقين من أهداف سوى تشويه محاسن الإسلام، والصد عن القرآن، ووصم القصص القرآني الحق بالأساطير والخيالات، وهذه الأقوال ما تعدو عن كونها امتداد مستميت لما قاله الأولون من أسلافهم من قريش ويهود وغيرهم من ملل الكفر والإلحاد، وصدق الله جل في علاه حين أخبرنا عنهم بقوله(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْك وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) الأنعام ٢٥ وقوله سبحانه (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبّكُمْ قَالُوا أَسَاطِير الْأَوَّلِينَ) النحل ٢٤ .
