وقوله: «مع المرفقين» تعبير المؤلِّف بـ «مع» من باب التَّفسير والتوضيح.
ثم يمسح كلّ رأْسِه مع الأُذُنَيْن مَرَّةً واحدةً، ……..
قوله: «ثم يمسحُ كُلَّ رأسه مع الأُذنين مَرَّةً واحدةً»، أي: لا يغسلُه، وإنَّما يمسحُه، وهذا من تخفيف الله تعالى على عباده؛ لأن الغالب أنَّ الرَّأس فيه شعرٌ فيبقى الماءُ في الشَّعر؛ لأن الشعر يمسكُ الماءَ فينزل على جسمه، فيتأذّى به؛ ولا سيَّما في أيَّام الشِّتاء.
وقوله: «مع الأُذنين» دليلُ ذلك:
1 ـ ثبوته عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يمسحُ الأُذنين مع الرَّأس .
2 ـ أنَّهما من الرَّأس .
3 ـ أنَّهما آلة السَّمع، فكان من الحكمة أن تُطَهَّرا حتى يَطْهُرَ الإِنسانُ ممَّا تلقَّاه بهما من المعاصي.
ثُمَّ يَغسل رجْلَيْه معَ الكعبين ……..
قوله: «ثم يغسل رجليه مع الكعبين»، الكلامُ على قوله: «مع الكعبين» كالكلام على قوله: «مع المرفقين»، وكلمة «مع» ليس فيها مخالفةٌ للقرآن؛ لأن «إلى» في قوله تعالى: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] بمعنى «مع» لدلالة السُّنَّة على ذلك؛ كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنه توضَّأ فغسل ذراعيه حتى أشرع في العَضُد، ورجليه حتى أشرع في السَّاق، وقال: هكذا رأيتُ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم يفعلُ (رواه مسلم). وعلى هذا فالكعبان داخلان في الغسل وهما: العظمان الناتئان في أسفل السَّاق.
فيجبُ غسلُهما، وهذا الذي أجمع عليه أهل السُّنَّة لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] بنصب «وأرجلَكم» عطفاً على «وجوهَكم» وهذه قراءة سَبْعيَّة.
وأما قراءة «وأرْجُلِكُمْ» بالجرِّ، وهي سَبْعِيَّةٌ أيضاً (قرأ بها: ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة. انظر: «السَّبعة» لابن مجاهد ص (242)، فتُخرَّج على ثلاثة أوجه:
الأول: أنَّ الجرَّ هنا على سبيل المجاورة، بمعنى أنَّ الشيء يتبع ما جاوره لفظاً لا حكماً، والمجاور لها «رؤوسكم» بالجرِّ،
فتجرُّ بالمجاورة. ومنه قول العرب: «هذا جُحر ضَبٍّ خَرِبٍ» بجرِّ خَربٍ، مع أنَّه صِفةٌ لجُحر المرفوع، ومقتضى القواعد رفع خَرب، لأن صفة المرفوع مرفوع، ولكن العرب جرَّته على سبيل المجاورة (1).
الثاني: أن قراءة النَّصب دلَّت على وجوب غسل الرِّجلين.
وأما قراءة الجر؛ فمعناها: اجعلوا غسلكم إِيَّاها كالمسح، لا يكون غسلاً تتعبون به أنفسكم؛ لأن الإِنسان فيما جرت به العادة قد يكثر من غسل الرِّجلين ودلكها؛ لأنَّها هي التي تباشر الأذى، فمقتضى العادة أن يزيد في غسلها، فقُصدَ بالجرِّ فيما يظهر كَسْرُ ما يعتادهُ النَّاسُ من المبالغة في غسل الرِّجلين؛ لأنهما اللتان تلاقيان الأذى.
الثالث: أن القراءتين تُنزَّلُ كلُّ واحدة منهما على حال من أحوال الرِّجل، وللرِّجل حالان:
الأولى: أن تكونَ مكشوفةً، وهنا يجب غسلها.
الثانية: أن تكونَ مستورةً بالخُفِّ ونحوه فيجب مسحُها.
فتُنَزَّل القراءتان على حالَيْ الرِّجْل، والسُّنَّةُ بيَّنت ذلك، وهذا أصحُّ الأوجه وأقلُّها تكلُّفاً، وهو متمشٍّ على القواعد، وعلى ما يُعرَفُ من كتاب الله تعالى حيث تُنزَّلُ كلُّ قراءة على معنى يناسبها.
ويكون في الآية إشارة إلى المسح على الخفَّين.
ويغسلُ الأقطعُ بقيَّة المفْرُوضِ، فإن قُطِعَ من المَفْصِل غَسَلَ رَأْسَ العَضُد منه، ………
قوله: «ويغسلُ الأقطعُ بقيَّة المفروضِ»، أراد رحمه الله أقطعَ اليدين؛ بدليل قوله: «غَسَلَ رأسَ العَضُد منه».
فيغسلُ الأقطعُ بقيةَ المفروض، ولا يأخذ ما زاد على الفرض في المقطوع.
فمثلاً: لو أنه قُطِعَ من نصف الذِّراع، فلا يرتفعُ إلى العَضُدِ بمقدار نصفِ الذِّراع؛ لأن العَضُدَ ليس محلًّا للغسل، وإِنما يغسلُ بقيَّة المفروضِ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وهذا اتقى الله ما استطاع.
ولقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أمَرتُكُم فأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم» (رواه البخاري)، وما قُطِعَ سقط فرضُه.
قوله: «فإِن قُطِعَ من المَفْصِل غَسَلَ رَأْسَ العَضُد منه»، يعني إِذَا قُطِعَ من مفصل المِرْفق غَسَلَ رأسَ العَضُد، لأن رأس العَضُد مع المرفق في موازنة واحدة.
وقد سبقَ أنه يجبُ غسلُ اليدين مع المرفقين، ورأسُ العَضُدِ داخلٌ في المرفق فيجب غسلُه، وإِن قُطِع من فوق المفصل لا يجبُ غسلُه.
وهكذا بالنسبة للرِّجل إِن قُطِعَ بعضُ القدمِ غَسلَ ما بقيَ، وإِن قُطِع من مفصل العَقِبِ غسلَ طرفَ السَّاقِ؛ لأنَّه منه.
وهكذا بالنسبة للأُذُن إِذا قُطِعَ بعضُها مسح الباقي، وإِن قُطِعت كلُّها سقطَ المسحُ على ظاهرِها، ويُدخِلُ أصبعيهِ في صِمَاخ الأُذنين.
ثم يرفعُ بصرَهُ إلى السَّماءِ ………..
قوله: «ثم يرفعُ بصره إلى السَّماء»، هذا سُنَّةٌ إِن صحَّ الحديث، وهو ما رُويَ أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من توضَّأ فأحسن الوُضُوء، ثم رفع نظره إلى السَّماء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله؛ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فُتحت له أبواب الجنَّة الثمانية، يدخل من أيِّها شاء» (رواه أحمد) وفي سنده مجهولٌ، والمجهولُ لا يُعلم حاله: هل هو حافظ، أو عدل، أو ليس كذلك، وإِذا كان في السند مجهولٌ حُكِمَ بضعف الحديث.
والفقهاء ـ رحمهم الله ـ بَنَوا هذا الحكمَ على هذا الحديث. وعلى تعليل وهو: أنه يرفعُ نظرَه إلى السَّماء إِشارةً إلى عُلوِّ اللَّهِ تعالى حيثُ شَهِدَ له بالتَّوحيد.
ويقولُ ما وَرَدَ، ………..
قوله: «ويقول ما وَرَدَ»، وهو حديث عمر رضي الله عنه: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التَّوابين، واجعلني من المتطهِّرين، فإِنَّ من أسبغ الوُضُوء ثم قال هذا الذِّكر؛ فُتِحَتْ له أبوابُ الجنَّة الثَّمانية، يدخل من أيّها شاء» (رواه مسلم).
وناسب أن يقول هذا الذِّكر بعد الوُضُوء، لأن الوُضُوء تطهيرٌ للبَدَن، وهذا الذِّكر تطهيرٌ للقلب؛ لأن فيه الإخلاص لله.
ولأن فيه الجمع بين سؤال الله أن يجعله من التَّوابين الذين طهَّروا قلوبهم، ومن المتطهِّرين الذين طهَّروا أبدانهم.
وقال بعض العلماء: إِن هذا الذِّكر يُشَرعُ بعد الغسل والتيمُّم (2) أيضاً، لأن الغسلَ يشتمل على الوُضُوء وزيادة، فإِن
من صفات الغسل المسنونة أن يتوضَّأ قبله.
ولأنَّ المعنى يقتضيه.
وأمَّا التيمُّم فلأنه بدل على الوُضُوء، وقد قال الله تعالى بعد التيمم: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] فكان مناسباً.
ويرى بعضُ العلماء: أنه يقتصر على ما وَرَدَ في الوُضُوء فقط.
وهو ظاهر كلام الأكثر، قال في «الفروع»: «ويتوجَّهُ ذلك بعد الغُسل؛ ولم يذكروه» ، وقال في «الفائق»: «قلت: وكذا يقوله بعد الغُسل» .
وهذا ـ أعني الاقتصار على قوله بعد الوُضُوء ـ أرجح؛ لأنَّه لم يُنقل بعد الغُسل والتَّيمم، وكلُّ شيء وُجِدَ سَبَبُهُ في عهد النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم ولم يمنعْ منه مانع، ولم يفعله، فإِنه ليس بمشروع. نعم؛ لو قال قائل باستحبابه بعد الغُسل إِن تَقَدَّمهُ وُضُوء لم يكن بعيداً إِذا نواهُ للوُضُوء.
وقول هذا الذِّكر بعد الغسل أقربُ من قولِه بعد التيمُّم؛ لأنَّ المغتسل يصدق عليه أنه متوضِّئ.
وتُبَاحُ معونتُه، ………..
قوله: «وتُباحُ معونتُه»، أي: معونة المتوضِّئ، كتقريب الماء إليه وصَبِّه عليه، وهو يتوضَّأ، وهذه الإباحة لا تحتاج إلى دليل؛ لأنها هي الأصل.
وقد دَلَّ أيضاً على ذلك: أن المغيرةَ بن شعبة رضي الله عنه صَبَّ الماءَ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يتوضَّأ (رواه مسلم).
فإن قلت: ألا يكون هذا مشروعاً؛ لأنَّه من باب التَّعاون على البِرِّ والتقوى، فلا يقتصر على الإباحة فقط، بل يُقال: إنه مشروع؟
فالجواب: لا شك أنَّه من باب التَّعاون على البِرِّ والتَّقوى، ولكن هذه عبادة ينبغي للإِنسان أن يُباشِرَها بنفسه، ولم يردْ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه كُلَّما أراد أن يتوضَّأ طلب من يُعينه فيه.
وقال بعضُ العلماء: تُكرَهُ إِعانةُ المتوضِّئ إلا عند الحاجة ؛ لأنَّها عبادة ولا ينبغي للإِنسان أن يستعينَ بغيره عليها، والمذهب أصَحُّ.
وتَنْشِيفُ أعضائِه.
قوله: «وتنشيفُ أعضائه»، التنشيف بمعنى: التجفيف.
والدَّليل: عدم الدَّليل على المنع، والأصل الإباحة.
فإن قلت: كيف تجيبَ عن حديث ميمونة رضي الله عنها بعد أن ذكرت غُسْلَ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قالت: «فَنَاولتُهُ ثَوباً فلم يأخُذْهُ، فانطلق وهو يَنْفُضُ يديه» (رواه البخاري).
فالجواب: أن هذا قضيَّة عين تحتمل عِدَّة أمور:
إِما لسببٍ في المنديل، كعدم نظافته، أو يُخشى أنْ يُبِلَّهُ بالماء وبلَلُه بالماء غيرُ مناسب أو غير ذلك.
وقد يكونُ إِتيانُها بالمنديل دليلاً على أنَّ من عادتِه أن ينشِّفَ أعضاءه وإلا لم تأت به.
والصَّوابُ: ما قاله المؤلِّف أنه مباحٌ.