المنهج الانتقائي في استعمال المصادر في كتابات المستشرقين عن قصص القرآن الكريم…..د. ناجي بن وقدان

 

إن من المتعارف عليه بين العلماء والباحثين من قديم وحديث، أن نجاح أي منهج أو أية دراسة ، يتوقف على وفرة المصادر والمراجع والمنابع المعتمدة وعلو قيمتها وصفاء جوهرها، ونقاء مضمونها، لأن هذه الروافد والمراجع هي روح التغذية وقاعدة التمويل العلمي التي تعتمد عليها آليات الدراسة والبحث، فالمصادر والمنابع إذا كانت ذات أصالة وذات علاقة مباشرة بموضوع البحث والدراسة، كان النجاح وحصول الهدف والمراد هو النتيجة المنشودة من البحث، يقول د. حسن عزوزي” في إطار البحث الاستشراقي يتبين أن المنهج المتبع في انتقاء المصادر المعينة على بحث الموضوعات المرتبطة بالقرآنيات يتنوع ويختلف تبعاً لطبيعة الموضوعات المطروقة من جهة، ولمدى موضوعية المستشرق وأمانته العلمية أو حياده على الأقل في توظيف تلك المصادر والنقل عنها من جهة ثانية”[مناهج المستشرقين البحثية في دراسة القرآن الكريم].

      ومن الملاحظ على دراسات المستشرقين لقصص القرآن الكريم أنها تعاني من الخلل المنهجي، وذلك لارتباط القرآن الكريم وقصصه بالوحي المنزل من عند الله تبارك وتعالى، وقد ذكرت سابقا أن المستشرقين واقعيون في بحوثهم ودراساتهم العلمية، إلا إذا كانت تلك البحوث والدراسات تتعلق بكل ما يتصل بالتراث الإسلامي، فإن المنهجية العلمية تنحرف عن الطريق الصحيح، بعيدا عن الأمانة العلمية، ولعل ذكر بعض مواطن الخلل المنهجي عندهم هنا ، يتضح معها انصراف المنهجية البحثية عن المسار الصحيح، وفيما يلي الإشارة إلى بعض تلك النقاط:

أولا: اختيار مراجع ومصادر معينة ومحدودة من مصادر ومراجع علوم القرآن دون غيرها.  

وهذا واضح جلي في دراسات المستشرقين لعلوم القرآن الكريم بما فيها القصص الحق، إذ أن هذه المصنفات القرآنية المحدودة التي يعتمدها المستشرقون في كتاباتهم عن القرآن الكريم عامة وفي قصصه خاصة ، كُتب جامعة لم تتحر الصحة والنقد والرواية السليمة والصحيحة، ولذلك نجد من المستشرقين أمثال نولدكة، وبيل، وبلاير، وبورتون في جمع القرآن لا يتجاوزون كتب المصاحف لابن أبي داود، والاتقان للسيوطي، والفهرست لابن النديم، بينما لا نجد عندهم كتبا معتمدة تتضمن المأثورات والأحاديث والروايات الصحيحة المعتمدة في كتب السنة والصحاح أو حتى في كتب المفسرين، ولم يتقصوا أيضا ما بينته مذاهب التفسير كله ولو أنهم فعلوا ذلك وتتبعوا جوانب التفسير الفقهية والتشريعية، وفهموا مقاصد اللغة والنحو وتقصوا الآثار، وذلك من خلال كتب التفسير المتوفرة آنذاك ، لظهرت لهم حقائق لم تظهر لهم من قبل، وهي أن النصوص القرآنية خصيبة ومليئة بل وثرية بالمعاني والحقائق والدلائل التي قد لا تظهر للباحث من أول وهلة، ولذلك نرى عميد المستشرقين جولد تسيهر يهمل ويغفل كثيرا من آثار التفسير تجاهلا وتعمدا وذلك ليظهر للناس أن تراث المسلمين من علوم التفسير ما هي إلا رذاذا متناثرا فرقته الأهواء والأحزاب والأفكار المختلفة والمتناحرة، وما أدل على ذلك من كتابه العقيدة والشريعة في الإسلام[قام بترجمته إلى العربية د. محمد يوسف موسى وزملائه، دار الكتب الحديثة، القاهرة] وكتابه مذاهب التفسير الإسلامي[قام بترجمته إلى العربية د. علي حسن عبدالقادر، مطبعة العلوم، القاهرة] وما جاء فيهما من المغالطات والتشكيكات والتشويه لأمور الإسلام وأحكامه وتشريعاته.

ثانيا: تتبع الآثار والروايات الضعيفة والموضوعة والمنقطعة من مصادر علوم القرآن والاستشهاد بها لإثبات افتراءاتهم وشبهاتهم.

      يعتمد المستشرقون في دراساتهم لعلوم القرآن الكريم، ومنها القصص القرآني ، على الأخبار الضعيفة والموضوعة، وهذا أمر يتفق عليه أولئك القوم، وذلك لأن الهدف الذي يسعون إليه هو التشكيك في كل ما يتعلق ويتصل بدين الإسلام، لتحقيق الغاية الكبرى وهي صد الناس عن الدخول فيه، وهذا امر لا يختلف عليه اثنان. ولم يتوقف هذا المنهج الاستشراقي عند تتبع الأخبار الضعيفة فحسب، بل يتعدى الأمر إلى اختيار الكتب التي تحمل الكثير في بطونها من هذه الأخبار والآثار الواهية المنقطعة والموضوعة ، والتي يرمون من ورائها إلى بناء أحكامهم ، وأغراضهم المرجوة ، وقد وجدوا ما سعوا إليه من تلك الكتب وأفادوا منها ما يبتغون. ولقد سلك المستشرقون مسلكا آخر في الطعن والتشكيك في القرآن الكريم وقصصه وفي السنة الشريفة، وهو ضرب الأدلة والآثار بعضها ببعض ونقض ما هو مشهور عند المسلمين عن تاريخ النصوص القرآنية، ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر، المستشرق ولش كاتب مادة القرآن في دائرة المعارف الإسلامية[دائرة المعارف الإسلامية الجزء الخامس] قد وجد فيما أورده السيوطي في الإتقان[لإتقان في علوم القرآن] من روايات مختلفة ومتباينة عن أول من جمع القرآن الكريم بابا يلجه، لكي يعرض أمام القراء جملة من الروايات الضعيفة التي تسند الأولية في جمع القرآن تارة إلى عمر رضي الله عنه، وتارة إلى علي t، وينقل عن ابن أبي داود أيضا رواية مفادها أن أبا بكر رضي الله عنه بدأ بالجمع، ثم أكمل ذلك عمر رضي الله عنه ، وينقل أيضاً رواية عن ابن سعد في طبقاته[الطبقات الكبرى] مفادها أن عمر رضي الله عنه توفي ولم يكمل جمع القرآن، يقول د. حسن عزوزي” ومختلف هذه الروايات الضعيفة والمنقطعة تتعارض مع ما جاء في صحيح البخاري من أن أول من جمع القرآن هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه [رواه البخاري] وقد وجد معظم المستشرقين في كتاب “المصاحف” لابن أبي داود ضالتهم المنشودة، ومعروف عن ابن أبي داود أنه كان يجمع كل ما بلغه في شأن جمع القرآن واختلاف مصاحف الصحابة دون تمحيص أو تثبت”[مناهج المستشرقين البحثية في دراسة القرآن الكريم] ، ولذلك أقول إن تتبع الأحاديث الضعيفة والآثار الموضوعة، والروايات المنقطعة، هو المنهج المتأصل لدى المستشرقين، لصرف الأنظار عما صح وتواتر عن النبيr وتجاهل الكتب والمصادر المعتمدة لدى المسلمين، بقصد التشويه وضرب الصحيح بالسقيم ، وتغليب السقيم على الصحيح لتشكيك أهل الإسلام عن دينهم، وصد غيرهم عن اعتناقه والدخول فيه.

ثالثا: تصيد الأدلة والآثار والنصوص من كتب أخرى لا تغني عن الكتب الأصيلة، ككتب الأدب والتاريخ وغيرها.

من الأمور التي لا يُختلف عليها، أن المنهج البحثي عند أهل الإسلام يعتمد كلية على المراجع والمصادر الأصيلة والموثوقة، والتي تخرج بها المادة العلمية خالصة وسليمة من التشويش والاضطراب والشكوك، وهذا ما تشدد عليه الكثير من الجامعات والمرافق العلمية البحثية في بلاد المسلمين، وتوصي طلابها وباحثيها دائما بالتروي وتحري الآثار والروايات الصحيحة والمتواترة عن النبيr وأصحابه وعن علماء المسلمين المشهود لهم بالثقة والأمانة العلمية، أما إذا نظرنا بتمعن إلى آليات المنهج البحثي الاستشراقي في الدراسات الإسلامية، فإننا نجد المستشرقين ينحون منحى المغالطات والاستنتاجات الخاطئة ، وتأكيد الأحكام المغرضة تجاه كل ما هو إسلامي، وذلك بتجاهل المصادر القرآنية الموثوقة التي لا يجدون فيها بغيتهم من الكيد والتشويه، والاتجاه نحو المصادر الأخرى ككتب الأدب والسير والتاريخ التي يجدون فيها مرتعهم من الروايات الضعيفة والمنقطعة والموضوعة، مع علمهم المسبق بما تسببه هذه المنهجية من مصادمات للأمور والثوابت الجوهرية لدى المسلمين، والتي ترتبط مباشرة بالقرآن والسنة والتراث الإسلامي الصحيح فيما يتصل بالقصص وغيره ، يقول أ. د. سعدون الساموك ” يعتمد المستشرقون الأخبار الضعيفة والبناء عليها حيث تقودهم إلى نتائج واستنتاجات غير صحيحة، ويغفلون الروايات التي تناقض النتائج التي يقرونها”[الاستشراق ومناهجه في الدراسات الإسلامية ص 93] .

     قلت والحقيقة أن الكثير من هؤلاء المستشرقين ، ويتبعهم في ذلك دعاة التغريب في مجتمعات المسلمين، قد اعتمدوا مثل تلك المصادر والكتب والمراجع التي تحوي هذه الروايات الضعيفة والمنقطعة والموضوعة، وشددوا في توجيه الباحثين من التغريبيين من أبناء المسلمين، في اعتمادها كمراجع ومصادر لبحوثهم، وبذلوا لها جل اهتمامهم، وقاموا بإعادة طباعتها مرات عديدة، لعلمهم ما لها من دور فعال في مواجهة التراث الإسلامي الصحيح، والعمل على إفساد حقائقه، وتنقل صورا خاطئة عن الوقائع والحوادث بقصد التشكيك والتشويه لحقائق الإسلام، وصد الناس عن الدخول فيه، وزرع الخلخلة والتذبذب في نفوس أهله.

رابعا:الاهتمام البالغ بالدراسات الاستشراقية السابقة وتجاهل المصادر القرآنية الأصيلة.

من الملاحظ على دراسات المستشرقين للقرآن الكريم وقصصه، البعد عن المنهجية العلمية الصحيحة، والتي من أساسياتها اختيار المراجع والمصادر الموثوقة والمعتمدة لدى المستهدفين بالدراسات وهم المسلمون وتراثهم ، فهم يتعمدون اعتماد المراجع التي لا تهتم بالتوثيق والمصداقية العلمية ، ولذلك فالمستشرق الذي يريد ترسيخ مبدأ أو فكرة معينة، لا يلق أي اهتمام إلى المصادر التي تكشف ما يرمي إليه، فهو في غالب أمره يتعمد إلى تقديم كتب ثانوية وغير موثقة يقول د. حسن عزوزي” وهذا المنهج الخاطئ كفيل بأن يؤدي إلى نتائج مغلوطة وخاطئة ,ويبدو أن من أعظم أخطاء هذا المنهج المتمثل في عدم ترتيب المصادر حسب موثوقيتها وقيمتها هو تقديم كتب المستشرقين على غيرها من كتب العلماء المسلمين الأوائل في نقل الروايات، والنصوص القديمة”[مناهج المستشرقين البحثية في دراسة القرآن الكريم، ص 19]، ولذلك وقع هذا المنهج في الخطأ الفادح في عدم النظر في كتب العلماء المسلمين الأوائل الموثقة في نقل الروايات والآثار والنصوص، وتقديم كتب المستشرقين عليها، مما سبب الأخطاء التي بني عليها تصورات خاطئة عن التراث الإسلامي.

       وأورد هنا بعض الشواهد الدالة على المنهج الفاسد الذي يتبعه المستشرقون في الدراسات الإسلامية، والتراث الإسلامي، ومن هذه الشواهد المستشرق الفرنسي ريجي بلاشير، الذي لا يألوا جهدا في العمل بهذا المنهج العقيم، ففي كتاباته عن القرآن وقصصه وعن الدراسات الإسلامية عموما، يحيل إلى كتاب [ تاريخ القرآن ] لأستاذه المستشرق الألماني نولدكه ، ففي أي مسألة تتعلق بالقرآن وعلومه وتكون منقولة عند علماء المسلمين ومدرجة في كتبهم، فإن بلاشير يلجأ إلى الإحالة إلى كتاب شيخه نولدكه بداية، ثم ينوه بعد ذلك بكتاب الواحدي في أسباب النزول، وتفسير أبي حيان، ثم الإتقان للسيوطي وفي المقابل نرى المستشرق ولش في مادة القرآن يقول”لاشيء في القرآن يدل على أن معنى “الأمي” الذي لا يقرأ ولا يكتب”، وبدلا من أن يحيل إلى كتب التفسير يحيل مباشرة بعد قوله هذا على نولدكه في تاريخ القرآن ، ، وبلاشير في المدخل إلى القرآن ص 6- 12، ومن هنا يتضح لنا أن إحالة المستشرقين في المراجع والدراسات الإسلامية، إلى كتب إخوانهم وزملاءهم من المستشرقين أمر مطرد، وهذا ما أكدناه في بداية المطلب من أن المستشرقين يتعمدون عدم الرجوع إلى الكتب الأصيلة المعتمدة لدى المسلمين، لعلمهم أنها ستعارض ما يهدفون إليه من هدم الإسلام والصد عنه، بل والأمر من ذلك أن نجد في كتاب بلاشير عن القرآن الكريم إحالة مباشرة على كتاب نولدكه ثم يشير أيضا في الوقت نفسه إلى أن نولدكه أسند الإحالة إلى تفسير الإمام الطبري ، ثم يتبين لبلاشير أن عزو نولدكه لابن جرير الطبري غير صحيح، ومع هذا يترك المسألة كما هي دون تصحيح ، أو أن يعيرها أي اهتمام، بل يستمر في غيه وضلاله ، ممتطيا منهج أسلافه، مستشهدا بنقولهم وإحالاتهم ، بما يتوافق مع أهدافه ورغباته ، ويضاف إلى ما سبق أن الترجمة من المراجع الأجنبية لابد أن يغير الكثير من مضامين الترجمة ، خصوصا إذا كانت الترجمة تتصل بالأعلام أو الأمكنة، فلا علاج لها والحال هذه إلا الرجوع إلى المراجع والمصادر الأصلية لضمان جودة المعلومة وصحتها.

وفي قصة الغرانيق التي يرددها المستشرقون وعلى رأسهم المستشرق ر.ف.بودلي في كتابه حياة محمد حيث يقول”ولكنه، أي محمدا ، على الرغم من تلميحه لهم، أي كفار قريش، يوماً أن اللات والعزى ومناة قد يُرجى نفعها مع الله، إلا أنه قد عاد ونقض ذلك، فقد فطن إلى أن الأمر الذي يضطلع به لا يقبل مساومة، وأنه لن يجد مخرجا سهلاً” ، وقد وجدت هذه الفرية صدا ودحضا ممن وقفوا أنفسهم في التصدي لمثل هذه الشبهات والضلالات ، وردوها على اصحابها بالحجة والبرهان، مبطلين لها ولما جاء فيها من الكذب والافتراء، ومن هؤلاء الدعاة أ.د. مهدي رزق الله أحمد في كتابه السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، وكذلك الشيخ ناصر الدين الألباني – رحمه الله – في كتابه نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق ، وفيما أورده بودلي عن هذه القصة لا يصح، وقد جاء في صحيح البخاري ما يناقض ذلك تماما، ويرد فرية بودلي وغيره عليه[رواه البخاري] .

        والمقصود أن المستشرقين يتعمدون تجاهل مصادر الدين الإسلامي الأصيلة والصحيحة والموثوقة، ويعمدون إلى مراجع ومصادر أسلافهم في استشهاداتهم، وذلك بقصد التضليل والتشويه وقلب الحقائق وصد الناس عن دين الله عز وجل، ولكن الله بفضله ومنه قيض لهم من دعاة الحق من يفضح مكايدهم ويكشف ضلالاتهم ويرد عليهم مفترياتهم فلله الحمد والمنة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *