شرح العقيدة الواسطية…. للشيخ ابن عثيمين رحمه الله

 

 

القيامة الكبرى:

إلى أن تقوم القيامة الكبرى  فتعاد الأرواح إلى الأجساد …………………………………….

( 1 ) القيامة الكبرى هي التي يقوم فيها الناس من قبورهم لرب العالمين.

  • وأفادنا المؤلف رحمه الله بقوله:” القيامة الكبرى” أن هناك قيامة صغرى ، وهي قيامة كل إنسان بعينه؛ فإن كل إنسان له قيامة؛ فمن مات؛ قامت قيامته.
  • وسكت المؤلف رحمه الله عن أشراط الساعة؛ فلم يذكرها؛ لأن المؤلف إنما يريد أن يتكلم عن اليوم الآخر، وما أشراط الساعة إلا مجرد علامات وإنذارات لقرب قيام الساعة؛ ليستعد لها من يستعد. وبعض أهل العلم الذي صنفوا في العقائد ذكروا اشراط الساعة هنا، والحقيقة أنه لا تعلق لها في الإيمان باليوم الأخر، وإن كان تهي من الأمور الغيبية التي أشار إليها في القرآن وفصلها النبي صلى الله عليه وسلم في السنة.

( 2 ) الأمر الأول: مما يكون في القيامة.

ما أشار إليه المؤلف بقوله:” فتعاد الأرواح إلى الأجساد“.

هذا أول الأمور: ويكون بعد النفخة الثانية في الصور، وذلك بعد أن فارقتها بالموت، وهذه غير الإعادة التي تكون في البرزخ حين سؤال الميت عن ربه ودينه ونبيه، وذلك أن الله يأمر إسرافيل فينفخ في السور، فيصعق من في السماوات والأرض؛ إلا من شاء الله؛ ثم ينفخ فيه مرة أخرى فتتطاير الأرواح من الصور إلى أجسادها ، وتحل فيها .

وفي قول المؤلف:” إلى الأجساد“: إشارة أن الأرواح لا تخرج من الصور؛ إلا بعد أن تتكامل الأجساد مخلوقة؛ فإذا كملت خلقتها؛ نفخ في الصور، فأعيدت الأرواح إلى أجسادها.

وفي قوله” تعاد الأرواح إلى الأجساد” دليل على أن البعث إعادة وليس تجديداً، بل هو إعادة لما زال وتحول؛ فإن الجسد يتحول إلى تراب، والعظام تكون رميماً؛ يجمع الله تعالى هذا المتفرق، حتى يتكون الجسد، فتعاد الأرواح إلى أجسادها، وأما من زعم بأن الأجساد تخلق من جديد فإن هذا زعم باطل يرده الكتاب والسنة والعقل:

–       أما الكتاب؛ فإن الله عز وجل يقول: ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَن ) ( الروم: من الآية27 )؛ أي: يعيد ذلك الخلق الذي ابتدأه.

وفي الحديث القدسي:” يقول الله تعالى: ليس أول الخلق بأهون علي من إعادته” فالكل على الله هين.

وقال تعالى: ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ) ( الأنبياء: من الآية104 ).

وقال تعالى ( ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ) ( 15 ) ( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ) ( المؤمنون:15-16 )

وقال تعالى: ( قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) ( 78 ) ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) ( يّـس: ،78-79 ) .

وأما السنة؛ فيهي كثيرة جداً في هذا؛ حيث بين النبي صلى الله علي وسلم” أن الناس يحشرون فيها حفاة عراة غُرلاً”؛ فالناس هم الذين يحشرون، وليس سواهم.

فالمهم؛ أن البعث إعادة للأجساد السابقة.

فإذا قلت: ربما يؤكل الإنسان  من قبل السباع، ويتحول جسمه الذي أكله السبع إلى تغذية لهذا الأكل تختلط بدمه ولحمه وعظمه وتخرج في روثه وبوله؛ فما الجواب على ذلك ؟

فالجواب: أن الأمر هين على الله؛ يقول: كن! فيكون، ويتخلص هذا الجسم الذي سيبعث من كل هذه الأشياء التي اختلط بها، وقدره الله عز وجل فوق ما نتصوره؛ فالله على كل شيء قدير.

وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه ، وعلى لسانه رسوله وأجمع عليها المسلمون …………….

( 1 ) هذه ثلاثة أنواع من الأدلة: كتاب الله تعالى ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين.

فأما كتاب الله تعالى؛ فقد أكد الله تعالى في كتابه هذه القيامة، وذكرها الله عز وجل بأوصاف عظيمة، توجب الخوف والاستعداد لها:

فقال تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) ( يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) ( الحج:1، 2 ) .

وقال تعالى: ( الْحَاقَّةُ ) ( 1 ) ( مَا الْحَاقَّةُ ) ( 2 ) ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ) ( الحاقة:1، 3 ) .

وقال تعالى: ( الْقَارِعَةُ ) ( 1 ) ( مَا الْقَارِعَةُ ) ( 2 ) ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ) ( 3 ) ( يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ) ( 4 ) ( وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) ( القارعة:1-5 ) .

والأوصاف لها في القرآن كثيرة؛ كلها مروعة مخوفة؛ لأنها عظيمة، وإذا لم نؤمن بها؛ فلن نعمل لها؛ إذ لا يمكن للإنسان أن يعمل لهذا اليوم حتى يؤمن به وحتى يذكر له أوصافه التي توجب العمل لهذا اليوم.

وأما السنة؛ فالأحاديث في ذكر القيامة كثيرة، بين الرسول عليه الصلاة والسلام بها ما يكون فيها؛ كما سيأتي إن شاء الله في ذكر الحوض والصراط والكتاب وغير ذلك مما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم.

وأما الإجماع- وهو النوع الثالث-؛  فقد أجمع المسلمون إجماعاً قطعياً على الإيمان بيوم القيامة، ولهذا كان من أنكره؛ فهو كافر؛ إلا إذا كان غريباً عن الإسلام وجاهلاً؛ فإنه يعرف؛ فإن أصر على الإنكار بعد ذلك؛ فهو كافر.

وهناك نوع رابع من الأدلة، وهو الكتب السماوية؛ حيث اتفقت على إثبات اليوم الآخر، ولهذا كان اليهود والنصارى يؤمنون بذلك ، وحتى الآن  يؤمنون به، ولهذا تسمعونهم يقولون: فلان المرحوم ، أو: رحمه الله ، أو: ما أشبه ذلك؛ مما يدل على أنهم يؤمنون باليوم الآخر إلى يومنا هذا.

وثم نوع خامس، وهو العقل، ووجه ذلك أنه لو لم يكن هذا اليوم؛ لكان إيجاد الخلائق عبثاً والله عز وجل منزه عن العبث؛ فما الحكمة من قوم يخلقون ويؤمرون وينهون ويُلزمون بما يُلزمون به ويُندبون إلى ما يُندبون إليه ، ثم يموتون ، ولا حساب ، لا عقاب؟!

ولهذا قال الله تعالى: )أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) ( 115 ) (  )فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) ( المؤمنون:115،116 ).

وقال تعالى: ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) ( القصص: من الآية85 ).

كيف يُفرض القرآن ويُفرض العمل به، ثم لا يكون هناك معاد؛ نحاسب على ما نفذنا من هذا القرآن الذي فرض علينا؟!

فصارت أنواع الأدلة على ثبوت اليوم الآخر خمسة.

* * *

 

فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً ……………………………………….

( 1 ) الأمر الثاني مما يكون في القيامة:

ما أشار غليه بقوله: “فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حُفاة عراة غُرلاً؟”.

قوله:” من قبورهم: هذا بناء على الأغلب وإلا؛ فقد يكون الإنسان غير مدفون.

قوله:” لرب العالمين؛ يعني: لأن الله عز وجل يناديهم

قال الله تعالى: ( وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ) ( قّ:41 ) ( يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ) ( قّ:41،42 )؛ فيقومون لهذا النداء العظيم من قبورهم لربهم عز وجل.

قال الله تبارك وتعالى: ( أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ) ( 4 ) ( لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ) ( 5 ) ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) ( المطففين:4-6 ).

قوله:” حُفاة عُراة غُرلاً”: ” حُفاة”: ليس عليهم نعال ولا خفاف؛ يعني: أنه ليس عليهم لباس للرجل.

” عراة”: ليس عليهم لباس للجسد.

” غرلاً:” لم ينقص من خلقهم شيء، والغرل: جمع أغرل، وهو الذي لم يختن؛ أي أن القلفة التي قطعت منه في الدنيا تعود يوم القيامة؛ لأن الله يقول ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ) ( الانبياء: من الآية104 )؛ فيعاد كاملاً؛ لم ينقص منه شيء؛ يعودون على هذا الوصف مختلطين رجالاً ونساً.

ولما حدث النبي عليه الصلاة والسلام بذلك؛ قالت عائشة: يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! فقال:” الأمر أشد من أن يُهمهم ذلك “( وفي رواية: من أن ينظر بعضهم إلى بعض ).

فكل إنسان له شأن يغنيه: )يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ) ( 34 ) ( وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ) ( 35 ) ( وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ) ( 36 ) ( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) ( عبس:34-37 ).

لا رجل ينظر إلى امرأة ولا امرأة تنظر إلى رجل، حتى إن ابنه أو أباه يفر منه؛ خوفاً من أن يطالبه بحقوق له، وإذا كان هذا هو الواقع؛ فإنه لا يمكن أن تنظر المرأة إلى الرجل، ولا الرجل إلى المرأة؛ الأمر أشد وأعظم.

ولكن؛ مع ذلك؛ يكسون بعد هذا، وأول من يكسى إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .

* * *

وتدنو منهم الشمس ……………………………………………………………………..

( 1 ) الأمر الثالث مما يكون يوم القيامة:

ما أشار إليه بقوله:” وتدنو منهم الشمسُ

*” تدنو”: إي تقرب منهم الشمس، وتقرب منهم مقدار ميل.

 وهذا الميل سواء كان المسافة أو ميل المكحلة؛ فإنها  قريبة، وإذا كانت هذه حرارتها في الدنيا ، وبينها من البعد شيء عظيم؛ فكيف إذا كانت عن الرؤوس بمقدار ميل ؟!

قد يقول قائل: المعروف الآن أن الشمس لو تدنو بمقدار شعرة عن مستوى خطها؛ لأحرقت الأرض؛ فكيف يمكن أن تكون في ذلك اليوم بهذا المقدار من البعد، ثم لا تحرق الخلق؟

فالجواب على ذلك: أن الناس يحشرون يوم القيامة؛ ليسوا على القوة التي هم عليها الآن ، بل هم أقوى وأعظم وأشد تحملاً.

لو أن الناس الآن وقفوا خمسين يوماً في شمس لا ظل ولا أكل ولا شرب؛ فلا يمكنهم ذلك ، بل يموتون! لكن يوم القيامة  يبقون خمسين ألف سنة؛ لا أكل ولا شرب ولا ظل؛ إلا من أظله الله عز وجل، ومع ذلك؛ يشاهدون أهوالاً عظيمة؛ فيتحملون.

واعتبر بأهل النار؛ كيف يتحملون هذا التحمل العظيم؛( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا ) ( النساء: من الآية56 ).

وبأهل الجنة؛ ينظر الإنسان إلى ملكه مسيرة ألف عام إلى أقصاه؛ كما ينظر إلى أدناه؛ كما روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .

فإن قيل: هل أحد يسلم من الشمس؟

فالجواب: نعم هناك أناس يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ كما أخبر بذل النبي صلى الله عليه وسلم:” إمام عادل،  وشاب نشأ في طاعة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا علي وتفرقا عليه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً؛ ففاضت عيناه” 

وهناك أيضاً أصناف أخرى يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

وقوله: ” لا ظل إلا ظله”؛ يعني إلا الظل الذي يخلقه، وليس كما توهم بعض الناس أنه ظل ذات الرب عز وجل؛ فإن هذا باطل؛ لأنه يستلزم أن تكون الشمس حينئذ فوق الله عز وجل.

ففي الدنيا؛ نحن نبي الظل لنا، لكن يوم القيامة؛ لا ظل إلا الظل الذي يخلقه سبحانه وتعالى ليستظل به من شاء من عباده.

*  * *

ويلجمهم العرق………………………………………………………………………….

( 1 )الأمر الرابع  مما يكون يوم القيامة:

ما ذكره المؤلف رحمه الله بقوله” ويلجمهم العرق”.

*” يلجمهم”؛ أي يصل منهم إلى موضع اللجام من الفرس، وهو الفم، ولكن هذا غاية ما يصل إليه العرق، وإلا؛ فبعضهم يصل العرق إلى كعبيه، وإلى ركبتيه، وإلى حقويه، ومنهم من يلجمه، فهم مختلفون في هذا العرق، ويعرقون من شدة الحر؛ لأن المقام مقام زحام وشدة ودنو شمس؛ فيعرق الإنسان مما يحصل في ذلك اليوم؛ لكنهم على حسب أعمالهم.

فإن قلت: كيف يكون ذلك وهم في مكان واحد؟

فالجواب: إننا أصلنا قاعدة يجب الرجوع إليها ، وهي: إن الأمور الغيبية يجب علينا أن نؤمن بها ونصدق دون أن نقول: كيف؟! ولم؟! لأنه شيء وراء عقولنا، ولا يمكن أن ندركها أو نحيط بها.

أرابت لو أن رجلين دُفنا في قبر واحد: أحدهما مؤمن ، والثاني: كافر؛ فإنه ينال المؤمن من النعيم ما يستحق،  وينال الكافر من العذاب ما يستحق وهما في قبر واحد، وهكذا نقول في العرق يوم القيامة.

فإن قلت: هل تقول: إن الله سبحانه وتعالى يجمع من يلجمهم العرق في مكان ومن يصل إلى كعبيه في مكان، وإلى ركبتيه في مكان، وإلى حقويه في مكان؟

فالجواب: لا نجزم بهذا، والله أعلم ، بل نقول، من الجائز أن يكون الذي يصل العرق إلى كعبه إلى جانب الذي يلجمه العرق، والله على كل شيء قدير ، وهذا نظير النور الذي يكون للمؤمنين؛ يسعى بين أيديهم وبإيمانهم ، والكفار في ظلمة؛ فيوم القيامة يجب علينا أن نؤمن به وبما يكون فيه، أما كيف؟! ولم؟! فهذا ليس إلينا.

* * *

فتنصب الموازين فتوزن بها أعمال العباد ………………………………………………

( 1 )الأمر الخامس مما يكون يوم القيامة:

ما ذكره بقوله:” فتنصبُ الموازينُ فتوزن بها أعمالُ العبادِ”

*والمؤلف يقول:” الموازين”: بالجمع، وقد وردت النصوص بالجمع والإفراد:

فمثال الجمع: قول الله تعالى: ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ) ( الأنبياء: من الآية47 )وقال تعالى )وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) ( لأعراف:8 ) )وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ ) ( لأعراف:8-9 ).

–       وأما الإفراد؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:” كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم”

–       فقال:” في الميزان؛ فأفرد؛

فكيف نجمع بني الآيات القرآنية وبين هذا الحديث ؟!

فالجواب أن نقول:

إنها جمعت باعتبار الموزون؛ حيث أنه متعدد، وأفردت باعتبار أن الميزان واحد، أو ميزان كل أمة، أو أن المراد بالميزان في قوله عليه الصلاة والسلام:” ثقيلتان في الميزان:؛ أي: في الوزن.

ولكن الذي يظهر – والله أعلم – أن الميزان واحد، وأنه جمع باعتبار الموزون؛ بدليل قوله: ( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ) ( لأعراف: من الآية8 )

لكن يتوقف الإنسان: هل يكون ميزاناً واحداً لجميع الأمم أو لكل أمة ميزان؛ لأن الأمم كما دلت علي النصوص تختلف باعتبار أجرها ؟!

وقوله:” تنصب الموازين”: ظاهره أنها موازين حسية ، وأن الوزن يكون على حسب المعهود بالراجح والمرجوح، وذلك لأن الأصل في الكلمات الواردة في الكتاب والسنة حملها على المعهود المعروف ، إلا إذا قام دليل على أنها خلاف ذلك ، والمعهود المعروف عند المخاطبين منذ نزول القرآن الكريم إلى اليوم أن الميزان حسي، وأن هناك راجح ومرجوح.

وخالف في ذلك جماعة:

فالمعتزلة قالوا: إنه ليس هناك ميزان حسي، ولا حاجة له؛ لأن الله تعالى قد علم أعمال العباد وأحصاها، ولكن المراد بالميزان: الميزان المعنوي الذي هو العدل.

ولا شك أن قول المعتزلة باطل؛ لأنه مخالف لظاهر اللفظ وإجماع السلف ، ولأننا إذا قلنا: إن المراد بالميزان: العدل؛ فلا حاجة إلى أن نعبر بالميزان، بل نعبر بالعدل؛ لأنه أحب إلى النفس من كلمة ( ميزان ) ، ولهذا قال الله تعالى (  )إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ ) ( النحل: من الآية90 ).

وقال بعض العلماء: إن الرجحان للعالي؛ لأنه يحصل فيه العلو، لكن الصواب أن نجري الوزن على ظاهره، ونقول إن الراجح هو الذي ينزل ، ويدل لذل حديث صاحب البطاقة؛ فغن فيه أن السجلات تطيش وتثقل البطاقة، وهذا واضح بأن الرجحان يكون بالنزول.

وقوله: “فتوزن بها أعمال العباد” كلام المؤلف رحمه الله صريح بأن الذي يوزن: العمل.

وهنا مبحثان:

المبحث الأول: كيف يوزن العمل؛ والعمل وصف قائم بالعامل وليس جسماً فيوزن؟!

والجواب على ذلك: أن يقال: إن اله سبحانه وتعالى يجعل هذه الأعمال أجساماً ، وليس هذا بغريب على قدرة الله عز وجل ، وله نظير، وهو الموت؛ فإنه يجعل على صورة كبش، ويذبح بين الجنة والنار ، مع أن الموت معنى، وليس بجسم، وليس الذي يذبح ملك الموت، ولكنه نفس الموت حيث يجعله الله تعالى جسماً يشاهد ويرى، كذلك الأعمال يجعلها الله عز وجل أجساماً توزن بهذا الميزان الحسي.

المبحث الثاني: صريح كلام المؤلف أن الذي يوزن العمل؛ سواء كان خيراً أم شراً:

وهذا هو ظاهر القرآن؛ كما قال الله تعالى ( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ) ( الزلزلة:6 ) ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ) ( الزلزلة:7 ) ( وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) ( الزلزلة:6-8 ) فهذا واضح أن الذي يوزن العمل؛ سواء كان خيراً أم شراً.

وقال النبي عليه الصلاة والسلام:” كلمتان حبيبتان إلى الرحمن ، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان”  ، وهذا ظاهر أيضاً ، بل صريح في أن الذي يوزن العمل ، والنصوص في هذا كثيرة.

لكن هناك نصوص قد يخالف ظاهرها هذا الحديث:

منها حديث صاحب البطاقة؛ رجل يؤتى به على رؤوس الخلائق، وتعرض عليه أعماله في سجلات تبلغ تسعة وتسعين سجلاً كل سجل منها يبلغ مد المبصر، فيقر به ، فيقال له: ألك عذر أو حسنة؟ فيقول: لا؛ يا رب ! فيقول الله: بلى؛ إن لك عندنا حسنة. فيؤتى ببطاقة صغيرة، فيها: أشهد أن لا إليه إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقال: إنك لا تظلم قال: فتوضع السجلات في كفيه، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة…” الحديث  .

وظاهر هذا أن الذي يوزن صحائف الأعمال.

وهناك نصوص أخرى تدل على أن الذي يوزن العامل؛ مثل:

قوله تعالى: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) ( الكهف:105 )؛ ومع أنه قد ينازع في الاستدلال بهذه الآية؛ فيقال: إن معنى قوله: ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) ( الكهف: من الآية105 )؛  يعني: قدراً.

ومثل ما ثبت من حديث ابن مسعود رضي الله عنه؛ أنه كان يجتني سواكاً من الأراك، وكان رضي الله عنه دقيق الساقين، جعلت الريح تحركه، فضحك الصحابة رضي الله عنه دقيق الساقين، جعلت الريح تحركه، فضحك الصحابة رضي الله عنهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم:” مم تضحكون؟” قالوا: من دقة ساقية. قال: والذي نفسي بيده؛ لهما في الميزان أثقل من أحد”.

فصار ها هنا ثلاثة أشياء: العمل ، والعامل ، والصحائف.

فقال بعض العلماء: إن الجمع بينها أن يقال: إن من الناس من يوزن عمله، ومن الناس من يوزن صحائف عمله، ومن الناس من يوزن هو بنفسه.

وقال بعض العلماء: الجمع بينها أن يقال: أن المراد بوزن العمل أن  العمل يوزن وهو في الصحائف ، ويبقى وزن صاحب العمل فيكون لبعض الناس.

ولكن عند التأمل نحد أن أكثر النصوص تدل على أن الذي يوزن هو العمل، ويخص بعض الناس، فتوزن صحائف أعماله، أو يوزن هو نفسه.

وأما ما ورد في حديث ابن مسعود وحديث صاحب البطاقة؛ فقد يكون هذا أمراً يخص الله به من يشاء من عباده.

( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )…………………………………………………..

( 1 ) ( فمن ) شرطية وجواب الشرط جملة: ( فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )

وأتت الجملة الجزائية جملة أسمية بصفة الحصر ( فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) والجملة الاسمية تفيد الثبوت والاستمرار.

وجاءت باسم الإشارة الدال على البعد ( فَأُولَئِكَ ) ، ولم يقل: فهم المفلحون: إشارة إلى علو مرتبتهم.

وجاءت بصفة الحصر في قوله ( هم )، وهو ضمير فصل يفيد  الحصر والتوكيد، والفصل بين الخبر والصفة.

والمفلح: هو الذي فاز بمطلوبه ونجا من مرهوبه؛ فحصل له السلامة مما يكره، وحصل له ما يحب.

والمراد بثقل الموازين رجحان الحسنات على السيئات.

وقوله: ( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) فيه إشكال من جهة العربية؛ فإنة( مَوَازِينُهُ )  الضمير فيه مفرد، و( فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) فيه جمع.

وجوابه: أن ( من ) الشرطية صالحة للإفراد والجمع؛ فباعتبار اللفظ يعود الضمير إليها مفرداً، وباعتبار المعنى يعود الضمير إليها جمعاً.

وكما جاءت ( من ) فإنه يجوز أن تعيد الضمير إليها بالإفراد أو بالجمع ، وهذا كثير في القرآن، قل الله تعالى ( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً ) ( الطلاق: من الآية11 )؛ فتجد الأية الكريمة فيها مراعاة اللفظ ثم المعنى ثم اللفظ.

( وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ……………………….

( 1 )الإشارة هنا للبعد؛ لا نحطاط مرتبتهم، لا لعلو مرتبتهم.

قوله: ( خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ): الكافر قد خسر نفسه وأهله وماله: ( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ( الزمر: من الآية15 )بينما المؤمن العامل للصالحات قد ربح نفسه وأهله وماله وانتفع به.

فهؤلاء الكفار خسروا أنفسهم؛ لأنهم لم يستفيدوا من وجودهم في الدنيا شيئاً، بل ما استفادوا إلا الضرر، وخسروا أموالهم ، لأنهم لم ينتفعوا بها ، حتى ما أعطوه للخلق لينتفع به؛ فإنه لا ينفعهم؛ كما قال تعالى ( وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ ) ( التوبة: من الآية54 )، وخسروا أهليهم؛ لأنهم في النار؛ فصاحب النار لا يأنس بأهله، بل إنه مغلق عليه في تابوت، ولا يرى أ أحداً أشد منه عذاباً.

والمراد بخفة الموازين: رجحان السيئات على الحسنات، أو فقدان الحسنات أو فقدان الحسنات بالكلية، إن قلنا بأن الكفار توزن أعمالهم؛ كما هو ظاهر هذه الآية الكريمة وأمثالها وهو أحد القولين لأهل العلم.

والقول الثاني: أن الكفار لا توزن أعمالهم؛ لقوله تعالى ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ) ( 103 ) ( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) ( 104 ) ( أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) ( الكهف:103-105 ). والله أعلم.

 

  • * *

وتنشر الدواوين وهي صحائف الأعمال …………………………………………………

( 1 )    الأمر السادس مما يكون يوم القيامة:

وهو ما ذكره المؤلف بقوله:” وتنشرُ الدواوينُ”

*”وتنشر” أي: تفرق وتفتح لقارئها.

*و ” الدواوين”: جمع ديوان، وهو السجل الذي تكتب فيه الأعمال ، ومنه دواوين بيت المال، وما أشبه ذلك.

( 2 ) يعني: التي كتبتها الملائكة الموكلون بأعمال بني آدم؛ قال الله تعالى:( كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ) ( 9 ) ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ) ( 10 ) ( كِرَاماً كَاتِبِينَ ) ( 11 ) ( يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ) ( الانفطار:9-12 ).

فيكتب هذا العمل ويكون لازما للإنسان في عنقه؛ فإذا كان يوم القيامة؛ أخرج الله هذا الكتاب.

قال تعالى ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ) ( الإسراء:13 ) ( اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) ( الإسراء:13-14 ).

قال بعض السلف: لقد أنصفك من جعلك حسيباً على نفسك.

والكتابة في صحائف الأعمال: أما للحسنات ، وأما للسيئات، والذي يكتب من الحسنات ما عمله الإنسان، وما نواه، وما هم به؛ فهذه ثلاثة أشياء:

فأما ما عمله؛ فظاهر أنه يكتب.

وأما ما نواه؛ فإنه يكتب له، لكن يكتب هل أجر النية فقط كاملاً؛ كما في الحديث الصحيح في قصة الرجل الذي كان له مال ينفقه في سبل الخير، فقال الرجل الفقير: لو أن عندي مالاً؛ لعملت فيه بعمل فلان؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم” فهو بنيته؛ فأجرهما سواء”

ويدل على أنهما ليسا سواء في الأجر من حيث العمل: أن فقراء المهاجرين لما أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله ! إن أهل الدثور سبقونا فقال لهم صلى الله عليه وسلم:” تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين” فلما سمع الأغنياء بذلك؛ فعلو مثله، فرجع الفقراء يشكون إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال لهم:”  ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ولم يقل: إنكم أدركتم عملهم.

 ولأن هذا هو العدل؛ فرجل لم يعمل لا يكون كالذي عمل ، لكن يكون مثله في أجر النية فقط.

وأما الهم؛ فنقسم إلى قسمين:

الأول: أن يهم بالشيء ويفعل ما يقدر عليه منه، ثم يحال بينه وبين إكماله.

فهذا يكتب له الأجر كاملاً؛ لقوله تعالى: ( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ) ( النساء:100 ) .

وهذه بشرى لطلبة العلم إذا نوى الإنسان إنه يطلب العلم وهو يريد أن ينفع الناس بعلمه ويذب عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وينشر دين الله في الأرض، ثم لم يقدر له ذلك؛ بأن مات مثلاً، وهو في طلبه؛ فإنه يكتب له أجر ما نواه وسعى إليه.

بل إن الإنسان إذا كان من عادته العمل، وحيل بينه وبينه لسبب؛ فإنه يكتب له أجره ، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ” إذا مرض العبد أو سافر؛ كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً”

القسم الثاني:: أن يهم بالشيء ويتركه مع القدرة عليه؛ فيكتب له به حسنة كاملة؛ لنيته.

وأما السيئات؛ فإنه يكتب على الإنسان ما عمله ويكتب عليه ما أراده وسعى فيه ولكن عجز عنه، ويكتب عليه ما نواه وتمناه.

فالأول: واضح.

والثاني: يكتب عليه كاملاً؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام:” إذا التقى المسلمان بسيفيهما؛ فالقاتل والمقتول في النار”. قالوا: يا رسول الله ! هذا القاتل؛ فما بال المقتول؟! قال:” لأنه كان حريصاً على قتل صاحبه” ومثله من هم أن يشرب الخمر، ولكن حصل له مانع؛ فهذا يكتب عليه الوزر كاملاً؛ لأنه سعى فيه.

والثالث الذي نواه وتمناه يكتب عليه ، لكن بالنية، ومنه الحديث الذي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن رجل أعطاه الله مالاً فكان يتخبط فيه ، فقال رجل فقير: لو أن لي مالاً؛ لعملت فيه بعمل فلان. قال النبي عليه الصلاة والسلام:” فهو بنيته؛ فوزرهما سواء”

ول هم بالسيئة، ولكن تركها؛ فهذا على ثلاث أقسام:

1- إن تركها عجزا؛ فهو كالعامل إذا سعى فيها.

2- وإن تركها لله؛ كان مأجوراً.

3- وإن تركها لأن نفسه عزفت عنها،أو لم تطرأ على باله؛ فهذا لا إثم عليه ولا أجر.

والله عز وجل يجزي بالحسنات أكثر من العمل، ولا يجزي بالسيئات  إلا مثل العمل؛ قال تعالى: ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) ( الأنعام:160 )، وهذا من كرمه عز وحل ومن كون رحمته سبقت غضبه.

فآخذ كتابه بيمينه  وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره …………………………………

( 1 )قوله: ” فآخذ كتابه بيمينه”: “آخذ” مبتدأ ، وخبره محذوف والتقدير: فمنهم آخذ.

 وجاز الابتداء به وهو نكرة؛ لأنه في مقام التفصيل؛ أي أن الناس ينقسمون؛ فمنهم من يأخذ كتابه بيمينه، وهم المؤمنون، وهذا إشارة إلى أن لليمنى الإكرام ، ولكذلك يأخذ المؤمن كتابه بها، والكافر يأخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره؛ كما قال المؤلف:” وآخذ كتابه بشماله”.

( 2 )وقوله:” أو من وراء ظهره” “أو ” للتنويع، وليست  للشك.

فظاهر كلام المؤلف أن الناس يأخذون كتبهم على ثلاثة أوجه: باليمين، وبالشمال، ومن وراء الظهر.

ولكن الظاهر أن هذا الاختلاف اختلاف صفات؛ فالذي يأخذ كتابه من وراء ظهره هو الذي يأخذ كتابه بشماله؛ فيأخذ بالشمال، وتجعل يده من الخلف؛ فكونه يأخذه بالشمال؛ لأنه من أهل الشمال، وكونه من وراء ظهره؛ لأنه لما استدبر كتاب الله ، وولي ظهره إياه في الدنيا؛ صار من العدل أن يجعل كتاب أعماله يوم القيامة خلف ظهره؛ فعلى هذا؛ تخلع اليد الشمال حتى تكون من الخلف. والله أعلم

 كما قال سبحانه وتعالى( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهفي عُنُقِهِ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كتاباً يلقاه منشوراً اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً………………………………………

( 1 )طائره ) أي عمله؛ لأن الإنسان يتشاءم به أو يتفاءل به، ولأن الإنسان يطير به فيعلو أو يطير به فينزل.

( 2 ) ( في عنقه )؛ أي: رقبته، وهذا أقوى ما يكون تعلقاً بالإنسان؛ حيث يربط ي العنق؛ لأنه لا يمكن أن ينفصل آي إذا هلك الإنسان؛ فهذا يلزم عمله.

( 3 )وإذا كان يوم القيامة؛ كان الأمر كما قال الله تعالى ( نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كتاباً يلقاه منشوراً )؛ أي مفتوحاً؛ لا يحتاج إلى تعب ولا إلى مشقة في فتحه.

( 4 )ويقال له ( أقرأ كتابك ) وانظر ما كتب عليك فيه.

( 5 ) ( كفي بنفسك اليوم عليك حسيباً ): وهذا من تمام العدل والإنصاف: أن يوكل الحساب إلى الإنسان نفسه.

والإنسان العاقل لابد أن ينظر ماذا كتاب في هذا الكتاب الذي سوف يجده يوم القيامة مكتوباً.

ولكن، نحن أمامنا باب يمكن أن يقضي على كل السيئات، وهو التوبة، وإذا تاب العبد إلى الله مهما عظم ذنبه؛ فإن الله يتوب عليه، وحتى لو تكرر الذنب منه، وهو يتوب؛ فإن الله يتوب عليه؛ فما دام الأمر بأيدينا الآن؛ فعلينا أن نحرص على أن يكتب في هذا الكتاب إلا العمل الصالح.

 * * *

( 1 )الأمر السابع مما يكون يوم القيامة.

وهو ما ذكره المؤلف بقوله: ( ويحاسب الله الخلائق ):

المحاسبة: إطلاع العباد على أعمالهم يوم القيامة.

وقد دلّ عليه الكتاب والسنة والإجماع والعقل.

–       أما الكتاب؛ فقال تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ) ( فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ) ( الانشقاق:7-8 )، )وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ) ( فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً ) ( فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً ) ( الانشقاق:11 ) ( وَيَصْلَى سَعِيراً ) ( الانشقاق:10-12 ).

–       أما السنة؛ فقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام بعدة أحاديث أن الله تعالى يحاسب الخلائق.

–       وأما الإجماع؛ فإنه متفق عليه بين الأمة: أن الله تعالى يحاسب الخلائق.

–       وأما العقل؛ فواضح؛ لأننا كلفنا بعمل فعلاً وتكراً وتصديقاً، والعقل والحكمة تقتضيان أن من كلف بعمل؛ فإنه يحاسب عليه ويناقش فيه.

–       وقول المؤلف:” الخلائق” جمع خليقة؛ يشمل كل مخلوق.

 إلا أنه يستثني من ذلك من يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب؛ كما ثبت ذلك في الصحيحين”: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أمته ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، وهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون.

وقد روي الإمام أحمد بسند جيد: أن مع كل واحد سبعين ألفاً.

فتضرب سبعين ألفاً بسبعين ألفاً ويزاد سبعون ألفاً. وهؤلاء فتضرب سبعين ألفاً بسبعين ألفاً، ويزداد سبعون ألفاً؛ هؤلاء كلهم يدخلون الجنة لا حساب ولا عذاب.

وقوله:” الخلائق” يشمل أيضاً الجن؛ لأنهم مكلفون ، ولهذا يدخل كافرهم النار بالنص والإجماع؛ كما قال تعالى ( قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ فِي النَّارِ ) ( لأعراف: من الآية38 )، ويدخل مؤمنهم الجنة على قول جمهور أهل العلم، وهو الصحيح؛ كما يدل عليه قوله تعالى ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان( 46 ) إلى قوله: ( ….لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ) ( الرحمن:46-56 ).

وهل تشمل المحاسبة البهائم؟

أما القصاص؛ فيشمل البهائم؛ لأنه ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام” أنه يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء” ، وهذا قصاص ، لأنها لا تحاسب حساب تكليف وإلزام؛ لأن البهائم ليس لها ثواب ولا عقاب.

ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه  كما وصف ذلك في الكتاب والسنة  وأما الكفار؛ فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته؛ فإنهم لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم فتحصى فيوقفون عليها ويقررون بها ويخزون بها………………………………………………………………….

( 1 )قوله:” ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه”:

وهذا صفة حساب المؤمن:

يخلو الله به عز وجل دون أن يطلع عليه أحد، ويقرره بذنوبه؛ أي: يقول له: عملت كذا، وعملت كذا… حتى يقر ويعترف، ثم يقول: ” سترها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم” .

ومع ذلك؛ فإنه سبحانه وتعالى يضع عليك ستره؛ بحيث لا يراه أحد، ولا يسمعه أحد، وهذا من فضل الله عز وجل على المؤمن؛ فإن الإنسان إذا قررك بجناياتك أما الناس وإن سمح عنك؛ ففيه شيء من الفضيحة لكن إذا كان ذلك وحدك؛ فإن ذلك ستر منه عليك.

( 2 ) “ذلك” المشار إليه الحساب؛  يعنى: كما وصف الحساب في الكتاب والسنة، لأن هذا من الأمور الغيبية المتوقفة على الخبر المحض، فوجب الرجوع فيه إلى ما وصف في الكتاب والسنة.

( 3 )هكذا جاء معناه في حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حينما ذكر حساب الله تعالى لعبده المؤمن، وأنه يخلو به، ويقرره بذنوبه. قال ” وأما الكفار المنافقون؛ فينادى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين. متفق عليه

 وفي صحيح مسلم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وفي حديث طويل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فيلقى العبد، لأي يلقى الله العبد إي المنافق، فيقول: يا فل، أي: يا فلان، ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟! فيقول: بلى ، قال: فيقول: أظننت أنك ملاقي؟ فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني فيسأله فيجيب كما أجاب الأول، فيقول الله ، فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك ، فيقول الله ، فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك ، فيقول: يا رب آمنت بلك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول: ههنا إذن، قال: ثم يقال له: الآن نبعث شاهدنا عليك، ويفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي؟ فيختم على فيه ، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي ، فتنطق بعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه.

تنبيه:

في قول المؤلف رحمه الله محاسبة من توزن حسناته وسيئاته… إلخ، إشارة إلى أن المراد بالمحاسبة المنفية عنهم هي محاسبة الموازنة بين الحسنات والسيئات، وأما محاسبة التقرير والتقريع فثابتة كما يدل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

فائدة:

أو ما يحاسب عليه العبد من الأعمال الصلاة، وأول ما يقضي فيه بين الناس الدماء؛ لأن الصلاة أفضل العبادات البدنية، والدماء اعظم ما يعتدى به في حقوق الآدميين.

( 315 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *