{ لِمَ تقولون ما لا تفعلون }…… د. ناجي بن وقدان

 

 

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد:

فإن القول بلا عمل والوعد بلا تنفيذ ومدح الذات،والصعود على سُلم المثالية  والكذب  بما لم يكن، من الأمور التي مقتها الإسلام ،وذم أهلها وعدها ضرب من النفاق.

ولذلك أنَّبَ الله قوما يقولون مالا يفعلون،ويَعدون بما لا يفون،ويمدحون أنفسهم بأنهم فعلوا كذا وكذا تقربا إلى الناس وتزكية للنفس وحب الثناء من الناس وهم في الأصل كاذبون،فقال عز وجل( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ)( كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ )[1]،فجعل ذلك من عظيم المقت،وشنيع القول،الذي جانب الحقيقة ، ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقا ، سواء ترتب عليه غرم للموعود أم لا ، واحتجوا أيضا من السنة بما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان)[2]، قال ابن حجر رحمه الله(أصل الدِّيانة منحصرٌ في ثلاثٍ: القول، والفعل، والنية، فنبَّه على فساد القول بالكذب، وعلى فساد الفعل بالخيانة، وعلى فساد النية بالخُلْف)[3] وفي الحديث الآخر ( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها)[4]،وقال الإمام الطبري رحمه الله في قوله تعالى( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) (أي صدّقوا الله ورسوله، لم تقولون القول الذي لا تصدّقونه بالعمل، فأعمالكم مخالفة أقوالكم ( كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) يقول: عظم مقتًا عند ربكم قولكم ما لا تفعلون)[5].

إن مثل هذه الحالة النفسية المقيتة التي لا ينجوا منها إلا من نجاه الله عز وجل ،وخصوصا في هذه الأزمنة التي كثُر فيها الشرور وتسلط الدنيا على قلوب كثير من العباد وضعف الإيمان،وتشربت فيه القلوب بحب المديح والثناء وإن كان كذبا وزورا،ليس لها علاج يُستطب به إلا بمراجعة النفس والعودة إلى محيط الكتاب والسنة،وأن يكون المسلم واقعيا مع نفسه ومجتمعه،وأن يُنْزل نفسه منازلها التي تليق بها،وأن يترفع عن كل ما يخدش دينه وعقيدته،وأن يربأ بنفسه من أن يقع في مقت الله جراء التناقض في القول والعمل.

ومع الأسف الشديد من الناس من يتلبس بثوب ليس له ولم يُلبسه الله إياه ،فيظهر للناس خلاف الحقيقة طلبا للمديح والثناء لشيء لم يفعله أو يتكلم به،ليأخذ بذلك مكانة ورفعة عند الناس سرعان ما يفقدها عندما ينكشف أمره،وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك وشبه المتشبع منه كلابس ثوبي زور،فعن أسماء أنَّ امرأةً جاءَتِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالت: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ لي زَوجًا، ولي ضَرَّةٌ، وإنِّي أتشَبَّعُ مِن زَوجي، أقولُ: أعطاني كذا، وكساني كذا، وهو كَذِبٌ؟ فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ (المُتَشبِّعُ بما لم يُعطَ، كَلابِسِ ثَوبَيْ زُورٍ)[6]، وفيه إشارة إلى أنه لا ينبغي للمسلم أن يدعي ما ليس فيه، ولا أن يتظاهر بغير الحقيقة، وعلى ذلك فإن الذي يدعي ويَتظاهر بما ليس فيه وليس عنده، فهو كمن يَلبس ثوبينِ مستعارين أو مودُوعين عنده يَتظاهرُ أنهما مِلكُه، وكمن يُزَور على الناسِ، فَيلبَس لِباس ذوي التقشُّفِ، ويتزيا بزِي أهل الصلاح وهو كاذب، وأضاف الثوبينِ إلى الزورِ، لأنهما لُبسَا لأجْلِه، وثُنِّي باعتبارِ الرداءِ والإزارِ، يريد: أنَّ المتحَلِّيَ بما ليس له كمن لَبِسَ ثوبَينِ من الزُّورِ، ارتدى بأحَدِهما، وتأزَّرَ بالآخَرِ،ولذلك توعد الله من يفعل ذلك بالعذاب الأليم،فقال عز وجل(لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[7].

إن التناقض في الحياة ومخالفة القول للفعل في أمور الدين والدنيا، أمر تمجه النفوس وتنفر منه الطباع،يقول الإمام النووي رحمه الله في قول الله تعالى( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) قال ( تغليظ عقوبة مَن أمَرَ بمعروف أو نهى عن منكر وخالف قولَه فعلُه، قال تعالى (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ )[8] ، وقال سبحانه( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ )، وقال تعالى إخبارًا عن شعيب عليه السلام( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ )[9]،فهذه كلها تدل على أن على المسلم أن يكون واقعيا في قوله وفعله،ويتجنب المخالفة والتناقض التي تنتهي به إلى النفاق والكذب، وسوء العاقبة.

فالتزام الكلمة ولزوم القدوة الصالحة من صفات الفضلا،وخصال العلماء الأتقياء،ولا سيما أهل الخير والعلم والصلاح،إقتداء بالحبيب صلى الله عليه وسلم،والحذر من مخالفة القول للفعل والتناقض وادعاء ما جفى عن الحقيقة،فإن ذلك عاقبته وخيمة، فعن أسامة بن زيد رضِي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول (يُؤتَى بالرجل يومَ القيامة فيُلقَى في النار فتندَلِق أقتابُ بَطنِه، فيَدُور بها كما يَدُور الحمار في الرَّحَى، فيجتَمِع إليه أهلُ النار فيقولون: يا فلان، ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنتُ آمُر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه)[10]، وعن أنسٍ رضِي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم (أتيتُ ليلةَ أُسرِي بي على قومٍ تُقرَض شِفاهُهم بِمَقارِيض من نارٍ، كلَّما قُرِضَتْ وَفَتْ، فقلتُ: يا جبريل، مَن هؤلاء؟ قال: خُطَباء أمَّتك الذين يقولون ما لا يفعَلُون، ويقرَؤُون كتابَ الله ولا يعمَلُون به)[11]، وما أكثرهم في هذه الأزمنة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ،و كان أمير المؤمنين عمر رضِي الله عنه إذا نهى الناسَ عن شيءٍ جمَع أهلَ بيته فقال: إنِّي نَهيتُ الناس عن كذا وكذا، وإنَّ الناس يَنظُرون إليكم كما يَنظُر الطَّير إلى اللحم، وايمُ الله، لا أجد أحدًا منكم فعَلَه إلاَّ أضعَفتُ له العقوبة ضعفين)[12].

وفي هذه النماذج الحية من قدوات الأمة وسلفها ضرب لأروع الصور في القدوة الصالحة التي هي حاجة الأمة الماسة في هذه الأزمنة التي كَثُرت فيها التناقضات ومخالفة المنهج،ونقض العهود وخيانة الأمانات،وخُلف الوعود.

إن لكل أحد من الناس مهما بلغت مرتبته طاقة محدودة في العون والنفع لإخوانه ،ولن يكون في مقدوره فعل ما لم يريده الله،وإنما هو يبذل سببا من الأسباب،فلا يَعِد إلا بما يستطيع،فليس عيبا أن يعتذر عما لا يستطيع،لأن التعالي والمثالية على مقدرات النفس والبدن من سوء التدبير والسعي للمحال،ومن ثم الوقوع في الحرج واجترار التناقض والوقوع في المحذور.

إن التفارق والاختلاف بين ما يقوله الإنسان وبين ما يفعله،تعتبر ازدواجية يعتبرها الإسلام خداعا في السلوك الإنساني وتَلَوُنًا ذم الله تعالى به بعض عباده المؤمنين،كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ).

والناس اليوم ومن خلال  أحوالهم اليومية تظهر منهم ممارسات سلوكية مزدوجة وخاطئة،يظهر فيها التناقض جليا بين الأقوال والأفعال،وقد تكون هذه الممارسات نتيجة لأسباب نذكر سببين من أهمها وأقواها:

السبب الأول:يكون بعدم اقتناع المرء بما يقوله ويفعله ،بمعنى أن لسانه وجوارحه تعارض ما هو مقرر في عقله وقلبه،وهذا بما يُسمى الانفصام السلوكي عند هذا الإنسان،والذي حذر منه الإسلام كما في قوله عز وجل (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا ۚ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا ۖ قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ ۗ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ ۚ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ).

والسبب الثاني:أن يكون مصدق ومؤمن بما يقوله ويفعله ويدعوا الناس إليه ،لكن قوته الإيمانية وإرادته تضعف أمام الشهوات والملذات ،وهمته متدنية أمام الأهواء فلا
يلتزم بما يقوله ويفعله،وهذا مشاهد ومملوس بكثرة عند الكثير من الناس اليوم

وقد حذر الله تعالى في كتابه الكريم، من مثل هذه النماذج، فقال تعالى (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)( وسواء كان سبب الازدواجية عدم اقتناع أو ضعف إرادة، فإن كلاهما له أضراره البالغة.

والمقصود مما سبق ،أن التناقض بين القول والفعل غير محمود فعله، وفيه ضرر بالغ لمعارضته للصدق وكمال الإيمان ،ويضع صاحبه موضع الحرج مع نفسه ومع الناس،ويفقد مصداقيته وثقته مع من حوله،وباب واسع إلى النفاق والكذب،والمؤمن يربأ بنفسه عن هذا كله،فلا يقول إلا حقا ولا يَعِد إلا صدقا،كما قال عز وجل(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[13].ولعل فيما سبق كفاية على وجه الإختصار للدلالة على خطورة الأمر،حمانا الله وإياكم من الوقوع فيه.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

[1] سورة الصف 2-3.

[2] رواه البخاري.

[3] فتح الباري 1/84.

[4] رواه البخاري ومسلم.

[5] تفسير الطبري 28/106.

[6] رواه مسلم وغيره.

[7] سورة آل عمران 188.

[8] سورة البقرة 44.

[9] سورة هود 88.

[10] متفق عليه.

[11] رواه البيهقي وصححه الألباني.

[12] ذكره ابن أبي شيبة في المصنف وابن الجوزي في وقفات مع الأبرار.

[13] سورة التوبة 119.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *