أهمية المنهج العلمي الصحيح في الدعوة إلى الله ، في الرد على الشبهات والافتراءات…. د. ناجي بن وقدان

 

يُسْتَمد المنهج العلمي الصحيح في الدعوة إلى الله، ورد الشبهات والأضاليل عن الإسلام وتراثه المجيد، من ثنايا الكتاب والسنة، وسيرة السلف الصالح والتابعين، فلا تستقيم الدعوة ولا يتأتى لها التأثير البالغ في نفوس الناس ، إلا إذا كانت مبنية على منهج علمي صحيح تستمد منه قواها وتأثيرها، وذلك لأن النفوس مجبولة على قبول الصحيح الذي لا يخالجه شك ولا ريب، وتنفر من السقيم الذي لا يقوم على أساس علمي وقواعد علمية صحيحة، ولا بد لقيام المنهج الدعوي الصحيح، واستقامته لدى الداعية إلى الله، من قواعد وأسس يقوم عليها هذا المنهج، ومن ذلك العلم إذ لا غنى للداعية إلى الله تعالى عن العلم الذي يوصل به دعوته إلى الناس، فالجاهل لا يصلح أن يكون داعية ، ولذلك خاطب الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأمره بالعلم فقال عز وجل (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) محمد ١٩.

ولقد أنشأ الإمام البخاري – رحمه الله _ باب في الصحيح أسماه ” باب العلم قبل القول والعمل”[1]، يقول الإمام ابن حجر -رحمه الله- “قال ابن المنير: أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو مقدم عليهما، لأنه مصحح للنية المصححة للعمل، فنبه المصنف على ذلك حتى لا يسبق إلى الذهن من قولهم: (إن العلم لا ينفع إلا بالعمل) تهوين أمر العلم والتساهل في طلبه”[2] ، والعلم الأساسي في حياة العبد هو معرفة كتاب الله تعالى وسنة رسوله r كما قال تعالى (بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) النحل ٤٤ ، ولهذا تكون أهمية المنهج الصحيح وطلب العلم الشرعي سببا قويا في  نجاح الداعية إلى الله في دعوته ، وذلك من أول ما يضع قدمه في طريق الدعوة، يقول ابن القيم – رحمه الله – ” إن لم يصحب الداعية( يعني العلم ) من أول قدم يضعه في الطريق إلى آخر قدم ينتهي إليه فسلوكه على غير الطريق، وهو مقطوع عليه طريق الوصول، ومسدود عليه سبيل الهدى والفلاح، وهذا إجماع من العارفين، ولا شك أنه لا ينهى عن العلم إلا قطاع الطريق، ونواب إبليس وشُرَطُه”[3] ، والفقه في الدين معلم من معالم الفقه والخير في حياة الداعية، فعن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين”[4].

ومن ذلك أيضا الإخلاص ، والإخلاص أصل في قبول الأعمال، فلا يقبل الله عملا ما لم يكن مشتملا بالإخلاص لله عز وجل، وهو في حق الداعية إلى الله أولى،  لأنه داعية إلى الله وشريعته، لا يرجو من وراء عمله إلا الجزاء من الله تعالى ، فلا يكون هدفه طمعاً مادياً أو غرضا دنيويا، ولا يكون هدفه من ذلك الرياء أو السمعة وطلب الشهرة أو شيء من حطام الدنيا، أو أن يظهر فضله في دينه أو علمه أو عمله أو عقله على من يدعوه أو يا مره وينهاه، مما يزينه الشيطان، ويكيد به الإنسان ليبطل عمله ويفسد سعيه، ولأهمية هذا العنصر الحساس في حياة الداعية، أمر الله به في كتابه فقال تعالى( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ) الزمر ٢      وقال عز وجل (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ) الزمر ١١ وقال سبحانه (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) البينة ٥ ، وجاء في السنة النبوية أحاديث كثيرة تبين أهمية الإخلاص في الأقوال والأعمال لله تعالى، فعن عمر بن الخطاب t على المنبر قال سمعت رسول الله r يقول : ” إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه “[5] ، ومن القواعد والأسس أيضا المتابعة ، إذ لا تقوم الدعوة إلا على أساسين متينين، لايقوم أحدهما بدون الآخر، وهما الإخلاص والمتابعة للنبي عليه الصلاة والسلام، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في حديثه عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: “وإذا كانت جميع الحسنات لا بد فيها من شيئين: أن يُراد بها وجه الله، وأن تكون موافقة للشريعة، فهذا في الأقوال والأفعال، في الكلم الطيب والعمل الصالح، في الأمور العلمية، والأمور العملية العبادية”[6] فالمتابعة شرط في قبول الأعمال، ومنها الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا ظاهر جلي في قول الله تعالى (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) الكهف ١١٠، يقول الإمام الطبري-رحمه الله- ” فمن يخاف ربه يوم لقائه، ويراقبه على معاصيه، ويرجو ثوابه على طاعته(فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) يقول: فليخلص له العبادة، وليفرد له الربوبية”[7]، والعمل الصالح هو العمل الموافق لهديه عليه الصلاة والسلام، ولهذا كان أئمة السلف رحمهم الله يجمعون هذين الأصلين (الإخلاص والمتابعة) كقول الفضيل بن عياض في قوله تعالى:( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ )الملك ٢ ، قال: أخلصه وأصوبه، فقيل له: يا أبا عليّ ما أخلَصُه وأصوبه؟ فقال: إنَّ العمل إذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يُقبل، وإذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يُقبل، حتى يكون خالصا صوابا، والخالص، أن يكون لله والصواب، أن يكون على السُّنة”[8].

وقد روي عن سعيد بن جبير قال: “لا يُقبل قول إلا بعمل، ولا يُقبل قول وعمل إلا بنية، ولا يُقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة”[9]، ولذلك كان لزاما على الداعية إلى الله تعالى، متابعة الرسولr وأن يسلك مسلكه في الدعوة، وأن يتخذه قدوة حيث أمره الله بذلك، فقال عز وجل( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ) الأحزاب: ٢١، وقوله سبحانه( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) آل عمران: ٣١، وعلى هذا فافتقاد الداعية إلى الله لعنصر المتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام ، يفقده النجاح والتأثير في الناس، ويعرض دعوته للفشل والضياع.

ومن الأسس والقواعد التي تبين أهمية المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله ورد الشبهات والأباطيل أيضا، الحكمة، والحكمة من أقوى دعائم المنهج الدعوي الصحيح، بل هي من أهم عوامل نجاح الداعية إلى الله في دعوته، والنبيr كان حكيما فيما يدعو الناس إليه، وكيف لا يكون كذلك وهذا أمر جبله الله عليه، وأمره به في كتابه فقال عز وجل (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) النحل: ١٢٥  ، وقال سبحانه( وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) العنكبوت: ٤٦.

إن الحكمة بشموليتها وتعريفها العام هي إتقان الأمور وإحكامها، بأن تُنزل الأمور منازلها، وتوضع في مواضعها، وليس من الحكمة التعجل في الدعوة إلى الله تعالى، وأن ينقلب الناس عن حالهم التي هم عليها إلى الحال التي كان عليها الصحابة بين عشية وضحاها، ومن أراد ذلك فهو بعيد عن الحكمة، لأن حكمة الله عز وجل تأبى أن يكون هذا الأمر، ويدل على هذا أن الرسول r وهو الذي ينزل عليه الكتاب ، نزل عليه الشرع متدرجا حتى استقر في النفوس وكمل، ولهذا جاءت الدعوة إلى الله تعالى مرتبة ترتيبا حكيما ، يضمن الغاية التي من أجلها بعث الله الرسل وأنزل الكتب، وهي هداية الناس ، وإخراجهم من ظلمات الجهل إلى أنوار العلم.[10] والرسول صلى الله عليه وسلم يضرب لأمته أروع الأمثال والوقائع التي تدل على حكمته ورحمته بأمته، ومن ذلك موقفه عليه الصلاة والسلام من الأعرابي الذي بال بالمسجد، فعن أنس بن مالك t قال: “بينما نحن في المسجد مع رسول الله r إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله r مه مه[11]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا تزرموه[12] دعوه” فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دعاه فقال له: “إنَّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن” ثم أمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنَّه عليه”[13]، ومن ذلك أيضا ما رواه أبو هريرةt قال: ” قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة وقمنا معه فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا أحداً، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: “لقد حجرت واسعا” يريد رحمة الله.[14]

ومن الأمثلة على حكمته عليه الصلاة والسلام ، ما جاء عن معاوية بن الحكم السلمي t قال: “بينا أنا أصلي مع رسول الله r إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله! فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكْلَ أمَّياه[15] ‍‍! ما شأنكم تنظرون إلىَّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمّتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله r فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فو الله ما كهرني[16] ولا ضربني ولا شتمني، قال: “إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “[17]، والأمثلة على ذلك كثيرة من سيرته عليه الصلاة والسلام، التي تبين أهمية هذا العنصر الحيوي والأساسي في الدعوة إلى الله تعالى.

ومن القواعد والأسس في أهمية المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله، الرفق والحِلم ، فالداعية إلى الله تعالى يكون رفيقا رحيما، حليما لينا، مشفقاً على الناس، فإنَّ ذلك مدعاة لقبوله ودما يدعو إليه ، وهذا خلق عظيم من أخلاق الإسلام، تمثل على وجه الحقيقة في شخص النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته هدايته للناس، ولهذا امتن الله تعالى عليه واصفا إياه بقوله (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ)القلم: ٤، وقوله عز وجل (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)آل عمران: ١٥٩، يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي –رحمه الله- ” أي برحمة الله لك ولأصحابك ، من الله عليك أن ألنت لهم جانبك، وخفضت لهم جناحك، وترققت لهم، وحسنت لهم خلقك، فاجتمعوا عليك وأحبوك، وامتثلوا أمرك”[18]، ومن ينظر لسيرته عليه الصلاة والسلام بمكة والمدينة وغيرها، يرى أنه أمضى حياته يدعو ويذكر وينذر في غاية من اللطف واللين، ويقصد نواديهم، يدعوهم إلى الهدى، ويتحمل منهم ألوان الأذى، ولا يزيد على أن يقول: “رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون”[19].

ومن القواعد والأسس أيضا، الصبر، والصبر مأمور به كل مسلم وهو في حق الداعية إلى الله تعالى أوجب، فنصوص الكتاب والسنة الواردة في الصبر كثيرة جدا، ومن ذلك قصة لقمان الحكيم لابنه بقوله: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)لقمان: ١٧، فأوصاه بالصبر وذلك لأن الصبر يحتاج إلى مجاهدة وخصوصا عندما يتصل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول ابن كثير -رحمه الله- ” عَلِم أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لابد أن يناله من الناس أذى، فأمره بالصبر”[20]، ولأن الصبر فيه مشقة كبيرة على النفس، لا تقوى عليه في كثير من الأحيان، وخصوصا في جانب الدعوة إلى الله تعالى ومواجهة البشر على اختلاف طباعهم وأهواءهم، لهذا أمرها الله بالصبر كثيرا والمصابرة، كما قال عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) آل عمران: ٢٠٠، ورسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، خير من أمرهم الله بالصبر في دعوة الناس إليه، وهم بلا شك أئمة الدعوة والدعاة، كما قال تعالى لخاتمهم صلى الله عليه وسلم (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ۚ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ۚ بَلَاغٌ ۚ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ)الأحقاف: ٣٥، وقال عز وجل( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ)البقرة: ٤٥، وحثr أمته على التحلي بالصبر والتخلق به، فعن سعد بن أبي وقاصt قال: قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاءً؟ قال: “الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلي الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زِيدَ في بلائه، وإن كان في دينه رقة خُفِّفَ عنه، وما يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة”[21] .

وعن أنس بن مالك t مرفوعاً: “إنَّ عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط”[22]، وعن أبي سعيد الخدري t أن أناسا من الأنصار سألوا رسول الله r فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم حتى نَفِدَ ما عنده قال: “ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطى الله أحداً عطاءً هو خير وأوسع من الصبر”[23] ، وأحاديث كثيرة لا يتسع المقام لذكرها كلها، ويكفي ما تقدم من الشواهد التي تدل على عظيم خلق الصبر، وأنه سبب من أقوى أسباب رسوخ الإيمان في قلب العبد، وخصوصا من يتصدى للدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومن القواعد أيضا التحلي بالأخلاق الفاضلة، وهذه من الأمور المهمة في حياة الداعية إلى الله تعالى أو الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون متمسكا بأخلاق الداعية التي هي في الأصل أخلاق الإسلام، مطبقا لها في معتقده وفي عباداته من صلاة وصيام وتلاوة قرآن وفي هيئته وجميع مسلكه مبتعدا عن الأخلاق الذميمة حتى يُمثّل دور الداعية إلى الله تعالى على الوجه والمنهج الصحيح، وقد ذم الله قوما انتفت منهم صفة القدوة الحسنة في دعوتهم للناس، حيث يدعون الناس إلى الصلاح والإصلاح وينسون أنفسهم بقوله عز وجل(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)البقرة: ٤٤، وقوله سبحانه  (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ) الصف: ٢ – ٣  ، فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والداعي إلى الله وشريعته، يكون قدوة وممتثلا فيما يدعو الناس إليه، وهذا هو الأكمل والأفضل بلا شك، مع أن للعلماء آراء وأقوال حول هذه المسألة، ولعل القول الراجح فيها أن للإنسان أن يأمر بالمعروف ولو لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن كان يفعله، وليس المقام هنا مقام البسط وإيراد الأقوال والترجيح، لأن هذه مسائل فقهية وليست من مسار موضوع البحث، إلا أن قبول دعوة الداعي أو أمر الآمر بالمعروف ونهي الناهي عن المنكر، منوط  باستقامة الداعي على ما يدعو إليه، ولذلك فإن الداعي إلى الله تعالى أو الآمر الناهي إذا كان قدوة صالحة في عقيدته وفي عباداته ومنهج حياته فحري أن يُقبَلَ قوله، وتسمع كلمته، ويكون له تأثير طيب على المجتمع.[24]

     وإذا كان هذا هو شأن المنهج الصحيح وأهميته في حياة الداعية إلى الله، فإن في المقابل هناك مناهج تدعي لزوم الكتاب والسنة، والعمل الدعوي والمنهجي الصحيح ولكنها في الحقيقة خلاف ذلك، فظهورها في الميدان الدعوي وممارستها للدعوة ، قد أظهر انحرافها عن المسار الدعوي الصحيح، وارتكابها لأخطاء منهجية، ووقوعها لأمور بدعية، ومخالفتها لنصوص الكتاب والسنة، وتجافيها عن المسار الصحيح الذي رسمه لها نبي الهدى والرحمة صلى الله عليه وسلم ، وكانت أخطاؤها إما في جانب العقيدة، أو العبادات، أو المعاملات، أو خلل واضح في المنهج كما هو واضح عند المعتزلة والجهمية والصوفية وغيرها من المناهج التي انحرفت عن المنهج الدعوي الصحيح، ولذلك كانت ولا تزال نصوص الكتاب والسنة شاهدة لصاحب العمل بصحته وصحة فهمه وعمله، وفي قصة الثلاثة الذين ذهبوا إلى بيوت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته خير شاهد على ما أشرت إليه هنا ،فإخلاصهم في العمل وحرصهم على التعبد لله تعالى بما لم يتعبد به رسول الله صلى الله عليه وسلم ،لم يعفهم من كونهم خالفوا منهاج النبوة الوسطي الذي جمع بين عبادة القلب والجوارح واستقامتها، وبين شؤون الحياة الدنيا ومصالحها، ولهذا قام النبي صلى الله عليه وسلم بالتعقيب والتوجيه ومن ثم التحذير من المخالفة لما جاء به من الهدى والشريعة، وكون المخالف لن يصل إلى شيء مما أراده بغير الطريق التي يسلكها رسوله ونبيه صلى الله عليه وسلم ، وإن حسنت النوايا ونقت السرائر، لكن لا بد من أن تستقيم أيضا الطرائق والمناهج، فهذه المناهج الدعوية المختلفة في كثير من مناهجها وتصوراتها وقعت فيما وقع فيه هؤلاء الثلاثة وهم يظنون أنهم على شيء ، وأنهم أردوا الهدى والهداية للخلق ولن يدركوا ذلك بغير الطريق الذي رسمه النبي صلى الله عليه وسلم وسار عليه الأصحاب والتابعون لهم بإحسان، ولذلك جاء القرآن الكريم يحذر من المخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال تعالى (لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا ۚ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا ۚ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)النور: ٦٣.

      والمقصود مما سبق أن طريق الدعوة هو طريق الدعاة إلى الله تعالى والمصلحين لما فسد من أحوال الناس، وأهل السنة أولى به من غيرهم، وذلك لأن منهجم مستقيم له وزنه وأهميته لأنه مستمد من الكتاب والسنة وما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، بل هم الغرباء في زمن متلاطم يموج بالفتن كما تموج الرياح بأمواج البحار، وهم قليل وسط خضم من الفرق والمناهج المنحرفة عن الصراط المستقيم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء” وفي رواية قيل: يا رسول الله، من الغرباء؟ قال: “الذي يصلحون إذا فسد الناس”، وفي لفظ آخر: “الذين يُصلحون ما أفسد الناس من سنتي”، وفي لفظ آخر: “هم النزاع من القبائل”، وفي لفظ آخر: “هم أناس صالحون قليل في أناس سوء كثير”[25]، قال العلامة عبدالعزيز ابن باز- رحمه الله- عند الكلام عن هذا الحديث “والمقصود أن الغرباء: هم أهل الاستقامة، وأن الجنة والسعادة للغرباء الذين يصلحون عند فساد الناس، إذا تغيرت الأحوال والتبست الأمور وقلَّ أهل الخير ثبتوا هم على الحق واستقاموا على دين الله، ووحدوا الله وأخلصوا له العبادة واستقاموا على الصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر أمور الدين، هؤلاء هم الغرباء، وهم الذين قال الله فيهم وفي أشباههم(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) فصلت: ٣٠ – ٣١ ومعنى ما تدعون: أي ما تطلبون”[26].

فهؤلاء هم أصحاب المنهج الصحيح الذي عظمت أهميته ، وتَعْظُم أكثر في هذا الزمان الذي كثرت فيه المناهج وتشعبت سبلها، وتعددت مشاربها، وتباينت أهدافها، وانكشف غطاءها ، وصارت وبالا وبلاء على الأمة الإسلامية، ومن ثم كان لزاما أن يكون هناك من يظهر بالحق ويصدع به ويعتصم بمنهج السلامة والنجاة من ضلالات هذه الفرق وتلك الأهواء، فكان أصحاب المنهج الصحيح، والطريق القويم من أهل السنة والجماعة هم الملازمون لطريق الدعوة لا يتخلفون عنه ولا يحيدون، وبه وبأمر الله قائمون، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم ، منصورون بأمر الله، فعن معاويةt قال: سمعت النبي r يقول ” لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك “[27].

[1] صحيح البخاري،  كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل،1/159، الحديث رقم 10.

[2] فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي، دار المعرفة ، بيروت ، 1379ه، باب العلم قبل العمل، 1/160.

 

[3] مدارج السالكين، للإمام ابن القيم الجوزية، دار المطبوعات الحديثة، جدة، 1402ه،  2/483.

[4] رواه البخاري ، كتاب العلم، باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، 1/164 الحديث رقم 71، ومسلم، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، 2/718 الحديث رقم 1037.

[5] رواه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الحي عند رسول الله، 1/3 الحديث رقم 1.

[6] الاستقامة، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس، تحقيق د. محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود ، الرياض، 1403ه، 2/297.

[7] تفسير الطبري 7/5443.

[8] الاستقامة 1/248.

[9] المرجع السابق 2/309.

[10] وللتوسع يُنظر الصحوة الإسلامية ضوابط وتوجيهات، للشيخ محمد بن عثيمين، دار الوطن للنشر، الرياض،1426ه، ص   35 وما بعدها.

[11] مه : كلمة زجر، لسان العرب، لابن منظور، 13 /542.

[12]لا تزرموه أي لا تقطعوا عليه بوله، والازرام: القطع، يُنظر شرح النووي على صحيح مسلم، 3/190.

[13] رواه مسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد، 1/237 ، رقم 286، ومعنى شنه عليه: أي صبه عليه.

[14]رواه البخاري ، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم،  10/438، الحديث رقم 6010.

[15] واثكْلَ أُمياه: معناه فقدان المرأة لولدها، ويجوز أن يكون من الألفاظ التي تجري على ألسنة العرب ولا يراد بها الدعاء، كقولهم: تربت يداك، انظر النهاية في غريب الحديث والأثر، أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري (ابن الأثير)، تحقيق  طاهر أحمد الزاوي المكتبة العلمية ، بيروت ، 1399هـ – 1979م، 1/628.

[16]ما كهرني: يعني ما نهرني. أنظر النهاية لابن الأثير 4/395.

[17] رواه مسلم، كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة،  1/381، الحديث رقم 33.

 

[18] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 1/285.

[19] رواه البخاري، كتاب استتابة المرتدين، باب إذا عرض الذمي أو غيره بسب النبي r ولم يصرح، 6/2539 الحديث رقم 6530، و مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد،  3/1417، الحديث رقم 1792، عن عبد الله بن مسعود t.

[20] تفسير ابن كثير 3/417.

[21] رواه الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء،  4/601، الحديث رقم 2398، وابن ماجة ، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء،  5/152، الحديث رقم 4023، وأحمد ، 1 /172، الحديث رقم 1481 وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 143.

[22] رواه الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، 4/601، الحديث رقم 2396، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء،  5/159، الحديث رقم 4031، وصححه الألباني، في السلسلة الصحيحة، رقم 146.

[23]رواه البخاري ، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة،  2/534، الحديث رقم 1400، و مسلم، كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والصبر،  2/729، الحديث رقم 124.

 

[24] للمزيد يُنظر كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثرهما في حفظ الأمة ، د. عبد العزيز المسعود ، دار الحرمين للطباعة ، القاهرة ، 1415هـ، 1/223.

[25] رواه مسلم،كتاب الإيمان باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا، 1/130، الحديث رقم 232، والترمذي ، باب أن الإسلام بدأ غريبا، 5/18، الحديث رقم 2629، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 3/347 برقم 1273.

[26] الموقع الرسمي لسماحة الشيخ العلامة عبدالعزيز ابن باز-رحمه الله-، الدخول الساعة التاسعة مساء يوم الخميس الموافق 24/3/1436ه.

[27] رواه البخاري، كتاب المناقب، باب سؤال المشركين، 3/1331، الحديث رقم 3442.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *