الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.وبعد:
من الأمور المُسَلم بها شرعا،أن الله عز وجل أكمل الدين وأتم النعمة وأقام الحجة على عباده،ولم يبق لأحد من العباد كائنا من كان أن يزيد في دين الله شيئا ،ولا ينقص منه شيئا،بل على العباد التسليم والإنقياد والسير وفق ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما قال جل وعلا(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[1]،قال ابن كثير رحمه الله (هذه أكبر نعم الله عز وجل ، على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم ، فلا يحتاجون إلى دين غيره ، ولا إلى نبي غير نبيهم ، صلوات الله وسلامه عليه ، ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء ، وبعثه إلى الإنس والجن ، فلا حلال إلا ما أحله ، ولا حرام إلا ما حرمه ، ولا دين إلا ما شرعه ، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خُلف)[2].
ولذلك لا يجوز لمسلم يؤمن بالله ربا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا وبالإسلام دينا، أن يزيد في دين الله ما ليس منه،أو أن ينقص منه لأن هذا اتهام لشريعة الله بالنقصان،ولرسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيانة في الرسالة،وإحداث في دين الله ما ليس منه،ومن فعل ذلك فإحداثه مردود عليه ولا يقبله الله،وعليه وزره ووزر من عَمِل به إلى يوم القيامة،قال صلى الله عليه وسلم(من عَمِل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)[3]وقوله(من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)[4].
ولزوم هدي الكتاب والسنة واجب على كل مسلم وخصوصا في هذه الأزمنة التي هاجت فيها أمواج البدع والضلالات المغايرة لدين الله وشريعته،والتي دخلت فيها عادات ظن الناس أنها من الدين وهو منها براء،أزمنة عاد الكثير من المسلمين فيها إلى براثن الجاهلية ،وليسأل المسلم ربه الثبات على هذا الأمر حتى يلقاه،وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام وهو خليل الله والمغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يسأل الله الثبات على الدين،فكان من دعائه(يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)[5] وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال:قال لي رسول الله صلى الله عليه سلم( يا شداد بن أوس إذا رأيت الناس قد اكتنزوا الذهب والفضة فاكنز هؤلاء الكلمات:اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد ، وأسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك)[6].
والله عز وجل بفضله يثبت من يشاء من عباده بالقول الثابت في الحياة الدنيا،أي عند الموت وعند السؤال في القبر ،وفي الآخرة عند السؤال والحساب،كما قال عز وجل ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ )[7]،ولذلك فالثبات يستلزم من المسلم لزوم الكتاب والسنة،والطاعة والعبادة،والتضرع والدعاء واللجوء دائما إلى الله وسؤاله الثبات،و جهاد النفس والهوى والصبر على الحق واتباعه،والبعد عن مواطن الفساد واللهو والفتن حتى يلقى الله وهو ثابت على دينه.
والهروب من الفتن حفاظا على الثبات من الأمور المتحتمة في هذه الأزمنة،إلا لمن قدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن علم وبصيرة ،فلقد رأينا بواكره تظهر وذلك بتنقل الكثير من الناس إلى قراهم أو مزارعهم أو أماكن ينأون إليها هربا من أمواج الفتن والبلايا،ولقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك حال احتدام الفتن والفساد والمتغيرات ،فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ستكون فتن، القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائمُ فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، مَن تَشَرَّفَ لها تَستشرِفه، فمَن وجد فيها ملجأ أو مَعاذًا، فلْيَعُذْ به)[8] ، وعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يُوشك أن يكون خيرَ مال المسلم غنمٌ يَتْبع بها شَعَف الجبال ومواقع القَطْر، يَفِر بدينه من الفتن)[9] .
والمؤمن الكيِّس الفطن من أعدَّ للفتن عُدَّتَه، وبادرها بالصَّالحات قبل أن تُباغته، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بادِروا بالأعمال فتنًا كقِطَع الليل المظلِم، يصبح الرجل مؤمنًا ويُمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعَرَض من الدنيا)[10]،وقد تحقق هذا كثيرا في هذه الأزمنة المتأخرة والله المستعان.
والمقصود أن الثبات على الدين والعمل بأسبابه من الأمور المطلوبة من المسلم،ولا يجعل من نفسه طُعما سائغا للإنزلاق في مهاوي الردى،فكم نرى ممن كانوا محافظين على دينهم وعقيدتهم ،ثم فجأة زَلَّت بهم الأقدام،وتمكن منهم أهل الفساد،وخرجوا من محيط دينهم،فساءت أحوالهم،وضاعت عقيدتهم،وساءت سمعتهم وسمعة أهليهم بين الناس.
نحن في زمن اختلطت فيه الكثير من الأمور والأحوال،وأصبح المؤمن في حيرة من أمره أمام هذا السيل الجارف من الفتن واندراس الدين،وكثرة العوائق التي تعيقه عن أمر بمعروف أو نهي عن منكر.
ولم يبق سوى الإنزواء والحفاظ على دينه وعقيدته وأهله وأبناءه،حتى يلقى الله وهو ثابت على دينه،فعن عبدالله ابن عمر رضي الله عنهما قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(إذا رأيتَ النَّاسَ مرِجَت عُهودُهم وخانَت أمانتُهم وَكانوا هَكذا وشبَّكَ بينَ أصابعِه فقمتُ إليهِ فقلتُ لهُ كيفَ أصنعُ عندَ ذلِك يا رسولَ اللَّهِ جعلَني اللَّهُ فداكَ قال الزَم بيتَكَ واملِك عليكَ لسانَكَ وخذ ما تعرفُ ودع ما تُنكرُ، عليكَ بأمرِ خاصَّةِ نفسِك ودع عنكَ أمرَ العامَّةِ)[11]،قال أهل العلم ،(كانَ النبيُّ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّم يُعلِّمُ أصحابَه رضيَ الله عَنهم كيفَ يَعرِفونَ الفِتنَ، وكيفَ يكونُ حالُهم فيها، وفي هذا الحديثِ يقولُ عبدُ اللهِ بنُ عمرٍو رضيَ الله عَنهما: “بَينَما نحنُ حولَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّم إذ ذَكرَ الفِتنةَ، فقالَ: إذا رَأيتُم الناسَ قد مرَجتْ عُهودُهم”، أي: ظَهرَ فيهِم وانتشَرَ فسادُ العَهدِ ولم يُوفُوا به، والفِتنةُ هي اختِلاطُ الحقِّ بالباطلِ فلا يُعرَف أهلُ الحقِّ مِن أهلِ الباطلِ، “وخفت أَماناتُهم”، أي: قلَّتْ بَينهمُ الأَمانةُ فأصبَحَ لا يُعرَف بها في ذلك الزمنِ إلا قليلٌ. “وكانوا هَكذا- وشبَّكَ بينَ أصابِعه-“، أي: خَلَطوا فلا يُميَّز فيهم الطيِّبُ من الخبيثِ والمؤمنُ مِن المنافقِ، قال ابنُ عَمرٍو: “فقمتُ إليه”، أي: إلى النبيِّ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّم، فقلتُ: “كيفَ أفعلُ عندَ ذلكَ! جعلَنِي اللهُ فِداكَ؟”، أي: ما العملُ عندَ ظُهورِ هذا الزمنِ؟ قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّم: “الزَمْ بَيتَكَ”، أي: كنْ في بيتِكَ أكثرَ أوقاتِكَ فلا تَخرُجْ إلا لحاجةٍ، “وامْلِكْ عليكَ لِسانَكَ”، أي: ولا تتكلَّمْ فيما يحلُّ بالناسِ ويَنتشِرُ فيهِم حتي يَتركُوكَ وشأنَكَ، فلا تَدخُلْ في الفِتنةِ بقَولٍ أو فعلٍ “وخُذْ بما تَعرِفُ ودَعْ ما تُنكِرُ”، أي: اقبَلْ بما هوَ حقٌّ، واترُكْ ما هو باطلٌ “وعلَيكَ بأمرِ خاصَّةِ نفسِكَ، ودَعْ عنكَ أمرَ العامَّةِ”، أي: الزَمْ نفسَكَ وأحوالَها وقومَها ولا تَنشغِلْ بما يحلُّ بالناسِ ويحدُثُ فيهِم، وهذا تأكيدٌ ومَزيدُ خلاصٍ من الفتنةِ.
وهذا كلُّه يُحمَل على أنَّ من عَجزَ عنِ الأمرِ بالمعرُوفِ، أو خافَ الضَّررَ عمومًا، سقطَ عنه الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكَرِ باليدِ واللِّسانِ ويُمكِنُه أن يُنكِرَه بقَلبِه).
والخلاصة مما سبق أن يحرص المسلم على الثبات على دينه مهما اسود الليل وماجت الفتن ويعلم أنها أيام وسويعات وينقلب إلى الله تعالى،وليصبر وليحتسب الأجر على الله تعالى فيما يلقى من أذى القريب والبعيد،فإن أجره على صبره وثباته على دينه وإيمانه وعقيدته كأجر خمسين من أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم ،فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(إِنَّ مِنْ ورائِكُم زمانُ صبرٍ ، لِلْمُتَمَسِّكِ فيه أجرُ خمسينَ شهيدًا منكم)[12] .نسأل الله تعالى الثبات على دينه وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم حتى نلقاه إنه قريب مجيب.وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
[1] سورة المائدة 3.
[2] تفسير ابن كثير ص 107.
[3] رواه البخاري ومسلم.
[4] رواه البخاري ومسلم.
[5] رواه الترمذي.
[6] صححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
[7] سورة إبراهيم 27.
[8] رواه البخاري.
[9] رواه البخاري ومسلم.
[10] رواه مسلم.
[11] رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد.
[12] صححه اللباني في صحيح الترغيب .