الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
الإستئذان أدب عظيم،وخُلق رفيع جاءت به الشريعة الغراء لتحفظ به الحقوق والأعراض،وتصون به الأعين عما حَرَّم الله،وترعى للبيوت حرماتها وحقوقها.
ومعنى استأذن في اللغة: طلب الإذن، والسين والتاء تفيد الطلب، فالعلم والإعلام والإباحة والأنس والنداء معانٍ للاستئذان تتضمنه[1]. وقد عُرِّف الإستئذان في الاصطلاح بأنه التماس الإذن تأدباً خشية الاطلاع على العورة،وقيل أيضا هو استباحة المحظور على وجه مشروع[2].
ولا شك أن الإستئذان من معاني وأسباب حفظ البصر وغضه عما حرم الله،كما قال عز وجل (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)[3]،قال الإمام الطبري رحمه الله(يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ ) بالله وبك يا محمد ( يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ) يقول: يكفوا من نظرهم إلى ما يشتهون النظر إليه، مما قد نهاهم الله عن النظر إليه)[4] ،فحرم جل وعلا كل طريق وسبب يفضي إلى المحرم فحينما حرم الزنا حرم دواعيه من النظر والخلوة والتبرج وكل ما يؤدي إليه، ومن المعلوم خطورة النظر في المجتمع الإسلامي، وإنه إذا أُطلق يؤدي إلى الوقوع في المحرمات، ولذلك كان شأنه خطيراً، فنزلت أحكام الاستئذان لمعالجة قضايا البصر، ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم العين التي تنظر من فتحات الأبواب والنوافذ ديتها مهدرة ولا دية لها، فقال صلى الله عليه وسلم(لو أن امرءاً اطلع عليك بغير إذن، فحذفته بحصاة ففقأت عينه، لم يكن عليك جناح)[5].
ولذلك نص العلماء على أن الذي ينظر من شق الباب،أو شق النافذة على شخصٍ في بيته وملكه بغير إذنٍ فأدخل صاحب البيت شيئاً في الثقب ففقأ عين الناظر أنها عينٌ مهدرة لا دية فيها، كل ذلك من أجل حرمة البيوت.
ففي الاستئذان مراعاة لحرمة البيوت ، وحفظ لعورات الناس، ولذلك نلاحظ أن آية الاستئذان جاءت بعد الزجر عن الزنا والقذف، فلما ذكر الزجر عن الزنا والقذف في ذات السورة، ذكر الاستئذان والزجر عن دخول البيت بغير استئذان، لأنه ربما أدى إلى وقوع أحد المحظورين، ولذلك فإن أدب الاستئذان يؤدي إلى قطع ألسنة السوء من مظنة الريبة، وربما يصادف الإنسان حال خروجه رب الدار، وليس فيها إلا امرأته فتذهب به الظنون كل مذهب، وربما أدى ذلك إلى مالا تُحمد عقباه.
يقول الله تعالى آمرا عباده المؤمنين بقوله(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ)[6]، قال ابن كثير رحمه الله(هذه آداب شرعية ، أدب الله بها عباده المؤمنين ، وذلك في الاستئذان أمر الله المؤمنين ألا يدخلوا بيوتا غير بيوتهم حتى يستأنسوا ، أي : يستأذنوا قبل الدخول ويسلموا بعده ، وينبغي أن يستأذن ثلاثا ، فإن أذن له ، وإلا انصرف ، كما ثبت في الصحيح أن أبا موسى حين استأذن على عمر ثلاثا ، فلم يؤذن له ، انصرف ، ثم قال عمر : ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن؟ ائذنوا له ، فطلبوه فوجدوه قد ذهب ، فلما جاء بعد ذلك قال : ما رجعك؟ قال : إني استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( إذا استأذن أحدكم ثلاثا ، فلم يؤذن له ، فلينصرف)[7] ،فالرجوع لعدم الإذن بالدخول من سمات المؤمنين وآدابهم،وذلك (أزكى لكم) أي أطهر لكم ولقلوبكم من الوقوع في المحذور أو الريب والشك.ثم أردف سبحانه بعد ذلك بالإذن والسماح بدخول البيوت الغير مسكونة لعباده فيها حاجة أو طلب ،لزوال العلة في المنع وهي عدم وجود الساكنين بها الذين بوجودهم قد يقع المحذور من وقوع النظر على العورات،(والله يعلم مَا تُبْدُونَ) أي ما تظهرون أيها الناس بألسنتكم من الاستئذان إذا استأذنتم على أهل البيوت المسكونة ( وَمَا تَكْتُمُونَ ) يقول: وما تضمرونه في صدوركم عند فعلكم ذلك ما الذي تقصدون به طاعة الله، والانتهاء إلى أمره، أم غير ذلك[8]. وقد أباح الله للمماليك والصغار الطواف في البيوت بغير استئذان لحاجة أهليهم وأسيادهم إلا في الأوقات الثلاثة التي جاء النص عليها وهي: ما قبل الفجر ووقت الظهر، وبعد العشاء، فلا يجوز لأي إنسان الدخول في هذه الأوقات إلا بإذن حتى لو كانوا داخل البيوت من الخدم أو الإماء والعبيد أو الأطفال الصغار، وذلك لأن هذه الأوقات الثلاثة يأوي فيها الرجال إلى نسائهم وأزواجهم وتنزع فيها الثياب، ولذلك جعل الدخول محظوراً لكي لا تقع الأنظار على عورات الأهل من الأبوين، وهذا أدب يغفل عنه الناس، ويتساهلون في دخول الخدم عليهم ودخول الأطفال الصغار، وربما أدى ذلك إلى أن يرى الطفل أشياء تبقى في مخيلته أو في ذهنه وهو في صغره، وربما أدى ذلك إلى أضرار في كبره ،كما قال عز وجل(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ۚ مِّن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ۚ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ ۚ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ ۚ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[9]قال ابن كثير رحمه الله(هذه الآيات الكريمة اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض ، وما تقدم في أول السورة فهو استئذان الأجانب بعضهم على بعض ، فأمر الله تعالى المؤمنين أن يستأذنهم خدمهم مما ملكت أيمانهم وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أحوال : الأول من قبل صلاة الغداة، لأن الناس إذ ذاك يكونون نياما في فرشهم ( وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ) أي : في وقت القيلولة، لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله ، ( ومن بعد صلاة العشاء ) لأنه وقت النوم ، فيؤمر الخدم والأطفال ألا يهجموا على أهل البيت في هذه الأحوال ، لما يخشى من أن يكون الرجل على أهله ، ونحو ذلك من الأعمال، ولهذا قال : ( ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن ) أي : إذا دخلوا في حال غير هذه الأحوال فلا جناح عليكم في تمكينكم إياهم من ذلك ، ولا عليهم إن رأوا شيئا في غير تلك الأحوال، لأنه قد أذن لهم في الهجوم ، ولأنهم ( طوافون عليكم) ، أي : في الخدمة وغير ذلك ، ويغتفر في الطوافين ما لا يغتفر في غيرهم، ولهذا روى الإمام مالك وأحمد بن حنبل وأهل السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الهرة ( إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم – أو – والطوافات)[10]،وقال الشيخ ابن باز رحمه الله(الآية واضحة في معناها، وأن المماليك – وهكذا الأولاد – الذين لم يبلغوا الحلم يعني: ما بلغوا خمسة عشر سنة، ولا احتلموا بشيء آخر من إنبات أو احتلام، هؤلاء عليهم أن يستأذنوا على أهلهم في هذه الأوقات الثلاثة، لأنها أوقات عورة، قبل صلاة الفجر لأن: الناس إذا خلا بعضهم إلى بعض قد يظهر منهم بعض الشيء، فيستأذن عليهم.
وهكذا وقت الظهيرة قبيل الظهر، وإذا كان عادتهم بعد الظهر كذلك، لأن عادة الناس سابقًا الراحة قبل الظهر القائلة،وهكذا بعد صلاة العشاء في هذه الأوقات الثلاثة يستأذنون، أما ما سواه فلا يحتاج، لأنهم طوافون عليهم، من أهل البيت، فلا حرج بعد ذلك،فالمقصود: أنهم في هذه الأوقات الثلاثة يستأذنون، ولو كان مملوكًا، ولو كان صغيرًا لم يبلغ،وكذلك خدم البيوت، لئلا يرى عورة، وما سواها فالأمر فيه واسع)[11].
ومن المفاسد والسلبيات المناقضة لأدب الإستئذان التي يقع فيها فئام من الناس ما يلي:
أولا: عدم الاقتصار على ثلاث مرات في الإستئذان والزيادة على ذلك مما يفضي إلى إزعاج وإحراج أهل المنزل وتكوين صورة سيئة وكريهة عن المستأذن،فإن من الأدب بعد الثلاث الرجوع، فإن ذلك في حكم عدم الإذن بالدخول والله عز وجل قد قال (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا )وكما قال عليه الصلاة والسلام ( إذا استأذن أحدكم ثلاثا ، فلم يؤذن له ، فلينصرف)[12]،فالسنة ثلاثا ولا زيادة.
ثانيا: عدم التنحي إلى يمين الباب أو يساره عند الإستئذان، كي لا يقع النظر عند فتح الباب على محذور داخل المنزل فعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: السلام عليكم السلام عليكم، وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور)[13]،فالتنحي إلى يمين الباب أو يساره يقي المستأذن باب الشرور.
ثالثا: ترك إلقاء السلام عند الإستئذان،وهذا خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يلقي السلام ويرفع صوته بقوله(السلام عليكم السلام عليكم) مرتين أو ثلاثا عند الإستئذان.
رابعا: التثريب على أهل البيت إذا لم يفتحوا له لظروف خاصة بهم لا يعلمها،وتشويه سمعتهم والوقوع مع الناس في أعراضهم، وهذا الفعل لا يليق بمسلم،وليس من آداب الإسلام ولا الإستئذان،بل هو كبيرة من كبائر الذنوب.
خامسا: وضع ما لا يليق كالكراتين والحجارة والأخشاب وغيرها على الأبواب حينما لا يرد أهل المنزل ،وذلك لإعلامهم بأن الطارق هو فلان،وهذا خطأ ولا يليق بل هو من الأذى، ويعوض عنه كتابة ورقة صغيرة أو إرسال رسالة بالجوال وتكفي.
سادسا: عدم أخذ موعد مسبق مع المزور والاكتفاء بالمباغتة والمفاجأة التي لا يكون المزور معها على هيئة من الاستعداد،وهذا لا يصح في زمن تكاثرت فيه أدوات الاتصال والتواصل لأخذ موعد مسبق،حتى يكون المزور على هيئة من الاستعداد والأريحية والمحبة للزائر والتفرغ لاستقباله.وهذا الأمر قليل من الناس من يفقهه،وحتى لو كان الهدف من الزيارة مصلحة أو طلب من أمور الدنيا،فإن أخذ موعد مسبق دليل على وعي الزائر وكمال علمه وأدبه.
ثامنا: تعجل الزائر بالدخول فور فتح الباب قبل أن ينتهي رب المنزل من تهيئة الدخول والإذن بالدخول، وهذا بلا شك من خوارم المروءة وسوء الأدب،والواجب الوقوف حتى يدعوه للدخول.
فالمقصود مما سبق على وجه الاختصار، أن الإستئذان فريضة وشعيرة من شعائر الإسلام وأدب من آدابه،وخُلق من أخلاقه، ينبغي لكل مسلم أن يتخلق به،حفاظا للحرمات،ودرءا للمفاسد،وعملا بالدِين.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
[1] لسان العرب: 13/9، وتهذيب اللغة: 15/15].
[2] المجتمع الأمثل من وحي الكتاب والسنة محمد فهمي 148.
[3] سورة النور 30.
[4] تفسير الطبري ص 353.
[5]رواه البخاري.
[6] سورة النور 27 – 29.
[7] تفسير ابن كثير ص 352.
[8] أنظر تفسير الطبري ص 353.
[9] سورة النور 53.
[10] رواه أحمد وأبو داود .
[11] الموقع الإلكتروني الرسمي لابن باز رحمه الله.
[12] رواه البخاري ومسلم.
[13] رواه أبو داود.