( مودة ورحمة ) رأس المال المفقود!!!! د. ناجي بن وقدان

 

 

من نعم الله جل وعلا على عباده نعمة الزواج والعفاف لعمارة الكون ،وتكوين مجتمعات أسرية عفيفة تقوم على أساس متين من الدين والُخلُق الحسن. وجعل في الزواج السُكنى والراحة النفسية والاستقرار البدني ، وجعل المودة والرحمة أساسا متينا لقيام الحياة الأسرية واستمرارها، وامتن على عباده بهذه النعمة العظيمة كما قال عز وجل (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ)[1].

وجعل الله الحياة الزوجية سُكْنى ومودة ورحمة، كما قال تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)[2]، ومن هنا يظهر لنا مكمن السعادة الحقيقية التي انطلقت من معين المودة والرحمة بين الزوجين.

ولذلك كانت المرأة الصالحة، المتمسكة بكتاب ربها وهدي نبيها صلى الله عليه وسلم، من أهم ركائز تحقيق المودة والرحمة التي هي مصدر السعادة والحياة الطيبة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمَسكَن الواسع، والجار الصالح، والمركَب الهنيء، وأربع من الشقاوة: الجار السوء، والمرأة السوء، والمسكن الضيق، والمركب السوء)[3]، ولذلك يجدر بالمسلم أن يعتني ويجتهد ويبحث عن المرأة الصالحة المعينة له على دينه ودنياه، كما قال صلى الله عليه وسلم(تُنكَحُ المَرأةُ لأربعٍ: لمالِها، وحَسَبِها، ودِينِها، وجَمالِها، فاظفَرْ بذاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَداكَ)[4]، مع أننا في زمن تقل فيه الصالحات من النساء، وتكثر فيه المتصنعات للصلاح، ألابسات مسوك الضأن ، فليحرص المرء على الأسرة الصالحة المستقيمة المعروفة بدينها واستقامتها، فهذا من أساسيات بناء المودة والرحمة.

المودة والرحمة :

المودة والرحمة هي قوام الحياة الزوجية والبناء الأسري ، وهي رأس المال الأسري الذي يتمتع به الزوجين في هذه الحياة، وذلك من أعظم مقاصد النكاح في شرع الله المطهر أن تسود المودة والرحمة بين الزوجين ، وعلى هذا الأساس ينبغي أن تبنى الحياة الزوجية، ولذلك كانت كل الدراسات العلمية تذهب وتعود نهاية إلى هذا المحور الحيوي العظيم، ولن نجد أبدا أفضل من كتاب الله عز وجل في التوجيه لبناء الأسرة المسلمة .

والمودة في اللغة معناها : المحبة والوئام والإيثار[5](أي الحب الحقيقي) لا الحب المُتصنع الذي تدثر به كثير من النساء اليوم.

والمودة في الاصطلاح : هي خالص الحب، والمشاعر الفياضة، والانجذاب والميل إلى الطرف الآخر، ولذلك قال بعض أهل العلم: إن المودة خلاصة الحب وغايته.

والرحمة في اللغة :الرِّقَة، والشفقة، والرأفة، والعطف[6].

والرحمة في الاصطلاح :هي رِقَّة في القلب، يلامسها الألم حينما تدرك الحواس أو تُدرك بالحواس، أو يتصور الفكر وجود الألم عند شخص آخر، أو يلامسها السُّرور حينما تدرك الحواس أو تدرك بالحواس أو يتصور الفكر وجود المسرة عند شخص آخر[7].

إذاً المودة والرحمة أمان من انفصام العُرَى الزوجية، وضمان لاستمرار الحياة الأسرية، وحفظ للبيت الأسري من التصدع والانهيار.

فقدان رأس المال :

فقدان رأس المال( المودة والرحمة) منذر بانهيار وتهاوي الجدار الأسري ، ولعمري لقد عَظُم هذا الأمر وكَثُر في هذه الأزمنة المتأخرة، وتفككت كثير من المجتمعات والأسر المسلمة، وكَثُر الطلاق والخلع ، وتشتت الأبناء والبنات، وخرج لنا جيل عصفت به عواصف الفتن والأهواء والشهوات، وتخاطفتهم معاول الهدم والفساد، قد انقطعت بهم حبال التربية والتوجيه ، وتفاقمت المشاكل والقضايا الأسرية وامتلأت بها دور المحاكم ودور الإصلاح، بل وصل الأمر إلى تكوين جمعيات أسرية خاصة تهتم بالإصلاح وترميم الجدار الأسري، وقد تنجح مرة وتفشل مرات، لتعنت طرفي الإشكال. فيا تُرى ما هي الأسباب والدوافع وراء فقدان المودة والرحمة وتهاوي البيوت المسلمة التي ذهب ضحيتها فتية لا حول لهم ولا قوة إلا بالله،  لعلنا في هذا الطرح نلقي الضوء على بعض من الأسباب، وليس الكل ، التي أدت إلى هذه الحال العُضال، ومن ذلك:

الأول : ضعف الإيمان، وضعف الإيمان سبب قوي من أسباب انتفاء المودة والرحمة بين الزوجين، لأن قوة الإيمان تضفي على النفس البشرية الرحمة ،وانشراح الصدر والنفس وحب الخير.

والإيمان تارة يصعد وتارة يهبط، فزيادة التقوى والعمل الصالح وبذل المعروف لها أثر فعال في ارتفاع مستوى الإيمان، وضعف التقوى والخوف واقتراف الذنوب والمعاصي والتساهل في الطاعات والعبادات نقصان مباشر في مستوى الإيمان وبذلك تتغير أمور المرء إلى الأسوأ فيقسوا قلبه ويضيق صدره وتضمحل المودة والرحمة في نفسه وقلبه، وهذا سبيل إلى انفصام عرى الزوجية، وانهيار الحياة الأسرية. ولضعف الإيمان أسباب مباشرة تغيب به عن حياة المرء وقلبه، ومنها:

أولاً : الابتعاد عن الأجواء الإيمانية فترة طويلة، وهذا مدعاة لضعف الإيمان في النفس، كما قال عز وجل ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ )[8]، قال ابن كثير رحمه الله(أي : تلين عند الذكر ، والموعظة ، وسماع القرآن ، فتفهمه ، وتنقاد له ، وتسمع له ، وتطيعه)[9] ،ومعلوم أن العلم الشرعي وحِلق الذكر ومجالس العلم مثراة للإيمان ومجلبة للود والرحمة التي تُثَبِّت دعائم الأسرة المسلمة.

ثانياً : الابتعاد عن طلب العلم الشرعي من الكتاب والسنة والاتصال بكتب السلف والكتب الإيمانية، التي تحيي القلوب، فهناك أنواع من الكتب يحس القارئ بأنها تستثير في قلبه الإيمان، وتحرك الدوافع الإيمانية الكامنة في نفسه، وفي طليعتها كتاب الله تعالى وكتب الحديث، ثم كتب العلماء المجيدين في الرقائق والوعظ الذين يحسنون عرض العقيدة بطريقة تحيي القلوب، مثل كتب العلامة ابن القيم، وابن رجب، وغيرهما.

ثالثاً : وجود الإنسان في وسط يعج بالمعاصي، فهذا يتباهى بمعصية ارتكبها، وآخر يترنم بألحان أغنية وكلماتها، وثالث يدخن، ورابع يبسط مجلة ماجنة، وخامس لسانه منطلق باللعن والسباب والشتائم… وهكذا، أما القيل والقال والغيبة والنميمة وأخبار المباريات والعكوف على القنوات والمسلسلات الهدامة، وتضييع الأوقات في المناسبات فمما لا يحصى كثرة.

رابعاً : طول الأمل وما أكثر هذا الأمر في حياة الناس اليوم، فنجد أمل أحدهم أكبر من عمره، وقد يكون أكبر من قدراته وإمكانياته، كما قال عزوجل ( ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ )[10] ،وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه (إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل. فأما اتباع الهوى: فيصد عن الحق، وأما طول الأمل: فينسي الآخرة)[11] ،وجاء في الأثر: (أربعة من الشقاء: جمود العين، وقسوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا)، وقيل: (من قصر أمله قصر همه وتنوّر قلبه، لأنه إذا استحضر الموت اجتهد في الطاعة)[12].

خامساً :  الإفراط في الأكل والنوم والسهر والكلام والخلطة، وكثرة الضحك: فإن الوقت الذي لا يُملأ بطاعة الله تعالى ينتج قلبًا صلدًا لا تنفع فيه زواجر القرآن ولا مواعظ الإيمان.

الثاني : طغيان الماديات على النفوس والقلوب، حتى صارت هي الغاية والمبتغى عند السواد الأعظم من الناس اليوم رجالا ونساء إلا من رحم الله وقليل ما هم، فأصبح الكثيرون لا يهمهم إلا جمع المال بأي طريقة كانت دون النظر في حِلِّه من حُرمته، ودون النظر في الوسائل الموصلة إليه أتوافق شرع الله أم تخالفه، ولا سيما في وقتنا الحاضر الذي فُتِحت لهم فيه السبل للوصول إلى المادة بأسهل الطرق، حيث تتسابق قنوات المال وتتفنن في عامل الجذب والتيسير، فما يُحس المرء مع سكرة المال إلا وقد وقع في شَرَك الدنيا والمال، وأصبح  الناس وكأنهم في غابة موحشة يأكل القوي منهم الضعيف، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال(لَيَأْتِيَنَّ علَى النَّاسِ زَمانٌ، لا يُبالِي المَرْءُ بما أخَذَ المالَ، أمِنْ حَلالٍ أمْ مِن حَرامٍ)[13].

 وإنّ مما يندى له الجبين ويبعث أشد الأسى في قلوب المؤمنين، ما يرى مما يسود قلوب الناس اليوم ويهيمن على جل تفكيرهم من طغيان حب المادة والإعراض بالأموال عما أعطيت له، وتهافت الناس عليها تهافت الفراش على النار، وقصر جل التفكير والإحساس والعمل عليها كأنها وحدها الطريق الموصل إلى الله وإلى جنته، فَمَرِضت النفوس وكَثُرت العلل والأوجاع، وتقطعت أواصر الصلة والأرحام،  ، قال صلى الله عليه وسلم(َوَاللَّهِ ما الفَقْرَ أخْشَى علَيْكُم، ولَكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا، وتُهْلِكَكُمْ كما أهْلَكَتْهُمْ)[14].

ومع هذا التسابق المادي المحموم، تغيرت معالم الحياة الأسرية ، وتبدلت العلاقات الزوجية، وغيرت الماديات أجواء البيت الأسري، وتحولت من علاقات تسودها المودة والرحمة ،إلى علاقات مادية بحتة، يعتريها الجفاء والخلاف وتحكمها المصالح، ويسودها الجفاف العاطفي.

ولعل المتغيرات في هذه الأزمنة، وخصوصا في عالم المرأة أحدث شرخا عميقا في جدار الحياة الأسرية ، وكذلك وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة على اختلاف فئاتها وتقنيتها فَرَّقت الشمل الأسري ، واسْتُخْدمت كوسائل إفساد وإفتان وتخبيب لهدم البنيان الأسري. ولعل الاكتفاء المادي لدى المرأة والاستغناء عن الزوج بما أتيح لها من فرص العمل، له دور فعال وقوي في تحول البيت الأسري إلى عالم مادي بحت خال من كل معاني الألفة، والمحبة، والمودة، والرحمة.

الثالث : التنصل من المسئولية والقوامة التي ألقاها الله على كاهل الأزواج ، وكلفهم بها(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ)[15]، قال ابن كثير رحمه الله(أي : الرجل قيم على المرأة ، أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت ( بما فضل الله بعضهم على بعض ) أي : لأن الرجال أفضل من النساء ، والرجل خير من المرأة، ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال)[16] ولذلك عندما تخلى الرجال عن المسئولية والأمانة والقوامة، تَرَدَّت الأحوال، وانفلت الزمام، وتبعثرت الأسر، لا تجمعهم إلا الوجبات، وتفرقت بهم الماديات، ولا نجاة إلا بالعودة إلى الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، واستحضار عظمة المسئولية، فما حُمِّل ابن آدم أمانة إلا ويُسْأل عنها ولا مفر من السؤال.

انهيار العشرة الزوجية :

العشرة بالمعروف مما دعا إليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال عزوجل(وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرً)[17]، قال الإمام الطبري رحمه الله(وخالقوا، أيها الرجال، نساءكم وصاحبوهن بالمعروف ، يعني بما أمرتكم به من المصاحبة)[18]، وقال الغزالي (والمعاشرة بالمعروف تكون بِحُسْن الخُلُق معها، وكف الأذى عنها، بل احتمال الأذى منها، والحِلْم عن طيشها وغضبها، اقتداءً برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقد كانتْ أزواجه تراجعْنَه الكلام، بل أن يَزيد على احتمال الأذى منها بالمداعبة، والمزاح والملاعبة، فهي التي تُطَيِّب قلوبَ النساء، وقد كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يمزح معهنَّ)[19].

وقال عز وجل(وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)[20]، قال ابن كثير رحمه الله( ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن ، فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف ، كما ثبت في صحيح مسلم ، عن جابر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته ، في حجة الوداع ( فاتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف) وعن معاوية بن حيدة القشيري ، عن أبيه ، عن جده ، أنه قال : يا رسول الله ، ما حق زوجة أحدنا ؟ قال ( أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ، ولا تقبح ، ولا تهجر إلا في البيت) ، وعن ابن عباس قال ( إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة ، لأن الله يقول  ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف)[21].

وجاءت السنة الشريف بحفظ العشرة بين الزوجين وأولتها أهمية كبير، حفظا للبيوت والعُرَى الزوجية من التصدع والانهيار، فعن أبي هُريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم (لا يفرك[22] مؤمنٌ مؤمنة، إنْ كَرِهَ منها خُلقًا، رَضِيَ منها آخر)[23]، ومعنى الحديث: لا يَنبغي للزوج أن يُبْغِض زوجتَه بغضًا يحمله على فراقها، لأنَّه إن وجد فيها خُلُقًا يكرهه، وجد فيها خُلُقًا آخرَ يرضاه منها، فعليه أن يغفرَ سيئها لحُسْنها، ويَتَغَاضَى عمَّا يكره لِمَا يحب منها، وفي الحديث إشارة إلى أنَّه ينبغي للزوج أن يبحَث في زوجته عمَّا يُرْضِيه عنها، وألا يُنَقِّب عن المساوئ التي تحمله على كُرهها، وفيه أيضا إشارةٌ إلى أن الصَّاحب لا يوجد بدون عيْب، فإنْ أراد الشخص صاحبًا بريئًا من العيب بقِي بلا صاحِب، ولله دَرُّ القائل: 

أعاتب كل ذي حسب ودين* ولا أرضى معاتبة الرفيق

وأغمض للصديق عن المساوي*مخافة أن أعيش بلا صديق

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم (أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا، وخيارُكم خيارُكم لنسائِهم)[24]، في هذا الحديث يُبَيِّن النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ مَن كَمُل إيمانه هو من حَسُن خُلُقُه مع جميع الناس، ثم بيَّن أن خير الناس من كان خيرُه لزوجته خاصَّة، وذلك بأن يُعَامِلَها بالحسنى، ويصبر على أخلاقها، ويكُفَّ الأذى عنها، قال الحسنُ البصري(حقيقة حُسن الخُلق: بذْلُ المعروف، وكفُّ الأذى، وطلاقة الوجه)[25]، وقد كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم خيرَ الناس، ولهذا كان صلَّى الله عليه وسلَّم أحسنَ الناس معاشرةً لأزواجه، فإنه قد صحَّ عنه أنه قال(خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلي)[26].

وفي هذا الحديثِ يَحُثُّ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الأزواجَ على حسن معاشرةِ زوجاتهم، وحُسن صُحبتهنَّ، والتَّرفُّق بهن، وأنَّ مَن فعل هذا فهو مِن خير الناس، ومَن خالفه فهو شرُّ الناس، وقد كانتِ العرَب تقول :مَن لا خير فيه لأهله، فلا خيرَ فيه للناس.

والسنة الشريفة مليئة بالآثار والأحاديث التي تدل على أهمية العشرة الزوجية بالمعروف، لما في ذلك من قوام الأسرة واستقامة شأنها.

ألا وإن البعد عن الدين وهدي الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح واتباع الهوى وآراء شياطين الإنس والجن الذين تكاثروا في هذه الأزمنة وأجلبوا على الناس عامة والأسر خاصة بخيلهم ورجلهم ، وتجاهل الأزواج والزوجات لأساسيات العشرة الزوجية وقوامها، وانشغالهم بالدنيا وحطامها، كل ذلك سبيل محقق لانهيار الجدار الأسري وتفكك أوصال الأسر وضياع الحياء وتفلت الأبناء والنساء، ومن ثم ضياع الأمة بأسرها، وذوبانها في معين الأمم والمجتمعات الأخرى، حتى بتنا نرى التشكل والاختلاف الأسري في الملابس والأراء والأفكار والعادات والتقليد الأعمى والله المستعان.

ولقد وقع كثير من أبناء وبنات المسلمين طُعْما سائغا لمعاشر التخبيب الأسري من الرجال والنساء ، فَكثُر الطلاق والخُلع والفسخ وخرج كثير من أبناء وبنات المسلمين عن الدين، وضاع الأطفال والشباب والشابات جراء البعد عن الدين وتنكب الصراط المستقيم، وتلمس التربية والثقافة في غير مصادر الإسلام ومنابعه.

إن الأمانة عظيمة، والسؤال عنها أعظم، والوبال والخسار على من ضيع الأمانة ، كما قال عز وجل( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[27] ،قال ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما(يقول اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله وأمروا أهليكم بالذكر ينجيكم الله من النار)[28]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم(كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه، والأمير راعٍ، والرجل راعٍ على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولدِه، فكلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤول عن رعيته)[29] ، وقال عليه الصلاة والسلام(ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)[30].

إن رأس المال المفقود (المودة والرحمة) لا يعيده إلى مهده الأسري إلا العودة الصادقة إلى مَعين القرآن والسنة، واستلهام سيرة السلف الصالح، التي بها رأب الصدع، وإصلاح الخلل، وردم الفجوة الأسرية ، والتئام الجرح، واسترداد الشخصية المسلمة المستقلة ظاهرا وباطنا، بعيدا عن التبعية المقيتة التي لا تجني منها الأسرة المسلمة إلا البوار والخسار.

ولعل فيما سبق كفاية ودلالة على وجه الاختصار ، تدل على ضياع هذا الكنز العظيم( المودة والرحمة ) في هذه الأزمنة وفواتها من القلوب والنفوس، لعل ذلك حافزا إلى مراجعة النفس، واسترداد هذا المحور الحيوي في حياة الأسرة المسلمة، وأعتقد لو تعايش الأزواج تحت مظلة هذا الأساس العظيم لعاشوا حياة سعيدة، ولتلاشت المشاكل الأسرية ، ولتوارى عنهم الانفصام الأسري، والمشاكل الزوجية، وباتوا بحياة ساكنة مطمئنة هم وذويهم.

هذا والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.   

[1] سورة النحل 72.

[2] سورة الروم 21.

 1 رواه ابن حبان وصححه الألباني.

[4] رواه البخاري وغيره.

[5] معجم المعاني الجامع.

[6] الصحاح للجوهري 5/1929، ومقاييس اللغة لابن فارس 2/498.

[7] الأخلاق الإسلامية وأسسها لعبد الرحمن الميداني 2/3.

[8] سورة الحديد 16.

[9] تفسير ابن كثير ص 539.

[10] سورة الحجر 3.

[11] فتح الباري 11/236.

[12] فتح الباري 11/237.

[13] رواه البخاري .

[14] رواه البخاري.

[15] سورة النساء34.

[16] تفسير ابن كثير ص 84.

[17] سورة النساء 19.

[18] تفسير الطبري ص 80.

[19] إحياء علوم الدين 2/43.

[20] سورة البقرة 228.

[21] تفسير ابن كثير ص 36.

[22] والفرك: هو البُغض بين الزوجين.

[23] رواه مسلم.

[24] رواه الترمذي وصححه الألباني.

[25] الآداب الشرعية 307.

[26] رواه الترمذي وابن حبان.

[27] سورة التحريم 6.

[28] تفسير ابن كثير ص 560.

[29] متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما..

[30] متفق عليه من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *