الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
من الأمور التي يحبها الله ويُعظم عليها الأجر، حسن الظن به عز وجل، لا فيما يريده العبد من مطالب الدنيا والآخرة فحسب، بل فيما يقدره الله على العبد أن ذلك فيه خير له عاجل وآجل.
وقد دل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على جميل حسن الظن بالله سبحانه، واعلم يا رعاك الله أن حسن الظن بالله تعالى، هو قوة اليقين بما وعد الله تعالى عباده من سعة كرمه ورحمته، ورجاء حصول ذلك، والله تعالى يجيب عباده بحسن الظن به، كما قال تعالى( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[1]، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ( يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي)[2]، قال العلامة ابن باز رحمه الله(يحسن العبد ظنه بالله: أن ربه جواد، وأنه كريم، وأنه غفور رحيم سبحانه، وأنه يتوب على عباده إذا تابوا إليه، وأن فضله عظيم، يحسن ظنه بربه، مع الجد في العمل الصالح، مع التوبة)[3].
لا يجتمع حسن الظن بالله والقنوط :
أمران متضادان لا يجتمعان أبدا، كما لا يجتمع حق وباطل ولا نور ولا ظلام، لأن القنوط في أصله سوء ظن بالله تعالى، وهو أمر محرم، كما قال تعالى ( قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ)[4]، وقال عز وجل ( وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)[5].
وسوء الظن بالله سبحانه يمنع حصول الإجابة وتحققها، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ( يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي)[6]، فإذا تأخرت إجابة الدعوة، فليحسن الظن بربه، فإن الله لا يختار له إلا الصالح من أمره، فقد يدخرها له في الآخرة والعبد أحوج ما يكون إلى ذلك في ذلك الموقف، وإما يدرأ عنه من الشر بقدر دعوته، وإما يعجلها له، فالله أعلم بمصالح عباده وما فيه نفع لهم، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا، قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ. قَالَ: اللهُ أَكْثَرُ)[7].
قال ابن القيم رحمه الله( فإن الراجي ليس معارضا، ولا معترضا، بل راغبا راهبا، مؤملا لفضل ربه، محسن الظن به، متعلق الأمل ببره وجوده، عابدا له بأسمائه: المحسن، البر، المعطي، الحليم، الغفور، الجواد، الوهاب، الرزاق، والله يحب من عبده أن يرجوه، ولذلك كان عند رجاء العبد له وظنه به)[8]، فحسن الظن بالله يقتضي ألا يعترض العبد على عدم تحقق دعوته ومطلوبه، فقد يكون الخير كله فيعدم تحققه له، وقد يكون أُعطي ما هو أفضل من مطلوبه وهو لا يشعر، قال ابن القيم رحمه الله ( بل الذي ينافي الرضا: أنه يلح عليه، متحكما عليه، متخيرا عليه ما لم يعلم: هل يرضيه أم لا ؟ كمن يلح على ربه في ولاية شخص، أو إغنائه، أو قضاء حاجته، فهذا ينافي الرضا، لأنه ليس على يقين أن مرضاة الرب في ذلك)[9] .
ومن ناحية أخرى إذا رأى العبد أن استجابة دعوته قد تأخرت، فعليه أن يُلحق سوء الظن بنفسه ، ويفتش أعماله ودعائه، فقد يكون دعا بإثم أو قطيعة رحم، أو ساور نيته ضعف يقين وإخلاص، أو قد يكون شاطر مأكله ومشربه وملبسه ومركبه أمر محرم منع من استجابة دعائه، أو قد يكون دعا بقلب ساهٍ ولاهي، أو اقترف ذنبا حرمه الخير، كما في الحديث الصحيح( وإنَّ الرجل ليُحرم الرِّزقَ بالذنب يُصيبه)[10].
أما حسن ظن العبد بربه عز وجل ، بأنه عفو كريم يعفو عن عبده وينجيه من عذابه ، فهذا له حالتان:
الحالة الأولى: أن يكون حسن ظنه بربه في حال لم ينقطع أمله من الحياة ، ولم يكن في سكرات الموت، فحسن ظن هذا بربه ينفعه، إذا اجتنب المعاصي، وأحسن العمل، ولم ينقطع رجاءه بربه، بأن يتقبل طاعته ويعطيه مراده، قال ابن القيم رحمه الله ( ولا ريب أن حسن الظن إنما يكون مع الإحسان، فإن المحسن حسن الظن بربه أن يجازيه على إحسانه ولا يخلف وعده، ويقبل توبته، وأما المسيء المصر على الكبائر والظلم والمخالفات، فإن وحشة المعاصي والظلم والإجرام ، تمنعه من حسن الظن بربه، وهذا موجود في الشاهد، فإن العبد الآبق المسيء الخارج عن طاعة سيده لا يحسن الظن به، ولا يجامع وحشة الإساءة إحسان الظن أبدا، فإن المسيء مستوحش بقدر إساءته ، وأحسن الناس ظنا بربه : أطوعهم له)[11]، وقال الحسن البصري رحمه الله( إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل، وإن الفاجر أساء الظن بربه، فأساء العمل)[12].
وإن من خداع النفوس وغرور الأماني، أن يجتمع في قلب العبد تيقنه بأنه ملاقي الله، وأن الله يسمع كلامه، ويرى مكانه، ويعلم سره وعلانيته، ولا يخفى عليه خافية من أمره، وأنه موقوف بين يديه، ومسئول عن كل ما عمل، وهو مقيم على مساخطه مضيّع لأوامره، معطل لحقوقه، وهو مع هذا محسن الظن به؟ تقول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لبعض الصحابة( لو رأيتما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض له، وكانت عندي ستة دنانير، أو سبعة، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أفرّقها، قالت: فشغلني وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عافاه الله، ثم سألني عنها فقال: ما فعلتِ؟ أكنت فرّقت الستة الدنانير؟ فقلت: لا، والله لقد شغلني وجعك، قالت فدعا بها، فوضعها في كفه، فقال: ما ظن نبي الله لو لقي الله وهذه عنده؟ وفي لفظ: ما ظن محمد بربه لو لقي الله وهذه عنده)[13] ،فيا لله ما ظن الظلمة بالله إذا لقوه ومظالم العباد في أعناقهم؟.
والمقصود ، أن حسن الظن إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة، لا أسباب الهلاك.
الحال الثانية: أن يكون على فراش الموت، فهذا يترجح عنده حسن الظن بالله، لأن وقت العمل قد أدبر، ولم يبق للعبد إلا هذا الرجاء،
قال النووي رحمه الله ( قال العلماء: معنى حسن الظن بالله تعالى أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه)[14]، فإذا دنت أمارات الموت : غلّب الرجاء ، أو مَحَضَه ، لأن مقصود الخوف الانكفاف عن المعاصي والقبائح، والحرص على الإكثار من الطاعات والأعمال، وقد تعذر ذلك ، أو معظمه في هذا الحال ، فاستحب إحسان الظن المتضمن للافتقار إلى الله تعالى، والإذعان له ، وفي الأثر ( يبعث كل عبد على ما مات عليه )[15]، قال العلماء: معناه يبعث على الحالة التي مات عليها[16] ، وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم على شابٍّ وهو في الموتِ فقيل كيف تجِدُك قال أرجو اللهَ وأخافُ ذنوبي فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يجتمعان في قلبِ عبدٍ في مثلِ هذا الموطنِ إلَّا أعطاه اللهُ ما يرجوه وأمَّنه ممَّا يخافُ)[17]وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، يَقُولُ ( لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ )[18]، ومعنى ذلك أن يظن أن الله تعالى يرحمه ، ويرجو ذلك ، ويتدبر الآيات والأحاديث الواردة في كرم الله سبحانه وتعالى ، وعفوه ورحمته ، وما وعد به أهل التوحيد، وما ينشره من الرحمة لهم يوم القيامة وهذا هو الصواب[19].
حسن الظن بالله مُرْتهن بالعمل :
لا يجتمع حسن الظن بالله والقعود عن العمل، فإن من التوكل على الله وحسن الظن به فعل السبب، قال العلامة ابن باز رحمه الله(الواجب حسن الظن بالله مع الجد في العمل الصالح، والمحافظة على ما أوجب الله، والحذر مما حرم الله، والتواصي بالحق)[20]، وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله(لا شك في أن العبد المسلم ينظر إلى حسن الظن بالله تعالى على أنه معين له على عبادة الله سبحانه؛ فحسن الظن بالله والعبادة في قناعة المسلم متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، إلى أن قال: ومخطئ من اعتقد أن حسن الظن بالله يغني عن العمل والعبادة، ومن اعتقد ذلك فقد أساء لنفسه، وأساء الظن والأدب مع الله سبحانه؛ فالذي يجاهر بالمعاصي ولا يستقيم على فعل الطاعات، فهو عاجز لا يدرك حقيقة حسن الظن بالله)[21]، ولذلك لا بد من العمل والاجتهاد واتباع أمر الله واجتناب نهيه حتى يستقيم حسن ظنه بالله.
قد يكون حسن الظن بالله غروراً!!!! :
قد سبق القول بأن حسن الظن بالله الصحيح، هو الملازم للعمل والاجتهاد والسعي لمراضي الله ، وأن لا يصلح حسن ظن بلا عمل، لكن هناك نوع آخر من حسن الظن وهو الذي يلازمه الغرور، حيث يحسن المرء الظن بالله وهو مائل للبطالة، وقابع على المعاصي والآثام، ويتمنى على الله الأماني، فهذ وأمثاله لا يجنون إلا الفَلَس، ولباس الغرور، قال ابن القيم رحمه الله(وقد تبين الفرق بين حسن الظن والغرور، وأن حسن الظن إن حمل على العمل وحث عليه وساعده وساق إليه فهو صحيح، وإن دعا إلى البطالة والانهماك في المعاصي فهو غرور، وحسن الظن هو الرجاء، فمن كان رجاؤه جاذبًا له على الطاعة زاجرًا له عن المعصية، فهو رجاء صحيح، ومن كانت بطالته رجاء ورجاؤه بطالة وتفريطًا، فهو المغرور)[22]، وقال في موضع آخر(بل حسن الظن ينفع من تاب وندم وأقلع، وبدل السيئة بالحسنة، واستقبل بقية عمره بالخير والطاعة، ثم حسن الظن، فهذا هو حسن ظن، والأول غرور، والله المستعان)[23]، وعلى سياق المعنى يقول الإمام القرطبي رحمه الله(فأما ظن المغفرة والرحمة مع الإصرار على المعصية، فذلك محض الجهل والغرة وهو يجر إلى مذهب المرجئة)[24].
والمقصود ، أن حسن الظن بالله يستلزم العمل والخوف من الله وتقواه، وفعل كل سبب من طاعة وقُرْبة ، وإذكاء روح الخشية في القلوب، والخوف والوجل من عدم قبول الأعمال مع فعلها، فعن عائشة رضي الله عنها(أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)[25] ، فقالت: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ فقال لها نبينا صلى الله عليه وسلم: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون ألَّا يقبل منهم)[26]( أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ)[27].
حسن الظن بالله قرين التوكل عليه :
حقيقة التوكل على الله ولُبُه هو بذل السبب مع تعلق القلب بخالقه جل وعلا، فحسن الظن بالله وجميل التوكل عليه قرينان لا ينفكان، ولا بد منهما، وهما إلى الوجوب أقرب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال(يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني)[28]، وقال الحسن رحمه الله (إنما عمل الناس على قدر ظنونهم بربهم، فأما المؤمن فأحسن بربه الظن، فأحسن العمل، وأما الكافر والمنافق، فأساء به الظن، فأساء العمل، ثم تلا قول الله عز وجل( وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ )[29] .
فالتوكل على الله من حسن الظن به ، وهو مما أمر الله به،(وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[30]، فالسعيد من جمع الأمرين فحاز على مطلوبه وسعد في دنياه وآخرته.
كيف أحقق حسن الظن بالله :
ليس من السهل تحقيق حسن الظن بالله ، ومن ناحية أخرى ليس بالصعب تحقيقه، وإنما أسباب تُعمل، وخطوات وأمور تُحَقق، بها يحصل المطلوب ويتحقق المطلوب، ومنها:
أولا : لا بد من فهم عميق لمعاني أسماء الله الحسنى وصفاته، وقدرته في خلق الخلق وإيجادهم، وحكمته في العطاء والمنع، وحكمته فيما يصيب العبد من مصائب وابتلاءات وهموم.
ثانيا : البعد عن الذنوب والمعاصي والمنكرات وأماكن الله واللعب ، والبدار بالتوبة الخالصة من الذنوب والخطايا، والإقبال على الله بحسن العمل.
ثالثا : أن يدرك المسلم أن مقاليد السماوات والأرض بيد الله وحده، وخزائن رحمته وفضله تحت مشيئته، وأنه هو المتصرف فيها بالخلق والإيجاد والإعطاء، وأن الله لا ينتفع بطاعة الطائعين ولا يتضرر بمعصية العاصين.
رابعا : الصبر عل البلايا والمحن التي تصيبه، محتسبا الأجر والثواب على الله جل وعلا، فما استعان العبد على الشدائد بمثل الصبر(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[31].
الرُسُل عليهم الصلاة والسلام خير قدوة في حسن الظن بالله :
إبراهيم عليه السلام: وذلك عندما أوقدت له نار لم يوقد مثلها قط، لها شرر عظيم، ولهب مرتفع، جُمع لها الحطب شهرًا، حتى أن الطير ليمر بجنباتها فيحترق من شدة وهجها، يلقى فيها مربوطًا من بعيد، فيقول وهو في الهواء مناديًا لمن في السماء(حسبنا الله ونعم الوكيل)، فكانت نتيجة حسن ظنه بربه تعالى أن يأتيَ الأمر من رب سميع قريب مجيب( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ)[32].
محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك حين هجرته من مكة إلى المدينة، ( إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ )[33] ، يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه(نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه، أبصرنا تحت قدميه، فقال عليه السلام( يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟)[34]، فكانت النتيجة( فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )[35] .
حسن الظن بالناس مطلوب :
يدعوا دين الإسلام إلى حسن الظن بالمسلمين، والابتعاد عن سوء
الظن بهم، كما قال تعالى(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)[36]، قال ابن كثير رحمه الله(يقول تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن كثير من الظن ، وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله ; لأن بعض ذلك يكون إثما محضا ، فليجتنب كثير منه احتياطا ، وروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المسلم إلا خيرا ، وأنت تجد لها في الخير محملا)[37] . وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله علية وسلم ، قَالَ(إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا)[38]، فسوء الظن بعباد الله يؤدي إلى الخصومات والعداوات ، وتقطع الصلات ، وإلى الضغناء ووحر القلوب كما قال تعالى( وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)[39] يقول الإمام الغزالي رحمه الله كلامًا نفيسًا: “اعلم أن سوء الظن حرام مثل سوء القول فكما يحرم عليك أن تحدث غيرك بلسانك بمساوئ الغير، فليس لك أن تحدث نفسك وتسيء الظن بأخيك)[40].
إن حسن الظن بالناس فطرة سليمة فطر الله الناس عليها، ولكن ابن آدم هو الذي لَوًّث هذه الفطرة بمرض سوء الظن بالناس وإطاعة الشيطان، والولوج على النيات، إلا من رحم الله وقليل ما هم.
إن الظن السيئ يدفع صاحبه لتتبع العورات والبحث عن الزلات والتنقيب عن السقطات، وهو بذلك يعرض نفسه لغضب الله وعقابه، وقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء المرضى بالفضيحة بقوله: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته).
وسوء الظن يزرع الشقاق بين المسلمين، ويقطع حبال الأخوة، ويمزق وشائج الألفة والمحبة، ويزرع البغضاء والشقاء.
وخلاصة القول ، أن على المسلم أن يكون حَسَن الظن بربه جل وعلا ، فإن ذلك هو عين التفاؤل وضمان فضل الله ورحمته ، وليحذر سوء الظن فإنه مفتاح التشاؤم والقنوط من رحمة الله، فكل ما يأتي العبد من الله فهو خير له وأبقى، كما يجب عليه إحسان الظن بإخوانه والتماس العذر لهم والبعد عن تتبع النيات فإنه لا يعلم مكامنها إلا الله عز وجل، وليس للمسلم إلا ما ظهر. هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
[1] سورة البقرة 186.
[2] رواه البخاري ومسلم.
[3] الموقع الرسمي.
[4] الحجر 56.
[5] يوسف 87 .
[6] رواه البخاري ومسلم.
[7] رواه أحمد.
[8] مدارج السالكين 2 / 1432).
[9] مدارج السالكين 3/2033.
[10] رواه ابن ماجه والنسائي.
[11] الجواب الكافي ص 25.
[12] مصنف ابن أبي شيبة (7/ 187).
[13] رواه أحمد وابن حبان.
[14] شرح صحيح مسلم 14/210.
[15] رواه مسلم.
[16] شرح صحيح مسلم 17 / 210.
[17] رواه الترمذي وابن ماجه.
[18] رواه مسلم.
[19] ينظر مجموع الفتاوى 5/108.
[20] الموقع الرسمي.
[21] شرح رياض الصالحين 3/335.
[22] الجواب الكافي ص 24.
[23] الداء والدواء 44-50.
[24] المفهم شرح مسلم 7/5.
[25] سورة المؤمنون 60.
[26] رواه الترمذي وابن ماجه.
[27] سورة المؤمنون 61.
[28] رواه البخاري ومسلم.
[29] تفسير ابن كثير 7/158.
[30] سورة التوبة 51.
[31] سورة آل عمران 200.
[32] تفسير البغوي 5/327.
[33] سورة التوبة 40.
[34] رواه البخاري ومسلم.
[35] سورة التوبة 40.
[36] سورة الحجرات 12.
[37] تفسير ابن كثير ص 517.
[38] رواه البخاري وغيره.
[39] سورة النجم 28.
[40] إحياء علوم الدين 3/150.