الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
فلقد جاء التحذير والإنذار والإعذار في كتاب الله وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم من ارتكاب ما يخالف أمور الدين، والأمر والنهي ، ورتب على ذلك جملة من العقوبات الدنيوية والأخروية، ومن ذلك ما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول( ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة، من تقدم قوما وهم له كارهون، ورجل أتى الصلاة دبارا ، ورجل اعتبد محررة)[1].
ففي الحديث جاء التحذير من ثلاثة من المناهي التي يترتب عليها عدم قبول الصلاة، ومن المعلوم أن عدم قبول الصلاة فيه خطر عظيم على المسلم، فهي المحور الأساسي في قبول الأعمال كما جاءت به الأدلة من الكتاب والسُنة.
والثلاثة الذين لا تُقبل صلاتهم كما في الحديث هم:
أولا : (من تقدم قوماً وهم له كارهون)، والكراهية هنا مبنية على الحق لا على الجهل والباطل واتباع الهوى، أو الحسد والبغضاء وحزازيات الصدور ، فمن يتقدم القوم في الإمامة أو غيرها وهم يكرهون ذلك، يُنْظر في أسباب تلك الكراهية فإن كانت لسبب شرعي كجهله بأمور دينه، وخصوصاً في أمور الصلاة والإمامة ،أو أنه صاحب بدعة، أو يتعاطى أمور تُخِل بدينه وأمانته، يتعاطى الكذب وليس قدوة صالحة في الدين، يناقض قوله فعله، أو استولى على الإمامة بطريق أو بأخرى أو غيرها مما يُخِل بأمور دينه وإمامته.
وللعلماء أقوال حول من يؤم الناس وهم له كارهون كراهية شرعية:
قال المناوي رحمه الله (لِمَا يُذَم شرعا كفسق وبدعة وتساهل في تحرز عن خبث وإخلال بهيئة من هيئات الصلاة وتعاطي حرفة مذمومة وعشرة نحو فسقه )[2] ، وقال قال ابن قدامة رحمه الله (وإن كان ذا دين وسنة فكرهه القوم لذلك لم تكره إمامته)[3] ، وسُئل شيخ الإسلام رحمه الله في رجل يؤم قوما وأكثرهم له كارهون ؟ فقال( إن كانوا يكرهون هذا الإمام لأمر في دينه مثل كذبه ، أو ظلمه ، أو جهله ، أو بدعته ونحو ذلك ، ويحبون الآخر لأنه أصلح في دينه منه مثل أن يكون أصدق ، وأعلم ، وأدين فإنه يجب أن يولى عليهم هذا الإمام الذي يحبونه وليس لذلك الإمام الذي يكرهونه أن يؤمهم كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم : رجل أم قوما وهم له كارهون ، ورجل لا يأتي الصلاة إلا دبارا ، ورجل اعتبد محررا )[4] ، وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله(وأفادنا قوله (بحق) أنهم لو كرهوه بغير حق ، مثل : لو كرهوه لأنه يحرص على اتباع السنة في الصلاة فيقرأ بهم السور المستحبة المسنونة ، ويصلي بهم صلاة متأنية ، فإن إمامته فيهم لا تُكره ، لأنهم كرهوه بغير حق فلا عبرة بكراهتهم ، وينبغي له إذا كانوا يكرهونه بغير حق أن يعظهم ويذكرهم ويتألفهم ويصلي بهم حسب ما جاء في السنة ، وإذا علم الله من نيته صدق نية التأليف بينهم يسر الله له ذلك)[5] .
والمقصود أن الكراهية إذا كانت مبنية على أسباب شرعية، فإنها تكون صحيحة يُبنى عليها تغيير ذلك الإمام وتنحيته لعدم صلاحيته للإمامة. أما إذا كانت مجرد كراهية مبنية على الهوى والتغرض والحسد فلا يُعبأ بها ولا يُكترث لها ولا يُسمع لأصحابها.
ثانيا ( ورجل أتى الصلاة دبارا ) وهو الذي يتهاون فيها وفي آداءها ويؤخرها عن وقتها مراراً، ويتخلف عن آدائها جماعة مع المسلمين في المساجد دون عذر شرعي، أو يأتيها بعدما يفوت بعضها أو كلها ويتكرر ذلك منه كثيرا، أو يُخرجها عن وقتها ، أو من يأتيها بعد فراغ الجماعة منها ويكون ذلك ديدنه دائما، فهذا لا تُقبل منه صلاته وإن صلاها.
وهذا ما نشاهده في هذا الزمان من الكثير من الناس وخصوصاً الشباب منهم (إلا من رحم الله)، يضيعون الصلاة ويتهاونون في آداءها ولا يأتونها إلا دبارا بشكل معتاد ومستمر، وهؤلاء على خطر عظيم، لو مات أحدهم فجأة لقي الله بلا صلاة.
ولقد توعد الله المتهاونين بأمر الصلاة فقال عز وجل(فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ)[6]، قال ابن عباس ، وغيره ( يعني المنافقين ، الذين يصلون في العلانية ولا يصلون في السر ،ولهذا قال : ( للمصلين ) أي : الذين هم من أهل الصلاة وقد التزموا بها ، ثم هم عنها ساهون ، إما عن فعلها بالكلية ، كما قاله ابن عباس ، وإما عن فعلها في الوقت المقدر لها شرعا ، فيخرجها عن وقتها بالكلية)[7]، وقال عزوجل(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)[8]، قال الإمام ابن باز رحمه الله(يعني: قوم جاؤوا بعدهم، ليسوا على استقامة، بل على إضاعة للصلوات، وركوب للمحارم، ولهذا قال( وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) يعني: المحرمة كالزنا، وشرب المسكرات، واللواط، وأكل الربا وغير ذلك مما حرم الله، (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) ، يعني خسارًا ودمارًا، وعاقبة سيئة، وقال بعض المفسرين( غيًا) يعني وادي في جهنم، يعني في واد في جهنم خبيثًا طعمه، بعيدًا قعره، نسأل الله العافية، وبكل حال فالذي يضيع الصلوات، ويتركها قد أتى منكرًا عظيمًا، وهو كافر عند جمع من أهل العلم، وإن لم يجحد الوجوب)[9].
فالعاقل الذي يرجو نجاة الدنيا والآخرة، يبتعد عن تضييع الصلوات لأنها الحبل الواصل بينه وبين الله، إذا انقطع، انقطعت صلته بربه عز وجل، وليحافظ عليها جماعة مع المسلمين حيث تقام ،فإن الله ما عذر عن صلاة الجماعة إلا من مرض ومطر وخوف، وليبتعد عن التهاون فيها وفي آداءها فما خسر الخاسرون ، ولا ندم النادمون إلا بعد فوات الأوان وانقطاع العمل ومواجهة الرحمن عز وجل، ولقد كانت الصلاة آخر وصايا النبي صلى الله عليه وسلم عند الاحتضار ومغادرة الدنيا(الصَّلاةَ وما ملَكَت أيمانُكم، الصَّلاةَ وما مَلَكت أيمانُكم)[10]، وما ذاك إلا لعظم شأنها، وعظيم فضلها، ولا يُقبل أي عمل إلا بها.
ثالثا : ( ورجل اعتبد محررا ) أي كان عنده عبد فأعتقه ثم كرهه فرجع واعتقله واستعبده قسرا بعد ما أعتقه، أو يكتم عتقه ليبقى مستخدما عنده، أو يأخذ حُرا ويجعله عبدا عنده.
وفي رواية (رجُلٌ اعتَبدَ مُحرَّرةً) ومحررة عائدة على النفس والنَسَمَة فتشمل العبيد الذكور والإناث، وتحمل نفس المعنى الذي ذكرناه.
وخلاصة القول فيما سبق أن هؤلاء الثلاثة المذكورون في الحديث لا تُقبل صلاتهم ولا ترتفع فوق رؤوسهم إزاء ما اقترفوا ، وإن ماتوا على ذلك لقو الله تعالى بلا صلاة فخسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ، ومن تاب وعاد إلى الله عودة صادقة، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[11]، قال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله(يخبر تعالى عباده المسرفين بسعة كرمه، ويحثهم على الإنابة قبل أن لا يمكنهم ذلك فقال: { قُلْ } يا أيها الرسول ومن قام مقامه من الدعاة لدين اللّه، مخبرا للعباد عن ربهم: { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } باتباع ما تدعوهم إليه أنفسهم من الذنوب، والسعي في مساخط علام الغيوب، { لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } أي: لا تيأسوا منها، فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وتقولوا قد كثرت ذنوبنا وتراكمت عيوبنا، فليس لها طريق يزيلها ولا سبيل يصرفها، فتبقون بسبب ذلك مصرين على العصيان، متزودين ما يغضب عليكم الرحمن، ولكن اعرفوا ربكم بأسمائه الدالة على كرمه وجوده، واعلموا أنه يغفر الذنوب جميعا من الشرك، والقتل، والزنا، والربا، والظلم، وغير ذلك من الذنوب الكبار والصغار)[12].
هذا والله أعلم وأحلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
[1] رواه أبو داود وصححه الألباني.
[2] فيض القدير 3/324.
[3] المغني 2/32.
[4] الفتاوى الكبرى 1/127 و23/373.
[5] الشرح الممتع 4/354.
[6] سورة الماعون 4-5.
[7] تفسير ابن كثير ص 602.
[8] سورة مريم 59.
[9] الموقع الرسمي لسماحته رحمه الله.
[10] رواه أبو داود وأحمد وصححه الألباني من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[11] سورة الزمر 53.
[12] تفسير السعدي ص 464.