الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
لا شك ولا ريب في أن (لا إله إلا الله) هي خير كلمة وأجمل عبارة طيبة على الإطلاق، فهي كلمة التوحيد وبوابة الإسلام(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ)[1]، أي أنه لا معبود بحق غير الله.
ولكن الكلمة الطيبة في عمومها بين الناس لها وقع في القلوب وتأثير في النفوس، وهي مِنَّةُ الله وفضله على عباده، تخترق القلوب فتضفي عليها وشاح المحبة والسعادة ، وهي دعوة الأنبياء والمرسلين ، وهي صدقة وإحسان يؤجر عليها محتسبها، تُفْتح بها أبواب الخير وتنغلق بها أبواب الشر، ويُدحر بها الشيطان، وكما قال القائل، أضيئوا أرواح الناس بطيب الكلام، فهي رسالة إلى القلوب والأرواح تُطفئ ما بينها من العداوة والبغضاء، وقد حث عليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى(وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)[2] ، قال ابن كثير رحمه الله(أي : كلموهم طيبا ، ولينوا لهم جانبا ، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف ، كما قال الحسن البصري في قوله( وقولوا للناس حسنا ) فالحسن من القول يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويحلم ، ويعفو ، ويصفح ، ويقول للناس حسنا كما قال الله ، وهو كل خُلُق حسن رَضِيه الله)[3]، وقال عز وجل(وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا)[4]،قال الإمام الطبري رحمه الله(وقل يا محمد لعبادي يقل بعضهم لبعض التي هي أحسن من المحاورة والمخاطبة)[5]،وجاءت السنة النبوية الشريفة لتذكي روح الكلمة الطيبة في النفوس والقلوب، فعن عدي بن حاتم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم( اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة )[6]، فدل على أن الكلمة الطيبة التي تطيب بها النفوس صدقة يؤجر عليها قائلها.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم( إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه بها درجات…)[7]، وقال عليه الصلاة والسلام( والكلمة الطيبة صدقة)[8]، وقال عليه الصلاة والسلام( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )[9] ، وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال( في الجنة غرفة يُـرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها) فقال أبو مالك الأشعري: لمن هي يا رسول الله ؟ قال( لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وبات والناس نيام)[10] ، وكل هذه النصوص تدل على أهمية الكلمة الطيبة، واثرها الجميل في الأنفس والقلوب.
ومن نظر إلى الأدلة السابقة من الكتاب والسُنة يرى أنها كلها تدعو إلى السلامة، وتحث على كل خلق عظيم تطيب به النفوس.
الكلمة الطيب كالشجرة الطيبة :
ضرب الله أروع المثل وأجمله للكلمة الطيبة ، وشبهها بالشجرة الطيبة الراسخة، التي لا يُجْنى منها إلا خيرا وطيباً، كما قال عز وجل (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ*تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)[11] ، قال عطية العوفي(ذلك مثل المؤمن لا يزال يخرُج منه كلام طيبٌ وعمل صالح يَصْعَد إليه)[12]، فالتشبيه هنا وقع بأطيب وأجمل شجرة على وجه الأرض، وهي النخلة، سلوة النفوس، وقوت البيوت(بيتٌ لا تمرَ فيهِ ، جياعٌ أهلُهُ)[13]، رسوخ في الأرض وسمو في السماء ، حباها الله بالجمال والنظافة، وجعل منها أصنافاً يَفْضُل بعضها على بعض، صنوان وغير صنوان، منها النخلتان والثلاث على أصل واحد ومنها المتفرق، فالكلمة الطيبة في قوتها وتأثيرها ونفعها كالنخلة الطيبة، وشرف للكلمة الطيبة أن تُشَبَّه بأطيب شجرة.
الكلمة الطيبة دعوة :
بالكلمة الطيبة تدعو الناس إلى الخير، وتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، وبالكلمة الطيبة تصل إلى قلوبهم ونفوسهم، وذلك من خلال:
أولا: تدعوهم بأحب الأسماء إلى نفوسهم، والتي يحبون أن يُنَادوا بها، وهذا الأسلوب محبب إلى النفوس، فَتُقْبِل على الداعي متهيئة لقبول دعوته.
ثانيا : الدعوة الطيبة من الكلمة الطيبة يدعو بها للمدعو بالتوفيق والسداد في الطاعة والعباد والاستجابة لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وترغيبه في الخير وترهيبه من الشر، فالترغيب والترهيب والدعاء من أنجح الأساليب الدعوية.
ثالثا : الموعظة الحسنة والحكمة والجدال الحسن العادل من الكلمة الطيبة، فهي وسائل أصيلة طيبة، تُخضع النفوس لقبول الحق( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[14]، قال ابن كثير رحمه الله(أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال ، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب)[15]، وأمر جل وعلا موسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون بقوله(فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى)[16]،فاللين والرفق سبب في قبول الحق ، أو تقوم بهما الحجة على المعاند.
رابعاً :الشُكر والذِكر الحسن من الكلمة الطيبة ، فشكر الداعية أو من يساهم في العمل الخيري، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، والمُصْلح بين الناس، ومن يفعل الخير للناس، فيه رفع لمعنويات هؤلاء وتشجيعاً لهم على مواصلة الخير ، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله كما جاء في الأثر(لا يَشْكُرُ اللهَ مَن لا يَشْكُرُ الناسَ)[17]، وأقرب الناس للمرء أهله وأبناءه فهم أحق بالكلمة الطيبة والذكر الحسن والتحفيز لكل خير، فكل ذلك يدخل في الكلمة الطيبة.
والكلمة الطيبة فُرَصٌ تُقْتَنص أنى وُجِدت تُغْتنم، وذلك في المجالس والسَّفَر والمناسبة العابرة وفي السوق والمسجد، والداعية الحصيف يستغل المواقف لبذل الكلمة الطيبة، ولا يستعجل ثمارها ، فقد لا تأتي إلا بعد حين.
رمضان والكلمة الطيبة :
الناس في رمضان أحوج ما يكونون إلى الكلمة الطيبة من غيره
وخصوصا في آخر النهار وهم يتقابلون في الأسواق والشوارع وقد ضاقت نفوسهم مع الصيام وقل صبرهم، وكلٌ يريد أن ينال حظه على عجل، فينشأ عن ذلك خصام وخلاف وتراشق بأسوأ الألفاظ، وقل من يتذكر حظه من الدين والأخلاق، وهنا تبرز مكانة الكلمة الطيبة، التي بها تهدأ النفوس ، وتنكسر شهوة الغضب، وتنجلي معاني الصيام السامية، فالغضب نار تتأجج في صدر صاحبه، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغضب ثلاثا لشناعة ما ينتج عنه من مساوئ الأخلاق، فعن أبي هريرة رضي الله عنه(أنَّ رجلًا قال : يا رسولَ اللهِ قُلْ لي قولًا وأَقْلِلْ لعلِّي أعِيه قال لا تغضبْ . فأعاد عليه مرارًا ، كلُّ ذلك يقولُ : لا تغضَبْ)[18]، وروى سليمان بن صرد رضي الله عنه بقوله (استَبَّ رجُلانِ عندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونحنُ عندَه جلوسٌ وأحدُهما يسُبُّ صاحبَه مغضَبًا قد احمَرَّ وجهُه فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ( إنِّي لَأعلَمُ كلمةً لو قالها لذهَب عنه ما يجِدُ: أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ… )[19]، فالتعوذ بالله من الشيطان الرجيم عند الغضب كلمة طيبة فيها لجوء وتضرع إلى الله لإطفاء نار الغضب.
فالكلمة الطيبة تكسر ثورة الغضب في النفس فيهدأ صاحبها، ويذهب عنه سوء الخلق من القول والفعل. واختيار الكلمة الطيبة بما يناسب الموقف من محاسن العُقلاء، كقولك (جزاك الله خيراً ، بارك الله فيك، عفا الله عنك ، غفر الله لك، إني صائم) وهكذا يختار من الكَلِم الطيب كما يختار أطايب الثمر، مما يبعث في النفس الهدوء، ويحس صاحبها بالخجل والندم، فيرجع إلى معين الصيام الصافي، وقد حالت الكلمة الطيبة بينه وبين ما يخدش روح الصيام، كما ثبت عن النبي
صلى الله عليه وسلم قوله(وإذا كان يومُ صَومِ أحَدِكم فلا يَرفُثْ، ولا يصخَبْ، فإن سابَّهَ أحدٌ، أو قاتَلَه، فلْيقُلْ: إنِّي امرؤٌ صائِمٌ)[20]، فكلمة إني امرؤٌ صائم تجعل الثائر الغضب يعود إلى صوابه ويترك حظوظ النفس.
وفقنا الله جميعا إلى الكَلِم الطيب ، والأخلاق الحسنة، وأن يجعلنا مفاتيح خير ومغاليق شر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
[1] سورة محمد 19.
[2] سورة البقرة 83.
[3] تفسير ابن كثير ص 12.
[4] سورة الإسراء 53.
[5] تفسير الطبري ص 287.
[6] رواه ابن حبان في صحيحه.
[7] رواه البخاري.
[8] رواه البخاري.
[9] رواه البخاري.
[10] حسن لغيره صححه شعيب الأرناؤوط.
[11] سورة إبراهيم 24-25.
[12] تفسير الطبري ص 258.
[13] رواه مسلم وأبو داود.
[14] سورة النحل 125.
[15] تفسير ابن كثير ص 125.
[16] سورة طه 44.
[17] رواه أبو داود والترمذي.
[18] رواه البخاري.
[19] رواه البخاري وابن حبان.
[20] رواه البخاري ومسلم.