نسبه وإسلامه وشخصيته:
أنس بن مالك بن النضر بن ضَمْضَم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار. وأمه: أم سليم بنت ملحان. وكنيته: أبو حمزة، ويقال: أبو ثمامة الأنصاري البخاري، وروى الترمذي وغيره عن أنس قال: كناني النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا حمزة ببقلة اجتنيتُها.
لقبه: روى أبو داود والترمذي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأنس: يا ذا الأذنين.
مولده: قال الذهبي: ثبت مولد أنس قبل عام الهجرة بعشر سنين.
وكان -رضي الله عنه- مرجع الصحابة والتابعين في الرواية والفتوى، وقد لخص الحافظ الذهبي مناقبه في صدر ترجمته فقال: الإمام، المفتي، المقرئ، المحدث، راوية الإسلام، أبو حمزة الأنصاري الخزرجي النجاري المدني، خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقرابته من النساء، وتلميذه وتبعه، وآخر أصحابه موتًا.
روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- علمًا جمًّا، وعن أبي بكر، وعمر، وعثمان، ومعاذ، وأسيد بن الحضير، وأبي طلحة. وأمه: أم سليم بنت ملحان، وخالته أم
حرام، وزوجها عبادة بن الصامت، وأبي ذر، ومالك بن صعصعة، وأبي هريرة، وفاطمة النبوية، وعدة.
ورَوى عنه خَلْق عظيم؛ منهم: الحسن البصري، وابن سيرين، والشعبي، وأبو قلابة، ومكحول، وعمر بن عبد العزيز، وثابت البناني، وبكر بن عبد الله المزني، والزهري، وقتادة، وابن المنكدر، وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، وعبد العزيز بن صهيب، وشعيب بن الْحَبْحاب، وعمرو بن عامر الكوفي، وسليمان التيمي، وحميد الطويل، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وكثير بن سليم، وعيسى بن طهمان، وعمر بن شاكر، وخلق كثير.
وبقي أصحابه الثقات إلى بعد الخمسين ومائة، وبقي ضعفاء أصحابه إلى بعد التسعين ومائة، وبقي بعدهم ناس لا يُوثق بهم؛ بل اطُّرح حديثهم جملة؛ كإبراهيم بن هُدبة، ودينار أبو مكيس، وخراش بن عبد الله، وموسى الطويل، عاشوا مُدَيْدَة بعد المائتين، فلا اعتبار بهم.
وإنما كان بعد المائتين بقايا مَن سمع مِن ثقات أصحابه؛ كيزيد بن هارون، وعبد الله بن بكر السهمي، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وأبي عاصم النبيل، وأبي نُعيم.
وقد سرد صاحب “التهذيب” نحو مائتي نفس من الرواة عن أنس. وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخصه ببعض العلم، فنقل أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه طاف على تسع نسوة في ضحوة بغُسل واحد.
– هيئته وبعض أوصافه وغيره:
قال سلمة بن وردان: رأيت على أنس عمامة سوداء قد أرخاها من خلفه.
وروى ابن سعد عن أنس: نهى عمر أن نكتب في الخواتيم عربيًّا، وكان في خاتم أنس ذئب أو ثعلب.
وقال ابن سيرين: كان نقش خاتم أنس أسد رابض.
وروى همام، عن ابن جريج عن الزهري، عن أنس: أنه نقش في خاتمه: “محمد رسول الله”، فكان إذا دخل الخلاء نزعه.
وقال ابن عون: رأيت على أنس مِطرَفَ خَزٍّ، وعمامة خز، وجُبَّة خز٤.
وروى عمرو بن دينار، عن أبي جعفر قال: كان أنس بن مالك أبرص وبه وَضَحٌ شديد، ورأيته يأكل، فيلقم لقمًا كبارًا.
– خدمته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودعاء الرسول له:
شَرُف أنس بخدمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وملازمته، فاستقى منه علمًا غزيرًا، وظفر منه دعاء مستجابًا.
روى مسلم وغيره: كان أنس يقول: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة وأنا ابن عشر، ومات وأنا ابن عشرين، وكنَّ أمهاتي يحثُثْنَني على خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو داود الطيالسي بسند صحيح والترمذي بإسناد حسنه عن أبي خلدة، قلت لأبي العالية: سمع أنس من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: خدمه عشر سنين، ودعا له، وكان له بستان يحمل في السنة الفاكهة مرتين، وكان فيها ريحان يجيء منه ريح المسك.
قال ثُمامة بن عبد الله: كان كَرْمُ أنس يحمل في السنة مرتين.
قال سليمان التيمي: سمعت أنسًا -رضي الله عنه- يقول: ما بقي أحد صلى القبلتين غيري.
وروى أبو يعلى والترمذي بنحوه عن أنس -رضي الله عنه- قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة وأنا ابن ثمان سنين، فأخذت أمي بيدي فانطلقت بي إليه، فقالت: يا رسول الله! لم يبقَ رجل ولا امرأة من الأنصار إلا وقد أتحفك بتحفة، وإني لا أقدر على ما أُتحفك به إلا ابني هذا، فخذه، فليخدمك ما بدا لك. قال: فخدمته عشر سنين، فما ضربني، ولا سبني، ولا عبس في وجهي.
وروى مسلم عن أنس قال: جاءت بي أم سليم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أزَّرتني بنصف خمارها، وردتني ببعضه، فقالت: يا رسول الله! هذا أُنيس ابني أتيتك به يخدمك، فادعُ الله له، فقال: “اللهم أكثر ماله وولده” فوالله إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي يتعادُّون على نحو من مائة اليوم.
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري، عن أمه: أنها رأت أنسًا متخلقًا بخلوق وكان به برص، فسمعني وأنا أقول لأهله: لهذا أجلد من سهل بن سعد، وهو أسن من سهل، فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا لي.
وقال أبو اليقظان: مات لأنس في طاعون الجارف ثمانون ابنًا، وقيل: سبعون.
وروى الشيخان من طريق شعبة، عن قتادة، عن أنس: أن أم سليم قالت: يا رسول الله! خادمك أنس، ادعُ الله له، فقال: “اللهم أكثر ماله وولده”، فأخبرني بعض أهلي أنه دفن من صلبي أكثر من مائة١.
وروى البخاري في الأدب المفرد، وابن سعد بسند حسن عن أنس قال: دعا لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: “اللهم أكثر ماله وولده، وأطل حياته” فالله أكثر مالي حتى إن كَرْمًا لي لتحمل في السنة مرتين، ووُلِدَ لصلبي مائة وستة٢.
وروى البخاري في صحيحه عن حميد، عن أنس رضي الله عنه: دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- على أم سليم، فأتته بتمر وسمن، فقال: “أعيدوا تمركم في وعائه، وسمنكم في سقائه، فإني صائم” ثم قام إلى ناحية البيت فصلى صلاة غير المكتوبة، فدعا لأم سليم وأهل بيتها. فقالت: يا رسول الله! إن لي خويصة، قال: “ما هي؟ “ قالت: خادمك أنس. فما ترك خير آخرة ولا دنيا إلا دعا لي به، ثم قال: “اللهم ارزقه مالًا وولدًا، وبارك له” قال: فإني لمن أكثر الأنصار مالًا، وحدثتني ابنتي أمينة أنه دفن لصلبي مَقْدِمَ الحجاج البصرة بضع وعشرون ومائة.
– مشاهده:
لم يتخلف أنس -صلى الله عليه وسلم- عن غزوة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى غزوة بدر، فقد شهدها صغيرًا. قال الذهبي: فصحب أنس نبيه -صلى الله عليه وسلم- ولازمه أكمل الملازمة منذ هاجر وإلى أن مات، وغزا معه غير مرة، وبايع تحت الشجرة.
وقد روى محمد بن سعد في “طبقاته”: حدثنا الأنصاري، عن أبيه، عن مولى لأنس، أنه قال لأنس: أشهدت بدرًا؟ فقال: لا أم لك، وأين أغيب عن بدر. ثم قال الأنصاري: خرج مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بدر وهو غلام يخدمه.
وقد رواه عمر بن شبة، عن الأنصاري، عن أبيه، عن ثمامة قال: قيل لأنس: … فذكر نحوه. قلت: لم يعده أصحاب المغازي في البدريين لكونه حضرها صبيًّا ما قاتل؛ بل بقي في رحال الجيش، فهذا وجه الجمع.
وقال موسى بن أنس: إن أنسًا غزا ثمان غزوات.
– عبادته وورعه:
روى ابن سعد بسند صحيح عن ثابت البناني: قال أبو هريرة: ما رأيت أحدًا أشبه بصلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أبن أم سليم؛ يعني: أنسًا.
وقال أنس بن سيرين: كان أنس بن مالك أحسن الناس صلاة في الحضر والسفر.
وروى الأنصاري عن أبيه، عن ثمامة قال: كان أنس يصلي حتى تفطَّر قدماه دمًا، مما يطيل القيام رضي الله عنه.
وروى معاذ بن معاذ، حدثنا عمران، عن أيوب قال: ضَعُف أنس عن الصوم، فصنع جفنة من ثريد، ودعا ثلاثين مسكينًا فأطعمهم.
وروى ابن سعد في طبقاته من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري: حدثنا شيخ لنا يكنى أبا الحباب قال: سمعت الجريري يقول: أحرم أنس بن مالك من ذات عرق، قال: فما سمعناه متكلمًا إلا بذكر الله حتى حل، قال: فقال له: يابن أخي هكذا الإحرام.
– كرامته:
قال ثابت البناني: جاء قيِّمُ أرض أنس فقال: عطشت أرَضوك، فتردَّى أنس ثم خرج إلى البرية، ثم صلى ودعا، فثارت سحابة، وغشيت أرضه ومطرت حتى ملأت صهريجه وذلك في الصيف، فأرسل بعض أهله فقال: انظر أين بلغت؟ فإذا هي لم تعد أرضه إلا يسيرًا.
قال الذهبي معلقًا: هذه كرامة بيِّنة ثبتت بإسنادين.
– رؤيته للنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته:
روى ابن سعد بسند صحيح عن المثنى بن سعيد قال: سمعت أنسًا يقول: ما ليلة إلا وأنا أرى فيها حبيبي، ثم يبكى.
– إكرام عمر له:
روى حماد بن سلمة: أخبرنا عبيد الله بن أبي بكر، عن أنس قال: استعملني أبو بكر على الصدقة، فقدمت وقد مات، فقال عمر: يا أنس، أجئتنا بظهره؟ قلت: نعم. قال: جئنا به، والمال لك. قلت: هو أكثر من ذلك، قال: وإن كان فهو لك. وكان أربعة آلاف.
موقفه من الفتنة:
لم يتغير أنس لعثمانَ ولا لعلي في الفتنة، ولم ينضم إلى أحد الفريقين، ولم يشترك في محاربة أحدهما، وقد صرح بأن الله تعالى منحه حبهما جميعًا.
قال حميد عن أنس: يقولون: لا يجتمع حب علي وعثمان في قلب، وقد جمع الله حبهما في قلوبنا.
– إيذاء الحجاج بن يوسف الثقفي له:
كان أنس -رضي الله عنه- يقف للحجاج بالمرصاد، وكان يؤلب عليه كلما وجد منه خطأ؛ ولذلك كان إيذاء الحجاج له وإهانته إياه.
قال جعفر بن سليمان: حدثنا علي بن زيد قال: كنت بالقصر، والحجاج يَعرِض الناسَ ليالي ابن الأشعث، فجاء أنس فقال الحجاج: يا خبيث، جوَّال في الفتن … ، مرة مع علي، ومرة مع ابن الزبير، ومرة مع ابن الأشعث، أما والذي نفسي بيده، لأستأصلنَّك كما تُستأصل الصَّمْغَة، ولأجردنك كما يُجرَّد الضب. قال: يقول أنس: من يعني الأمير؟ قال: إياك أعني أصمَّ الله سمعك. قال: فاسترجع أنس، وشُغل الحجاج، فخرج أنس، فتبعناه إلى الرحبة فقال: لولا أني ذكرتُ ولدي وخشيت عليهم بعدي، لكلمته بكلام لا يستحييني بعده أبدًا.
قال الأعمش: كتب أنس إلى عبد الملك بن مَرْوان –يعني: لما آذاه الحجاج: إني خدمتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسع سنين، والله لو أن النصارى أدركوا رجلًا خدم نبيهم لأكرموه.
وروى عبد الله بن سالم الأشعري، عن أزهر بن عبد الله قال: كنت في الخيل الذين بيتوا أنس بن مالك، وكان فيمن يؤلب على الحجاج، وكان مع ابن الأشعث، فأتوا به الحجاج، فوسم في يده: عتيق الحجاج.
قال الأعمش: كتب أنس إلى عبد الله: قد خدمتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسع وتسعين، وإن الحجاج يُعرِّض بي حَوَكَة البصرة، فقال: يا غلام! اكتب إلى الحجاج: ويلك قد خشيت ألا يصلح على يدي أحد، فإذا جاءك كتابي فقم إلى أنس حتى تعتذر إليه، فلما أتاه الكتاب قال الرسول: أمير المؤمنين، كتب بما هنا؟ قال: إي والله، وما كان في وجهه أشد من هذا. قال: سمعًا وطاعة، وأراد أن ينهض إليه فقلت: إن شئتَ أعلمتُه. فأتيت أنس بن مالك فقلت: ألا ترى قد خافك وأراد أن يجيء إليك فقم إليه، فأقبل أنس يمشي حتى دنا منه، فقال: يا أبا حمزة غضبت؟ قال: نعم، تعرضني بحوكة البصرة؟ قال: إنما مثلي لك كقول الذي قال: “إياك أعنى وأسمعي يا جارة” أردت ألا يكون لأحد عليَّ منطق.
– وفاته :
كان أنس -رضي الله عنه- آخر الصحابة موتًا، والأرجح أنه مات بالبصرة سنة ثلاث وتسعين وهو ابن مائة وثلاث سنين.
قال قتادة: لما مات أنس قال مورق العجلي: ذهب اليوم نصف العلم، فقيل:
وكيف ذلك يا أبا المغيرة؟ قال: كان الرجل من أهل الأهواء إذا خالفنا في الحديث من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلنا له: تعالَ إلى من سمعه منه.
– مروياته:
قال الذهبي: مسنده ألفان ومائتان وستة وثمانون، اتفق له البخاري ومسلم على مائة وثمانين حديثًا، وانفرد البخاري بثمانين حديثًا، ومسلم بتسعين.
– أصح الأسانيد عنه:
قيل: مالك، عن الزهري، عنه.
وقيل: حماد بن زيد، عن ثابت البناني، عنه.
وقيل: هشام الدستوائي، عن قتادة، عنه.
– أوهى الأسانيد إليه:
داود بن المحبر، عن قحذم، عن أبيه، عن أبان بن أبي عياش، عنه.