الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
فإن من الآداب والأخلاق الحميدة التي دعا إليها دين الإسلام، بل هي أصل في الآداب والأخلاق، أدب ترك المرء ما لا يعنيه، وهذا الخُلُق قل من يتخلق به، ولا سيما في هذا الزمن الذي طغت فيه الدنيا والجهل على كثير من القلوب والنفوس.
واعلم يا رعاك الله أن من السعادة والأنس والراحة في الدارين، ترك المرء ما لا يعنيه من أمور عباد الله، ونبينا صلى الله عليه وسلم أعظم الخَلق في الأخلاق والأدب، فقد وصفه الله بأعلى درجات الخُلُق كما قال عز وجل (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[1]، فهو قدوة العَالَمين، وسيد العامِلين في كل خُلُق رفيع.
وقد أصَّلَ عليه الصلاة والسلام هذا الخُلُق العظيم، وهو ترك المرء ما لا يعنيه، وجعله أصل كبير في تأديب النفس وتهذيبها، وصيانتها عن الرذائل والنقائص، وترك ما لا جدوى فيه ولا نفع، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(من حسن إسلام المرء: تركُه ما لا يعنيه)[2]، قال ابن رجب رحمه الله (هذا الحديث أصل من أصول الأدب)[3]، وقال حمزة الكناني رحمه الله (هذا الحديث ثلث الإسلام)[4]، وقال ابن عبد البر رحمه الله( كلامه هذا صلى الله عليه وسلم من الكلام الجامع للمعاني الكثيرة الجليلة في الألفاظ القليلة، وهو ما لم يقُلْه أحد قبله، والله أعلم)[5]، وقال ابن حجر الهيثمي رحمه الله(وهذا الحديث ربع الإسلام على ما قاله أبو داود، وأقول: بل هو نصف الإسلام، بل هو الإسلام كله)[6]، وذكر الصنعاني رحمه الله(أن هذا الحديث من جوامع الكلم النبوية، يعمُّ الأقوال، ويعمُّ الأفعال)[7].
والحديث ينص على أن من محاسن إسلام المرء، وكمال دينه وإيمانه، تركه ما لا يهمه ولا يعنيه، من أمور الناس والدنيا، قولاً وعملاً، قال ابن تيمية رحمه الله ( ولا سيما كثرة الفضول فيما ليس بالمرء إليه حاجة من أمر دين غيره ودنياه)[8]، وقيل أيضاً( فإن اقتصر الإنسان على ما يعنيه من الأمور، سَلِمَ من شر عظيم، والسلامة من الشر خير)[9]، وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله ( إن من لم يترك ما لا يعنيه، فإنه مسيء في إسلامه)[10] وقال ابن القيم رحمه الله (وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع كله في كلمة واحدة، فقال(من حسن إسلام المرء: تركُه ما لا يعنيه) ، فهذا يعم الترك لما لا يعني: من الكلام، والنظر، والاستماع، والبطش، والمشي، والفكر، وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه كلمة شافية في الورع)[11].
ولخطورة الخوض فيما لا يعنيه كان للسلف رحمهم الله موقف من ذلك، يُثَرِّبُون على كل من يتعرض لما لا يعنيه بحال، قال الحسن البصري رحمه الله( علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه)[12]،وقيل( من سأل عما لا يعنيه، سمع ما لا يُرضيه) ويحتمل أن المراد كثرة سؤال الإنسان عن حاله وتفاصيل أمره ، فيدخل ذلك في سؤاله عما لا يعنيه ، ويتضمن ذلك حصول الحرج في حق المسئول ، فإنه قد لا يؤثر إخباره بأحواله ، فإن أخبره شق عليه ، وإن كذبه في الإخبار أو تكلف التعريض لحقته المشقة ، وإن أهمل جوابه ارتكب سوء الأدب)[13]، وقال معروف الكرخي( كلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من الله تعالى)[14]، وقيل للقمان( ما بلغ بك ما نرى؟ يريدون الفضل، قال: صِدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعنيني)[15]، وقال الشافعي( ثلاثة تزيد في العقل: مجالسة العلماء، ومجالسة الصالحين، وترك الكلام فيما لا يعني)[16].
فهل بعد هذه الآثار والأقوال يطيب لعاقل أن يخوض فيما لا يعنيه من أمور الناس؟ .
تَرْك مَا لا يَعْنِيه والأَمْر بالمَعْرُوف والنَّهْي عَن المُنْكَر !!! :
هل هناك تعارض بين ترك ما لا يعنيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
لا يوجد أي تعارض بين الأمرين، لأن لكل واحد من الأمرين معنى مستقل، فترك المسلم مالا يعنيه، يعني عدم تدخله في شئون الناس الخاصة، مثل سؤاله لهم سراً أو جهراً ماذا تقولون
وأين ذهبتم وسافرتم، أو لماذا جاءكم فلان ولماذا زاركم، وما
شابه ذلك من الأسئلة التطفلية التي لا حاجة إليها، ولا تعنيه من قريب ولا من بعيد.
أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو يعنيه بكل حال، فرسولنا صلى الله عليه وسلم أمر بإنكار المنكر وتعريف المعروف، بل إنه أمْرٌ من الله تبارك وتعالى، كما قال عز وجل( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[17]، فهذا أمر من الله لا خيار للمسلم فيه، وقال سبحانه( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)[18] وقال عز من قائل( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)[19] ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم( من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)[20]، فهذا يعني كل مؤمن ومؤمنة، بل إنه من الواجب على الجميع إنكار المنكر وتعريف المعروف ولا علاقة له بأحاديث من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه .
ونظير ذلك ما جاء في الآية الكريمة في قول الله عز وجل(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)[21]، قال ابن كثير رحمه الله(وليس في الآية مستدل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذا كان فعل ذلك ممكنا ، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله: قام أبو بكر ، رضي الله عنه ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أيها الناس ، إنكم تقرؤون هذه الآية ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) إلى آخر الآية ، وإنكم تضعونها على غير موضعها ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه أوشك الله ، عز وجل ، أن يعمهم بعقابه)[22]، فالمسلم يسعى لإصلاح نفسه واستقامتها على الحق، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ما أمكنه، وبعد ذلك لا يضره ما فسد من أحوال الناس وما يرى منهم من ضلال وفساد، فإن حسابهم على الله.
إِيْحَاءَات إِبْلِيسِيَّة :
من الناس من إذا أُنْكِر عليه في أمر من الأمور، أخذته العزة بالإثم، وأوحى إليه إبليس وجنوده ليجادل بغير علم ولا فقه، ويخاصم ويُصْدر من العبارات الكثير مثل( هذا لا يخصك ، وليس هذا من شأنك، ولا تتدخل فيما لا يعنيك…)، وهَلُم جرا من العبارات التي لا تستند إلا على هوى من النفس والشيطان(يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)[23]، وهذا ولا شك من رد الحق واتباع الهوى، وهذا منافٍ لكمال الإيمان، فالمؤمن والمؤمنة ينقادا لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بكامل الرضى والتسليم، فلا خيار لأحد من خلق الله في قضاء الله وأمره، وهذه قضية تعبدية لله جل وعلا، كما قال تعالى( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا)[24]، قال الإمام الطبري رحمه الله(لم يكن لمؤمن بالله ورسوله، ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله في أنفسهم قضاء أن يتخيروا من أمرهم غير الذي قضى فيهم، ويخالفوا أمر الله وأمر رسوله وقضاءهما فيعصوهما، ومن يعص الله ورسوله فيما أمرا أو نهيا(فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا) يقول: فقد جار عن قصد السبيل، وسلك غير سبيل الهدى والرشاد)[25].
ولذلك على المسلم أن يُسلم لأمر الله ورسوله، وإذا نُصِح أو ذُكِّر فيما يخالف شرع الله، أن يسمع ويطيع، ويستغفر الله
ويتوب، كما قال تعالى(إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[26]، قال ابن كثير رحمه الله(ثم أخبر تعالى عن صفة المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله ، الذين لا يبغون دينا سوى كتاب الله وسنة رسوله ، فقال : ( إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا ) أي : سمعا وطاعة، ولهذا وصفهم تعالى بفلاح ، وهو نيل المطلوب والسلامة من المرهوب ، فقال : ( وأولئك هم المفلحون )[27].
والخلاصة فيما سبق، أن على المسلم أن يهتم بأمور دينه ودنياه، ويترك الخوض فيما لا يعنيه من أمور غيره وأحوالهم الخاصة، وأن يأخذ بما ظهر له ويترك البواطن لله جل وعلا، فهو أعلم بأمور عباده، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وعلى حسب حاله وإمكاناته، وإذا نُصح أو ذُكِّر بالله فليسمع وليمتثل لأمر الله ورسوله دون تبرم أو امتعاض، مع الصبر والاحتساب، فالبشر يخطئون
ويصيبون ومن ذاك الذي لا يُخطئ؟!! .
وأن يلزم الصمت فيما لا ينفع، بل يضره، فالصمت حكمة وقليل من الناس من يعمل به، وأكثر بلاء كثير من الناس في إطلاق لسانه فيما يضره ولا ينفعه ، والتدخل في شأن غيره بما لا يعنيه، قال عليه الصلاة والسلام(مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أوْ لِيصْمُتْ…..)[28]
ونسأل الله تعالى أن يوفق الجميع إلى حُسن النظر فيما يرضيه عنهم، وأن يُفَقِّه الجميع في دينه وشريعته إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
[1] سورة القلم 4.
[2] رواه الترمذي وابن ماجه.
[3] جامع العلوم والحكم 1/207.
[4] تنوير الحوالك 3/96.
[5] التمهيد 9/199.
[6] فتح المبين ص 128.
[7] سبل السلام 4/343.
[8] مجموع الفتاوى 14/ 482.
[9] توضيح الأحكام 6/ 293.
[10] بهجة قلوب الأبرار 221 .
[11] مدارك السالكين 2/22.
[12] كتاب شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد ص 62.
[13] ينظر فيض القدير 3/7.
[14] تهذيب الحلية 3/102.
[15] كتاب شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد ص 62.
[16] كتاب إحياء علوم الدين ص 20.
[17] سورة آل عمران 104.
[18] سورة آل عمران 110.
[19] سورة التوبة 71.
[20] رواه البخاري ومسلم.
[21] سورة المائدة 105.
[22] تفسير ابن كثير ص 125.
[23] سورة الأنعام 112.
[24] سورة الأحزاب 36.
[25] تفسير الطبري ص 423.
[26] سورة النور 51.
[27] تفسير ابن كثير ص 356.
[28] رواه البخاري ومسلم.