وبولُه في طريقٍ، وظِلٍّ نافعٍ، …………
قوله: «وبولُه في طريق»، أي: يحرم، والغائط من باب أَوْلَى؛ لما رواه مسلمٌ أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «اتقوا اللَّعَّانَيْن»، قالوا: وما اللَّعَّانان يا رسول الله؟ قال: «الذي يتخلَّى في طريق النَّاس، أو في ظلِّهم» (رواه مسلم). وفي سنن أبي داود رحمه الله تعالى: «اتقوا الملاعن الثلاث: البِرَاز في الموارد، وقارعة الطَّريق، والظِّلّ» (رواه أبو داود).
والعِلَّة: أن البول في الطَّريق أذيَّة للمارَّة، وإِيذاء المؤمنين محرَّمٌ، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْمًا مُبِيناً *} [الأحزاب].
قوله: «وظِلٍّ نافع»، أي: يَحْرُمُ أن يبولَ أو يتغوَّط في ظلٍّ نافع، وليس كُلُّ ظل يحرم فيه ذلك، بل الظلُّ الذي يستظِلُّ به النَّاسُ، فلو بال أو تغوَّط في مكان لا يُجلسُ فيه؛ فلا يُقال بالتَّحريم، والدَّليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أو في ظِلِّهم»،يعني: الظِّلَّ الذي هو محلُّ جلوسهم، وانتفاعهم بذلك.
وقال بعض أهل العلم: مثلُه مَشْمَسُ النَّاس في أيام الشِّتاء (كشاف القناع 1/64)، يعني: الذي يجلسون فيه للتَّدفئة، وهذا قياس صحيح جَليٌّ.
وقال بعض أهل العلم: إلا إذا كانوا يجلسون لِغِيْبَة، أو فعل محرَّم جاز أن يفرِّقهم، ولو بالبول، أو الغائط (206). وفي هذا نظر؛ لعموم الحديث؛ ولأن لا فائدة من ذلك، لأنهم إِذا علموا أنه تغوَّط أو بال في أماكن جلوسهم فإنهم يزيدون شرًّا، وربَّما يتقاتلون معه.
والطَّريق السَّليم أن يأتي إليهم وينصحهم.
وتحت شجرةٍ عليها ثَمرةٌ.
قوله: «وتحت شجرةٍ عليها ثَمرةٌ»، يعني يحرم البولُ والتغوُّط تحت شجرة عليها ثمرة، وأفادنا رحمه الله بقوله: «تحت»أنه لا بُدَّ أن يكون قريباً منها، وليس بعيداً.
وقوله: «ثمرة» أطلق المؤلِّف رحمه الله الثمرة، ولكن يجب أن تُقيَّد فيُقال: ثمرة مقصودة، أو ثمرة محترمة.
والمقصودةُ هي التي يقصدها النَّاس، ولو كانت غير مطعومة، فلا يجوز التبوُّل تحتها أو التغوُّط، لأنَّه ربما تسقط فتتلوَّث بالنَّجاسة، ولأن من قصد الشَّجرة ليصعد عليها، فلا بُدَّ أن يمرَّ بهذه النَّجاسة فيتلوّثَ بها، والمحترمة كثمرة النَّخل، ولو كانت في مكان لا يقصده أحدٌ فلا يبول ولا يتغوَّط تحتها ما دامت مثمرة، لأن التَّمر طعام محترم، وكذلك غيرها من الأشجار التي تكون ثمرتها محترمة لكونها طعاماً؛ فإِنه لا يجوز التبوُّل والتغوُّط تحتها.
وهناك أشياء لا يجوز البول فيها ولا التغوُّط غير ما ذكره المؤلِّف كالمساجد؛ ولهذا قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم للأعرابي: «إنَّ هذه المساجد لا تصلح لشيءٍ من هذا البول ولا القَذَر؛ إِنَّما هي لذكر الله عزّ وجل والصَّلاة، وقراءة القرآن» (رواه مسلم)، وكذلك المدارس، فكلُّ مجتمعات النَّاس لأمر دينيٍّ أو دنيويٍّ لا يجوز للإِنسان أن يتبوَّلَ فيها أو يتغوَّط.
والعِلَّةُ: القياسُ على نهي النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم عن البول في الطُّرقات، وظِلِّ النَّاس.
وكذلك: الأذيَّة التي تحصُل للمسلمين في أي عمل كان قوليًّا أو فعليًّا لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْمًا مُبِيناً *} [الأحزاب].
وأما المُسْتَحَمُّ الذي يستحِمُّ النَّاسُ فيه فلا يجوز التغوّط فيه، لأنَّه لا يذهب. أما البول فجائز، لأنه يذهب؛ مع أنَّ الأَوْلَى عدمه، لكن قد يحتاج الإِنسان إلى البول كما لو كانت باقي الحمَّامات مشغولة.
ويَسْتَجْمر، ثمَّ يَسْتَنْجِي بالماء. ويُجْزئُهُ الاستجمارُ ……….
قوله: «ويستجمر ثُمَّ يَسْتَنْجِي بالماء … »، الاستجمارُ: يكون بحجر وما ينوب منابه، والاستنجاء يكون بالماء.
وقوله: «يستجمرُ ثم يستنجي» هذا هو الأفضل؛ وليس على سبيل الوجوب، ولهذا قال: «ويجزئه الاستجمارُ».
والإنسان إِذا قضى حاجته لا يخلو من ثلاث حالات:
الأولى: أنْ يستنجيَ بالماء وحده. وهو جائز على الرَّاجح، وإِن وُجِدَ فيه خلافٌ قديم من بعض السَّلف (المغني (1/ 207)) حيث أنكر الاستنجاء وقال: «كيف ألوِّثُ يدي بهذه الأنتان والقاذورات» (المصنف لابن أبي شيبة، رقم (1635)، والصَّحيح الجواز، وقد انعقد الإِجماع بعد ذلك على الجواز.
ودليل ذلك: حديث أنس رضي الله عنه قال: كان النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يدخل الخلاء، فأحمل أنا وغلامٌ نحوي إِداوةً من ماء وعَنَزَةً؛ فيستنجي بالماء (رواه البخاري).
وأما التَّعليل: فلأن الأصل في إزالة النَّجاسات إِنما يكون بالماء، فكما أنك تزيلُ النَّجاسة به عن رجلك، فكذلك تزيلُها بالماء إِذا كانت من الخارج منك.
الثانية: أن يستنجيَ بالأحجار وحدها.
والاستنجاءُ بالأحجار مجزئ دَلَّ على ذلك قول الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم وفعله:
أما قوله: فحديث سلمان رضي الله عنه قال: «نهانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن نستنجيَ بأقلَّ من ثلاثةِ أحْجَار» (رواه مسلم).
وأما فعله فكما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أتى الغائط، وأمره أن يأتيه بثلاثة أحجار، فأتاه بحجرين ورَوْثة، فأخذ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم الحجرين، وألقى الرَّوثة وقال: «هذا رِكْسٌ» (رواه البخاري)، وفي رواية: «ائتني بغيرها» (رواه الدارقطني (1/ 55).
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه جمع للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أحجاراً، وأتى بها بثوبه؛ فوضعها عنده؛ ثم انصرف (رواه البخاري). فدلَّ على جواز الاستجمار.
وهذا مما يدلِّل لقول شيخ الإسلام رحمه الله أن النَّجاسة إِذا زالت بأي مزيل كان طَهُرَ المحلُّ (مجموع الفتاوى» (21/ 475). وهذا أقرب إلى المنقول والمعقول من قول من قال: لا يزيل النَّجس إِلا الماء الطَّهُور.
الثالثة: أن يستنجيَ بالحجر ثم بالماء.
وهذا لا أعلمه ثابتاً عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، لكن من حيث المعنى لا شكَّ أنه أكمل تطهيراً.
إن لم يَعْدُ الخارجُ موضعَ العادة.
قوله: «إن لم يَعْدُ الخارجُ موضعَ العادةِ»، اشترط المؤلِّفُ للاستجمار شروطاً: الشَّرط الأول أشار إِليه بقوله: «إِن لم يَعْدُ الخارجُ موضعَ العادةِ»، أي: الذي جرت العادة بأن البول ينتشر إليه من رأس الذَّكَر، وبأن الغائط ينتشر إليه من داخل الفَخذين،
فإن تعدَّى موضع العادة فلا يجزئ إِلا الماء، وليس هناك دليلٌ على هذا الشَّرط؛ بل تعليل، وهو أن الاقتصار على الأحجار ونحوِها في إِزالة البول أو الغائط خرج عن نظائره؛ فيجب أن يُقتصر فيه على ما جرت العادة به، فما زاد عن العادة فالأصل أن يُزال بالماء.
وظاهر كلام المؤلِّفِ: أن الذي لم يتعدَّ موضع العادة يجزئ فيه الاستجمار، والمتعدِّي لا بُدَّ فيه من الماء.
وقال بعض أصحاب أحمد رحمه الله: إِذا تعدَّى موضعَ الحاجة لم يَجُزْ في الجميع إِلا الماء (الإنصاف 1/216)، لأنه لمَّا لم يتمَّ الشَّرطُ فسد الكُلُّ.
ولو قال قائل: إن ما يتعدَّى موضعَ العادة بكثير، مثل أن ينتشر على فخذه من البول فإِنه لا يجزئ فيه إلا الماء؛ لأنَّه ليس محلَّ الخارج ولا قريباً منه، وأما ما كان قريباً منه فإنه يُتَسامح فيه فلعلَّه لا يُعارض كلام الفقهاء رحمهم الله.
ويُشترطُ للاستجمارِ بأحجارٍ ونحوِها أن يكون طاهراً، …….
قوله: «ويُشترَطُ للاستجمار بأحجارٍ ونحوها»، الأحجار جمع حجر.
«ونحوها» مثل: المَدَرَ؛ وهو: الطِّين اليابس المتجمِّد، والتُّراب، والخِرَق، والورق، وما أشبه ذلك كالخشب.
قوله: «أن يكون طاهراً»، يعني: لا نجساً، ولا متنجِّساً، والفرق: أن النَّجِسَ: نجس بعينه، والمتنجِّس: نجس بغيره، يعني
طرأت عليه النَّجاسة، وهذا هو الشَّرط الثَّاني، والدَّليل: حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم ألقى الرَّوثة وقال: «هذا رِكْسٌ». والرِّكْسُ: النَّجِسُ.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يُستنجى بعظمٍ أو رَوث وقال: «إِنهما لا يُطهِّران» (رواه ابن عدي (4/ 356)، فدلَّ على أن المُسْتَنجَى به لا بُدَّ أن يكون طاهراً.
ومن التَّعليل: أن النَّجس خبيث، فكيف يكون مطهِّراً.
مُنْقِياً ……….
قوله: «مُنْقِياً»، يعني يحصُل به الإنقاء، فإِن كان غير مُنْقٍ لم يجزئ، وهذا هو الشَّرط الثَّالث.
لأن المقصود بالاستجمار الإِنقاء، بدليل أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم نَهَى أن يُستنجى بأقلَّ من ثلاثة أحجار. ولأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال في الذي يُعذَّبُ في قبره: «إِنَّه لا يَسْتَنْزِهُ من بوله» (رواه مسلم)، أو «لا يَسْتَتِرُ» (رواه البخاري)، أو «لا يَسْتَبْرِئُ من البول» (ابن حجر في «الفتح» شرح حديث رقم (218)، ثلاث روايات.
والذي لا يُنقي: إِما لا يُنقي لملاسته، كأن يكون أملساً جدًّا، أو لرطوبته، كحجر رَطْب، أو مَدَر رطب، أو كان المحلُّ قد نَشِفَ؛ لأنَّ الحجر قد يكون صالحاً للإنقاء لكنَّ المحلَّ غير صالح للإِنقاء.
غيرَ عَظْمٍ وَرَوْثٍ، ……….
قوله: «غيرَ عظمٍ وروثٍ»، هذا شرط عدمي وهو الشَّرط الرَّابع، لأنَّ كلمة «غير» تدلُّ على النَّفي.
والدَّليل على ذلك أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم نهى أن يُستنجَى بالعظم أو الروث، كما في حديث ابن مسعود ، وأبي هريرة (221)، وسلمان (221)، ورويفع (رواه أبو داود)، وغيرهم رضي الله عنهم.
والتَّعليل: أنه إِن كان العَظْمُ عظمَ مُذَكَّاة، فقد بَيَّنَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّ هذا العظم يكون طعاماً للجِنِّ؛لأنه صلّى الله عليه وسلّم قال لهم: «لكم كلُّ عظم ذُكِرَ اسمُ الله عليه، يقع في أيديكم أوفَرَ ما يكونُ لحماً» (رواه مسلم)، ولا يجوز تنجيسه على الجِنِّ، وإِن كان عظم ميتة فهو نجس فلا يكون مطهِّراً.
والرَّوث: نستدلُّ له بما استدللنا به للعظم.
وأما العِلَّة فإِن كان طاهراً فهو عَلَفُ بهائم الجِنِّ؛ وإِن كان نجساً لم يصلح أن يكون مطهِّراً.