يقول ربنا سبحانه وتعالى في سورة محمد:( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ)سورة محمد2، وتكفير السيئات ثواب أخروي عظيم ينبني عليه دخول الجنة والوقاية من النار، وهذا نتيجة الإيمان والعمل الصالح.
فما معنى قوله: وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ؟ ما هو البال؟ وما معنى صلاح البال؟ وما قيمة هذه القضية حتى جعلها مكافئة ونعيماً لمن آمن وعمل صالحاً؟ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ، هل سألت نفسك يا مسلم يا عبد الله مرة وأنت تمر بهذه الآية في الختمة وَأَصْلَحَ بَالَهُمْما هو صلاح البال؟
البال، قال العلماء: هو الأمر، وقالوا: هو الحال، وقالوا: هو الشأن، وقالوا: هو القلب، وقالوا: هو النية، أصلح شأنهم، أصلح حالهم، أصلح نيتهم، أصلح قلوبهم، أصلح عقولهم ونفوسهم، البال في اللغة هو الحال والشأن، فماذا سيترتب على صلاح الحال والشأن، وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ، إذا صلح حالك -يا أخي المسلم ويا أيتها الأخت المسلمة-، إذا صلح الحال صلحت الحياة والأمور، حصل الفوز والفلاح، حصلت الراحة والطمأنينة، حصلت النعمة والنعيم النفسي، استقام الأمر ورضي القلب واستمتع الإنسان بالحياة، وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْسورة محمد5-6، نلاحظ أن صلاح البال في الآية الأخرى معطوف على الهدى، وصلاح البال إذن يحتاج إلى سلوك سبيل الله سبحانه وتعالى، هل هناك ناس بالهم مشتت، بالهم معسر، بالهم معكر؟ نعم، كيف ينتقل الإنسان من تعكير البال وتعسير الحال إلى صلاح البال وتيسير الحال؟ الجواب مذكور في قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْسورة الرعد11، فإذا رأيت نفسك مزاجك معكر، إذا رأيت حالك معسر فلا بد من إجراء تغيير، ما هو التغيير؟ حسب الآية الأولى: الإيمان، العمل الصالح، الهداية في الآية الأخرى.
أسباب صلاح الحال:
إذن لا بد من البحث في أسباب صلاح الحال، من ذلك:
– تحسين العلاقة مع الله، (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)، فإذن الفرائض أولاً، الطريق واضح، والمعالم نيرة، ماذا بعد الفرائض؟ (وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، فإذن النوافل بعد الفرائض.
– تقوى الله، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِسورة يونس62-64، إذن المؤمن يا إخواني أطيب الناس عيشاً وأنعمهم بالاً وأشرحهم صدراً، وأسرهم قلباً، يدخل جنة الدنيا قبل أن يدخل جنة الآخرة، وفي الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة؛ لأن الإيمان، والعمل الصالح، والاستقامة، والذكر، وحسن العلاقة مع الله لا بد أن تنتج نعيماً، لا تظنن يا مسلم أن قول الله: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ سورة الإنفطار13 نعيم الآخرة فقط بل هنالك نعيم في الدنيا وهو هذا راحة البال وصلاح الحال، إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ سورة الإنفطار13 نعيم في الدنيا قبل أن يدخلوا نعيم الآخرة، نعيم الدنيا هو انشراح الصدر، اللذة النفسية، ليس نعيم الدنيا دائماً في القصور والمراكب والمآكل اللذيذة، هذا يحصل لكثير من الناس ثم ينتحرون، فلماذا ينتحر بعض أصحاب الثروات؟ لأنهم لم يذوقوا نعيم الدنيا، الذي هو راحة البال وصلاح الحال، وطمأنينة النفس، وانشراح الصدر ونور القلب، هذه معان لا يعرفها غير المسلم، وكيف سيعرفها وهو لا يركع لله، ولا يسجد، ولا يذكر، ولا يتلو له كتاباً، لا يعرف حلالاً وحراماً، وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَسورة البقرة45، الصلاة هذه الصلاة من جنة الدنيا فعلاً، وذكر الله من نعيم الدنيا حقيقة، الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُسورة الرعد28.
كان لأحد الصحابة ورد فيه أدعية وأذكار له، فسمع النبي عليه الصلاة والسلام مرة يذكر فضل الصلاة عليه، فقال أبي: يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ من الورد هذا، قال: (ما شئت)، قلت: الربع؟ قال: (ما شئت، وما زدت فهو خير لك)، قلت: النصف؟ قال: (ما شئت، فإن زدت فهو خير لك)، قلت: فالثلثين؟ قال: (ما شئت، فإن زدت فهو خير لك)، قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ كل الورد أجعله صلاة عليك، قال: (إذن) في هذه الحالة، (تكفى همك ويغفر لك ذنبك)، رواه الترمذي وهو حديث حسن صحيح.
– من أسباب صلاح الحال: القناعة بالرزق، صلاح البال هذا والهدوء والطمأنينة، لا يتأتى إلا بأن يقنع الإنسان بما قسم الله له، (من أصبح منكم آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا)
من أسباب صلاح الحال: القناعة بالرزق، صلاح البال هذا والهدوء والطمأنينة، لا يتأتى إلا بأن يقنع الإنسان بما قسم الله له، (من أصبح منكم آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا)
، أمن وعافية في البدن وطعام اليوم، هذا كل ما يحتاجه الآن لهذا النعيم الدنيوي، ولذلك قال: (فكأنما حيزت له الدنيا)، وبعض الناس لا يقنعون بما قسم الله، لماذا عند فلان ما ليس عندي؟ ليس عندي ما عند فلان، لماذا؟ وأيش معنى فلان؟ وكيف سينزع، إذا لم أكن أستطيع الحصول عليه فهل يمكن نزعه من فلان حتى أرتاح؟ هكذا يفكرون في سلوك سبيل الراحة، نزع النعمة من فلان وفلانة، ليرتاح هو، لماذا؟ لأن النفس قلقة، لماذا؟ لأنها لم ترض بما قسم الله.
هل كان النبي عليه الصلاة والسلام يدعو بشيء فيه من هذا القبيل في قضية صلاح البال؟ نعم، (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)، قوله: (أصلح لي شأني كله) هو موضوعنا، البال هو الشأن والحال، (أصلح لي شأني كله)، وكذلك قال: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي)، فمرة للدين، ومرة للدنيا، والثالثة للآخرة، ركز على الآخرة، وعلى الدين، والدنيا ستأتي تبعاً، واعمل للدنيا بالأسباب نعم، لكن لا تجعل جل الوقت للدنيا، ولا أكثر العمل للدنيا، ولا غالب سعيك للدنيا، وإنما اجعل الغالب والأكثر والنسبة الأكبر للدين والآخرة، ألا تراه قال: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي) صلاح الدنيا مهم، (التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي)، صلاح البال مذكور في الأذكار المتبادلة بين المسلم وإخوانه، أين يا ترى مذكور هذا؟ شيء يحصل من كل واحد منا ولا بد، فيدعو له أخوه بصلاح البال، إنه موجود في العطاس، (إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه أو صاحبه: يرحمك الله، فإذا قال له: يرحمك الله، فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم)، كأننا أحياناً ننتبه إلى معاني الأذكار لأول مرة، كيف؟ لأننا أحياناً لا نتدبر في الأذكار فيأتينا المعنى كأننا نسمعه لأول مرة، عجباً، الموضوع موجود في أذكار العطاس، يهديكم الله ويصلح بالكم، اليهود كانوا يتعاطسون عند النبي عليه الصلاة والسلام ليقول للواحد منهم: يرحمكم الله، فيقول: (يهديكم الله ويصلح بالكم)، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام كان يفوت عليهم هذا، فلا يقول لليهودي: يرحمك الله، يتعاطسون عنده يرجون أن يقول: يرحمك الله، فيقول: يهديكم الله ويصلح بالكم، لكن الهداية عندنا، وصلاح البال عندنا، وليست عند اليهود.
– عباد الله صلاح البال يمكن أيضاً الحصول عليه من صلاة الاستخارة عند الحيرة، الإنسان يريد أن يتخذ قرارات في هذه الحياة، خطبة امرأة، الإقبال على وظيفة، تسجيل في جامعة، شراء بيت، انتقال من بلد إلى بلد قرارات كثيرة، قال: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة)يعني ممكن تكون سنة راتبة، يقول الدعاء قبل السلام أو بعد السلام ثم ليقل ويذكر الدعاء، دعاء صلاة الاستخارة هذا من أسباب راحة البال، أياً ما كانت النتيجة تقول: أنا استخرت ودعوت ربي، ولو جاء الأمر في بادئه وفي ظاهره على خلاف ما تشتهي لا ضير، وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْسورة البقرة216، وكذلك فإن راحة البال مجموعة في حديث (من كانت الآخرة همة جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همة جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأت من الدنيا إلا ما قدر له).
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا في راحة بال، وأحسن حال، إنه هو الرحيم المتعال.