{ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}…… د. ناجي بن وقدان

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:

ما أضعف الطالب وما أضعف المطلوب، إذ أن من منحه الله العقل ليقوده إلى معرفة الخير من الشر،والضر من النفع،قد صرف عقله إلى حجب الحقائق ،وطمس المعالم،والتعامي عن الحقيقة ومتابعة الأباء والأجداد على ما كانوا عليه من الضلال،كما قال عز وجل حاكيا عن أحوالهم(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) البقرة 170 .

ولذلك كان من سخافة العقل البشري ،وجهالة المرء،أن يدعوا جمادا لا حراك فيه،وصنما لا يملك دفع ضر أو جلب خير،ولا يستطيع الدفع عن نفسه،مع علم ويعين عابده بذلك كله،لكن العناد والمكابرة ودفع الحق شأن أعداء الدين والملة، فذاك إبراهيم عليه السلام ينكر على قومه ماهم عليه من الكفر والشرك والضلال، ويقيم عليهم الحجة،بل وأقاموا على أنفسهم الحجة ذاتها،إذ اعترفوا بأن أصنامهم ومعبوداتهم لا تنطق ولا تنفع ولا تضر،وكانت انتكاسة عظيمة في حياتهم،ومع ذلك تراهم ماضون في العناد والمكابرة،وأذية إبراهيم عليه السلام ،كما قال عز وجل(فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلَاءِ يَنطِقُونَ) الأنبياء 64-65 .

وضَرْب الأمثال في القرآن والسنة من أبلغ الكَلِم،وأقوى العرض،بل ومن أفضل الوسائل لإيصال المعنى إلى الأذهان،وهذه وسيلة قوية من وسائل الدعوة إلى الله،ولذلك نرى القرآن الكريم مليء بمثل هذا المنهج العلمي القوي الصحيح،وكذلك السنة النبوية.

ومن هذا الأسلوب الدعوي العظيم ،ما ورد في آخر سورة الحج من ضرب المثل بأضعف المخلوقات، وعجز أصنامهم التي يعبدونها من دون الله عن خلق مثل هذا المخلوق الضعيف ولو اجتمعت عليه أصنام الدنيا كلها فلن يستطيعوا،بل ولو اجتمعت الإنس والجن ومن في الدنيا بالعدة والعتاد فلن يستطيعوا أن يفعلوا ذلك، فكيف يُعْبد من دون الله من لا يستطيع فعل ذلك ولا أقل منه؟

يقول جل وعلا منبها على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها( يا أيها الناس ضُرب مثل ) أي: لما يعبده الجاهلون بالله المشركون به ، ( فاستمعوا له )أي: أنصتوا وتفهموا وعوا معنى هذا المثل ، ( إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ) أي: لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد على أن يقدروا على خلق ذباب واحد ما قدروا على ذلك، وفي تشييد الأصنام ومضاهات خلق الله وعيد شديد،فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة) رواه البخاري ومسلم ،ويلحق بهذا من يجسمون وينحتون التصاوير والتماثيل لبني آدم أو الحيوانات والحشرات، ومن يشترونها ويضعون في منازلهم ومكاتبهم للزينة وأنها مانعة لدخول الملائكة ومجلبة لدخول الشياطين،نسأل الله السلامة.

ثم قال عز وجل( وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ) والسلب بمعنى السرقة والاختلاس والنهب والنشل والسطو، وفي هذا قصة طريفة لأحد أهالي نجد في استشعاره لمعنى هذه الآية،يؤخذ منها العبرة والمعنى المفيد لفهم المثل، يقول في هذه القصة التي حدثت قبل أكثر من ستين سنة،يقول كنتُ في دكان صغير في سوق المدعي، بمكة المكرمة، وكنت قرأت قبل وقت قريب في الحرم الآية الكريمة {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}،قال: فقلت في نفسي: ألم يجد الله شيئًا يضرب به المثل إلا الذباب؟قال، ثم مضت أيام نسيت فيها ذلك فجاء إليَّ في دكاني خوي أي مرافق أو قال وزير للأمير عبد الله بن عبد الرحمن آل سعود أخي الملك عبد العزيز ومعه ساعة وهي ساعة من ساعات الجيب المعتادة في ذلك الوقت، وقال لي: أنت تعرف الأمير إن جرى للساعة شيء فلا تلوم إلَّا نفسك،فقالت له: ما يجري عليها شيء،قال: فاتفقت معه على أن أمسحها له بريالين من الفضة قبل العملة الورقية، وهو مبلغ جيد،وفتحت الساعة ونثرت أجزاءها من أجل تنظيفها،قال: وكنا نضع شيئًا قليلًا من مادة تشبه الزيت لكن فيها لزوجة، إذا نثرنا أدوات الساعة الدقيقة من أجل أننا نأخذ الآلة الصغيرة منها برأس مسمار ونضعها في مكانها لأن اليد لا تستطيع أن تمسكها لصغرها،قال: وبينما أنا أعمل في الساعة وإذا بذباب يقع على مسمار صغير فيه تلك المادة اللزجة من مسامير الساعة المنثورة فيعلق برجله ويطير به!قال: فذهلت وخرجت أتبع الذباب الطائر وأنا لا أدري ما أصنع لأن الذباب خرج من الدكان إلى شارع المدعي، وفي رجله ذلك المسمار الصغير قد علق بها.

ولكن الذباب كان سريعًا إلى درجة أنني كدت أصطدم بجاري في الدكان أو قال اصطدمت به لأن عيني كانت متابعة للذباب، فرجعت إلى دكاني خائبًا، وجاري يسألني ويقول: سمعتك تقول: الذباب، الذباب، ولم أفهم الأمر.

قال: فأخبرته بالأمر، وأن ذلك المسمار الذي طار به الذباب لا يوجد للبيع فذهبت إلى شيخ الساعات أو قال الساعاتية في مكة أقص عليه القصة وأسأله عما إذا كان المسمار يوجد مثيل له للبيع، لأن الساعة هي ساعة الأمير عبد الله بن عبد الرحمن ولا يمكن أن تشتغل بدون ذلك المسمار!

فقال لي: ذلك لا يوجد للبيع، ولا مخرج لك إلَّا بأن تشتري ساعة كاملة مماثلة لساعة الأمير وتأخذ ذلك المسمار منها، قال شيخ الساعاتية: من حسن حظك أن عندي واحدة بثمانية ريالات، قال: وأنا أعرف أن هذه قيمتها فاشتريتها بثمانية من أجل أن أحصل على ريالين من ساعة الأمير.

وفطنت إلى أنني قد عوقبت على عدم فهمي لضرب المثل بالذباب، لأنني بالفعل لم أستطع استنقاذ ذلك المسمار الصغير من رجله!.

ومن المعلوم أن في كتاب الله بضع وستون مثلاً ،لم يقل( فاستمعوا له ) إلا في مَثَل سورة الحج أي : هم عاجزون عن خلق ذباب واحد ، بل أبلغ من ذلك عاجزون عن مقاومته والانتصار عليه ، ولو سلبها(أي الأصنام) الذباب شيئا من الذي عليها من الطيب ، ثم أرادت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك ، هذا والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها ولهذا قال( ضعف الطالب والمطلوب).

قال ابن عباس : الطالب : الصنم ، والمطلوب الذباب ،واختاره ابن جرير ، وهو ظاهر السياق ، وقال السدي وغيره الطالب العابد ، والمطلوب الصنم،وما قاله ابن عباس أولى لموافقته سياق الخبر.

ويستفاد من هذا المثل الرباني ،أن حالة الضعف تعتري ابن آدم أيضا،فلو سلب الذباب من ابن آدم شيئا وهو ما نشاهده في أرض الواقع،لم يستطيع استنقاذه منه مهما بذل،ولا سيما السرعة الهائلة التي يتمتع بها الذباب في التنقل من مكان لآخر مما يُستحال معه الإمساك به واسترجاع ما أخذ إلا في حالات نادرة بقتله، وقد اكتشف العلماء أن الذبابة تتمتع بقدرات خارقة وحسابات معقدة في جزء صغير من الثانية وتتفوق على الإنسان في سرعة المناورة.

وفي المقابل وبالرغم من مضار الذباب وتتبعه لمواطن القذارات،واستحالة استرجاع ما سلب،إلا أن له في المقابل نفعا ودواء وشفاء كما أخبر بذلكك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينتزعه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء) رواه البخاري ، وفي أثر (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء) وامقلوه بمعنى اغمسوه، يقول الأستاذ أحمد محمد( يقع الذباب على الفضلات والمواد القذرة فينقل الكثير من الجراثيم والأمراض، وربما وقع على طعام الإنسان وشرابه فلوثه بما يحمله من هذه الجراثيم، وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم من أراد أن يأكل أو يشرب من الطعام الذي وقع فيه الذباب، أن يغمس الذباب فيه بعد وقوعه حرصا على صحة الأكل والشراب، وحفاظاً على الطعام والشراب من التلف فمن الإعجاز العلمي الذي يجب أن يسجله تاريخ الطب بأحرف ذهبية ذكره لعامل المرض وعامل الشفاء محمولين على جناحي الذبابة قبل اكتشافهما بأربعة عشر قرناً، وقد أثبتت البحوث العلمية أن هناك خاصية في أحد جناحي الذباب هي أنه يحول البكتيريا وعلى هذا، فإذا سقط الذباب في شراب أو طعام وألقى الجراثيم العالقة بأطرافه في ذلك الشراب أو الطعام، فإن أقرب مبيد لتلك الجراثيم وأول واحد منها هو مبيد البكتيريا الذي يحمله الذباب في جوفه قريبا من أحد جناحيه، فإذا كان هناك داء فدواؤه قريب منه، ولذا فإن غمس الذباب كله وطرحه كاف لقتل الجراثيم التي كانت عالقة به وكاف في إبطال عملها).

والناس في واقعهم يستقذرون الذباب كليا ولا يستسيغون أبدا أكل أو شرب ما وقع فيه من الطعام، ولا سيما أنهم في خير ونعمة من الله من استبدال ذلك الطعام والشراب بغيره، ولذلك كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث إنما هو توجيه وارشاد لمن لا بد له من أكل ذلك الطعام الذي وقع فيه الذباب بأن يبطل داءه بدوائه من ذاته ويأكل بأمان،وليس الأمر أمر وجوب يتحتم العمل به،وبمعنى أعم وأوضح، أن النبي صلى الله عليه وسلم ،لم يأمر من وقع الذباب في طعامه أو شرابه أن يستمر في الطعام والشراب، وإنما أرشد من أراد أن يأكل من هذا الطعام أو الشراب الذي وقع فيه الذباب أن يغمسه فيه، وأما من لا يريد الأكل أو الشرب بأن تعاف نفسه منظر الذباب إذا وقع في الطعام أو الشراب فلا يلزمه الاستمرار، ولا يكون بذلك مخالفا لأمره عليه الصلاة والسلام.

 وقد أثبت العلماء أن الذباب الذي حدثنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن وجود شفاء في جناحه، قد ثبت يقينا صدق هذا الكلام النبوي المعجز، يقول الدكتور مصطفى إبراهيم حسن أستاذ الحشرات الطبية ومدير مركز أبحاث ودراسات الحشرات الناقلة للأمراض بجامعة الأزهر في البحث الذي أجراه للتعرف على الداء والدواء في (حديث الذباب) أنه تم عزل أربعة أنواع من الذباب من أجل الوصول إلى حقائق علمية والتعرف على الداء والدواء في جناحي الذباب وأسفر الفحص عن وجود تنوع كثيف وعديد لأنواع الكائنات الدقيقة المتواجدة عليها سجلت أعلى كثافة عددية وتعدد لأنواع البكتيريا والفطريات على جناحي ذبابة، أنواع مفيدة وقال: نجد إن حرف الفاء في كلمة (فليغمسه) يفيد السرعة، لذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بغمس الذباب بسرعة لأنه يتعلق على سطح السائل لوجود التوتر السطحي وكلمة ثم بعد الغمس تعطي فرصة للأنواع المفيدة من البكتيريا والفطريات لكي تفرز المواد المضادة للحيوية والدواء أو الشفاء لكي تقضي على البكتيريا الضارة، ولقد ثبت أنه حتى لو أكل الإنسان أو شرب من الإناء فإن المادة الفعالة تظل نشطة في أمعاء الإنسان، كما أنها تتحمل درجات الحرارة العالية، وتأثير الإشعاع، والمواد الكيميائية والبرودة أي أن الذباب حتى لو سقط في إناء به طعام أو شراب ساخن أو بارد فإن البكتيريا المفيدة تظل نشطة وتفرز المادة الفعالة القاتلة لأنواع الميكروبات الأخرى، مضادات حيوية لقد بدأت التجارب منذ بداية القرن العشرين في مجال المضادات الحيوية باستخدام الحشرات، ولكن من أغربها ما قامت به طبيبة في أستراليا، عندما خرجت بتجربة وجدت فيها أن الذباب يحوي على سطح جسمه الخارجي مضادات حيوية تعالج العديد من الأمراض، أي أن الذباب فيه شفاء، واستغرب كل من رأى هذا البحث، ولكن التجارب استمرت، حيث قام العلماء بالعديد من الأبحاث في هذا المجال ووجدوا أن الذباب الذي يحمل الكثير من الأمراض يحمل أيضاً الكثير من المضادات الحيوية التي تشفي من هذه الأمراض، ولذلك فإن الذبابة لا تصاب بالأمراض التي تحملها، وتقول باحثة إننا نبحث عن المضادات الحيوية في مكان لم يكن أحد يتوقعه من قبل، المسببات المرضية يدفع الحديث إلى البحث عن الدواء أو الشفاء في جناحي الذباب، لمعالجة الأمراض التي ينقلها للإنسان، وأثبت البحث أن المادة المضادة المعزولة من جناحي الذباب تستطيع أن تقضي على كثير من المسببات المرضية الأخرى غير الموجودة على الذباب، وأن الحديث الشريف يفتح المجال لاكتشاف عشرات المضادات الحيوية من الذباب خاصة أن هناك ستين ألف نوع من الذباب منتشرة في جميع أنحاء العالم، وأن الكائنات الدقيقة الموجودة على الذباب تعكس البيئة التي يعيش فيها الذباب أي أن الأمراض التي ينقلها في منطقة ما، تختلف عن تلك التي ينقلها الذباب في منطقة أخرى أي أننا نستطيع أن نحصل على علاج أو دواء لكل الأمراض، التي ينقلها الذباب في مناطق العالم المختلفة، حيث إن الداء والدواء متلازمان في جناحيه) نقلا عن صحيفة الإتحاد الإلكترونية .

وخلاصة القول،أن العقل البشري بفطرته يقود صاحبه إلى إمعان النظر في الكون وما فيه من عجيب الخلق والإبداع،وأنه لا بد أن من وراء ذلك خالق عظيم بيده الخلق والإحياء والإماتة والإعادة بعد الموت،وأن ليس في الكون كله إله آخر غيره وأنه المعبود بحق،ولا معبود بحق سواه،وأن القرآن الكريم دليل العارفين،ومنهج القاصدين،وحبل النجاة لمن أراد النجاة.

وفي ضرب الأمثال بأشياء محسوسة ومشاهدة من أنفع العلاج للقلوب الحائرة،والنفوس الجامحة، وفيها زيادة إيمان وتقوى وثقة وإحسان ظن بخالق الأكوان وما فيها ومن فيها،وفيها نفي للشكوك واستقرار للحق في القلوب،وبها ينقاد العبد لخالقه وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *