شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين. إعداد د.ناجي بن وقدان

ما وصف الرسول به ربه عز وجل من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول؛ وجب الإيمان بها كذلك ( 1 ) ………………………………….

( 1 ) هذه قاعدة مهمة ساقها المؤلف رحمه الله:

  • قوله: “وما”: هذه شرطية . وفعل الشرط: ” وصف” . “وجب الإيمان بها”: هذا جواب الشرط.

فما وصف الرسول به ربه، وكذلك ما سمة به ربه؛ لأن هناك أسماء مما سمى به الرسول ربه لم تكن موجودة في القرآن؛ مثل ( الشافي )؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم:” واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك“.

  • “الرب”: لم يأت في القرآن بدون إضافة لكن في السنة قال الرسول صلى الله عليه وسلم ” أما الركوع فعظموا فيه الرب“.

وقال في السواك:” مطهرة للفم مرضاة للرب“.

وظاهر كلام المؤلف أنه يشترط لقبولها شرطان:

الأول: أن تكون الأحاديث صحيحة.

الثاني: أن يكون أهل المعرفة يعني بالأحاديث تلقوها بالقبول، ولكن ليس هذا هو المراد، بل مراد الشيخ- رحمه الله- أن الأحاديث الصحاح تلقاها أهل المعرفة بالقبول فتكون الصفة هذه صفى كاشفة لا صفة مقيدة.

  • فقوله: ” التي تلقاها“: هذا بيان لحال الأحاديث الصحيحة أي أن أهل المعرفة تلقوها بالقبول لأنه من المستحيل أن تكون الأحاديث صحيحة، ثم يرفضها أه المعرفة، بل سيقبلونها.

صحيح أن هناك أحاديث ظاهرها الصحة، ولكن قد تكون معلولة بعلة؛ كانقلاب على الراوي ونحوه، وهذه لا تعد من الأحاديث الصحيحة.

قال:” وجب الإيمان بها“: لقوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ) ( النساء: من الآية136 )، وقوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) ( النساء: من الآية59 )، وقوله تعالى ( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ) ( 65 ) ( فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ ) ( القصص:66،65 ) ..والنصوص في هذا كثيرة معلومة.

واعلم أن موقف أهل الأهواء والبدع تجاه الأحاديث المخالفة لأهوائهم يدور على أمرين: إما التكذيب، وإما التحريف.

فإن كان يمكنهم تكذيبه؛ كذبوه؛ كقولهم في القاعدة الباطلة: أخبار الآحاد لا تقبل في العقيدة!!

وقد رد ابن القيم رحمه الله هذه القاعدة وأبطلها بأدلة كثيرة في آخر ” مختصر الصواعق”.

وإن كان لا يمكنهم تكذيبه؛ حرفوه؛ كما حرفوا نصوص القرآن.

أما أهل السنة؛ فقبلوا كل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور العلمية والأمور العملية؛ لقيام الدليل على وجب قبول ذلك.

  • وقوله:” كذلك“؛ يعني: كما يجب الإيمان بما في القرآن؛ من غير تحريف ، ولا تعطيل ، ولا تكييف، لا تمثيل.

 مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة، حين يبقى ثلث الليل الآخر. فيقول: من يدعوني فأستجب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟“( 1 ) متفق عليه………………

فصل

في أحاديث الصفات

( 1 ) هذا الحديث في إثبات نزول الله إلى سماء الدنيا:

وهذا الحديث قال بعض أهل العلم: إنه من الأحاديث المتواترة، واتفقوا على أنه من الأحاديث المشهورة المستفيضة عند أهل العلم بالسنة.

  • قوله:” ينزل ربنا إلى السماء الدنيا”: نزوله تعالى حقيقي؛ لأنه كما مر علينا من قبل: أن كل شيء كان الضمير يعود فيه إلى الله؛ فهو ينسب إليه حقيقة.

فعلينا أن نؤمن به ونصدق ونقول: ينزل ربنا على السماء الدنيا، وهي أقرب السماوات إلى الأرض، والسماوات سبع، وإنما ينزل عز وجل في هذا الوقت من الليل للقرب من عباده جل وعلا؛ كما يقرب منهم عشية عرفة؛ حيث يباهي بالواقفين الملائكة.

  • وقوله:” كل ليلة” يشمل جميع ليالي العام.
  • حين يبقى ثلث الليل الآخر” والليل يبتدئ من غروب الشمس اتفاقاً لكن حصل الخلاف في انتهائه هل يكون بطلوع الفجر أو بطلوع الشمس والظاهر أن الليل الشرعي ينتهي بطلوع الفجر والليل الفلكي ينتهي بطلوع الشمس.
  • وقوله” فيقول: من يدعوني“: “من”: استفهام للتشويق؛ كقوله تعالى: ( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( الصف: من الآية10 ).
  • و “يدعوني” أي: يقول: يا رب!
  • وقوله:فأستجيب له“: بالنصب؛ لأنها جواب الطلب.
  • من يسألني“: يقول: أسألك الجنة، أو نحو ذلك.
  • من يستغفرني” فيقول: اللهم اغفر لي، أو: أستغفر اللهم!
  • فأغفر له“: والمغفرة ستر الذنب والتجاوز عنه.

بهذا يتبين لك إنسان قرأ هذا الحديث أن المراد بالنزول هنا نزول الله نفسه، ولا نحتاج أن نقول: بذاته؛ ما دام الفعل أضيف إليه؛ فهو له، لكن بعض العلماء قالوا: ينزل بذاته؛ لأنهم لجاءوا إلى ذلك، واضطروا إليه؛ لأن هناك من حرفوا الحديث وقالوا: الذي ينزل أمر الله! وقال آخرون: بل الذي ينزل رحمة الله! وقال آخرون: بل الذي ينزل ملكٌ من ملائكة الله!

وهذا باطل؛ فإن نزول أمر الله دائماً وأبداً، ولا يختص نزوله في الثلث الأخير من الليل؛ قال الله تعالى: ( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ) ( السجدة: من الآية5 )، وقال: ( يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ) ( هود: من الآية123 ).

وأما قولهم: تنزل رحمة الله إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر! فسبحان الله! الرحمة لا تنزل إلا في هذا الوقت ! قال الله تعالى: ( وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ  ) ( النحل: من الآية53 )؛ كل النعم من الله ، وهي من آثار رحمته، وهي تترى كل وقت !!‍‍

ثم نقول: أي فائدة لنا بنزول الرحمة إلى السماء الدنيا؟‍

ثم نقول لمن قال: إنه ملك من ملائكته: هل من المعقول أن الملك من ملائكة الله يقول: من يدعوني فأستجب له… إلخ؟‍

فتبين بهذا أن هذه الأقوال تحريف باطل يبطله الحديث.

ووالله؛ ليسوا أعلم بالله من رسول الله، وليسوا أنصح لعباد الله من رسول الله، وليسوا أفصح في قولهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

يقولون: كيف تقولون كيف تقولون: إن الله ينزل؟‍ إذا نزل؛ أين العلو؟‍ وإذا نزل؛ أين الاستواء على العرش؟‍ إذا نزل؛ فالنزول حركة وانتقال‍‍ إذا نزل؛ فالنزول حادث، والحوادث لا تقوم إلا بحادث.

فنقول: هذا جدال بالباطل، وليس بمانع من القول بحقيقة النزول.

هل أنتم أعلم بما يستحقه الله عز وجل من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ؟‍

فأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ما قالوا هذه الاحتمالات أبداً؛ قالوا: سمعنا وآمنا وقبلنا وصدقنا.

وأنتم إيها الخالفون المخالفون تأتون الآن وتجادلون بالباطل وتقولون: كيف؟‍ وكيف؟‍

نحن نقول: ينزل ، ولا نتكلم عن استوائه على العرش؛ هل يخلو منه العرش أو لا يخلو؟‍

أما العلو؛ فنقول: ينزل، لكنه عال عز وجل على خلقه؛ لأنه ليس معنى النزول أن السماء تقله، وأن السماوات الأخرى تظله؛ إذ إنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته.

فنقول: هو ينزل حقيقة مع علوه حقيقة، وليس كمثله شيء.

أما الاستواء على العرش فهو فعل، ليس من صفات الذات، وليس لن حق- فيما أرى- أن نتكلم هل يخلو منه العرش أو لا يخلو، بل نسكت كما سكت عن ذلك الصحابة رضي الله عنهم.

وإذا كان علماء أهل السنة لهم في هذا ثلاثة أقوال: قول بأنه يخلو، بل نسكت كما سكت عن ذلك الصحابة رضي الله عنهم.

وإذا كان علماء أهل السنة لهم في هذا ثلاثة أقوال: قول بأنه يخلو، وقول بأنه لا يخلو، وقول بالتوقف.

وشيخ الإسلام رحمه الله في ” الرسالة العرشية” يقول: إنه لا يخلو منه العرش؛ لأن أدلة استوائه على العرش محكمة، والحديث هذا محكم، والله عز وجل لا تقاس صفاته بصفات الخلق؛ فيجب علينا أن نبقي نصوص الاستواء على إحكامها، ونص النزول على إحكامه، ونقول: هو مستو على عرشه، نازل إلى السماء الدنيا، والله أعلم بكيفية ذلك، وعقولنا أقصر وأدنى وأحقر من أن تحيط بالله عز وجل.

القول الثاني: التوقف؛ يقولون: لا نقول: يخلو، ولا: لا يخلو.

والثالث: أنه يخلو منه العرش.

وأورد المتأخرون الذين عرفوا أن الأرض كروية وأن الشمس تدور على الأرض إشكالاً؛ قالوا: كيف ينزل في ثلث الليل؟‍ وثلث الليل إذا انتقل عن المملكة العربية السعودية؛ ذهب إلى أوربا وما قاربها؟‍‍ أفيكون نازلاً دائماً؟‍

فنقول: آمن أولاً بأن الله ينزل في هذا الوقت المعين، وإذا آمنت؛ ليس عليك شيء وراء ذلك، لا تقل: كيف ؟‍ وكيف؟‍ بل قل: إذا كان ثلث الليل في السعودية؛ فالله نازل، وإذا كان في أمريكا ثلث الليل؛ يكون نزول الله أيضاً، وإذا طلع الفجر؛ انتهى وقت النزول في كل مكان بحسبه.

إذاً؛ موقفنا أن نقول: إنا نؤمن بما وصل إلينا عن طريق  محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بأن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلث الآخر من الليل، ويقول:” من يدعوني فأستجب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟‍

من فوائد هذا الحديث:

أولاً: إثبات العلو لله من قوله:” ينزل”

ثانياً: إثبات الأفعال الاختيارية التي هي الصفات الفعلية من قوله: ” ينزل حين يبقى ثلث الليل الآخر”.

ثالثاً: إثبات القول لله من قوله:”يقول”.

رابعأً: إثبات الكرم لله عز وجل من قوله:” من يدعوني…من يسألني… من يستغفرني…”.

وفيه من الناحية المسلكية:

أنه ينبغي للإنسان أن يغتنم هذا الجزء من الليل، فيسأل الله عز وجل ويدعوه ويستغفره، ما دام الرب سبحانه يقول:” من يدعوني… من يستغفرني… و( من ): للتشويق؛ فينبغي لنا أن نستغل هذه الفرصة؛ لأنه ليس لك من العمر إلا ما أمضيته في طاعة الله، وستمر بك الأيام؛ فإذا نزل بك الموت؛ فكأنك ولد تلك الساعة، وكل ما مضى ليس بشيء.

وقوله صلى الله عليه وسلم: لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم براحلته… الحديث ( 1 ) متفق عليه…….

( 1 )هذا الحديث في إثبات الفرح” لله أشدُ فرحاً بتوبة عبده…”.

  • لله“: اللام هذه لام الابتداء.الله ” مبتدأ.
  • أشد:خبر المبتدأ.
  • فرحاً: تمييز.
  • قال المؤلف:الحديث“؛ أي: أكمل الحديث.

والحديث أن هذا الرجل كان معه راحلته، وعليها طعامه وشرابه، فضلت عنه، فذهب يطلبها ، فلم يجدها ، فأيئس من الحياة ثم اضطجع تحت شجرة ينتظر الموت؛ فإذا بخطام ناقته متعلقاً بالشجرة، ولا أحد يستطيع أن يقدر هذا الفرح؛ إلا من وقع فيه، فأمسك بخطام الناقة، وقال: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك؛ أخطأ من شدة الفرح؛ لم يملك كيف يتصرف في الكلام‍ ‍‍‍!!

فالله عز وجل أفرح بتوبته عبده إذا تاب إليه من هذا الرجل براحلته، وليس الله عز وجل بمحتاج إلى توبتنا ، بل نحن مفتقرون إليه في كل أحوالنا ، لكن لكرمه جل وعلا ومحبته للإحسان والفضل والجود يفرح هذا الفرح الذي لا نظير له بتوبة الإنسان إذا تاب إليه.

في هذا الحديث إثبات الفرح لله عز وجل؛ فنقول في هذا الفرح: إنه فرح حقيقي وأشد فرح، ولكنه ليس كفرح المخلوقين.

الفرح بالنسبة للإنسان هو نشوة وخفة يجدها الإنسان من نفسه عند حصول ما يسره، ولهذا تشعر بأنك إذا فرحت بالشيء كأنك تمشي على الهواء، لكن بالنسبة لله عز وجل لا نفسر الفرح بمثل ما نعرفه من أنفسنا؛ نقول: هو فرح يليق به عز وجل؛ مثل بقية الصفات؛ كما أننا نقول: لله ذات، ولكن لا تماثل ذواتنا؛ فله صفات لا تماثل صفاتنا؛ لان الكلام عن الصفات فرع عن الكلام في الذات.

فنؤمن بأن الله تعالى له فرح كما أثبت ذلك أعلم بالخلق به، محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنصح الخلق للخلق، وأفصح الخلق فيما ينطق به عليه الصلاة والسلام.

ونحن على خطر إذا قلنا: المراد بالفرح الثواب؛ لأن أهل التحريف يقولون: إن الله لا يفرح، والمراد بفرحه: إثابته التائب، أو: إرادة الثواب؛ فيقولون في الفرح: إنه الثواب المخلوق، أو: إرادة الثواب.

ونحن نقول: المراد بالفرح: الفرح حقيقة؛ مثلما أن المراد بالله عز وجل: نفسه حقيقة، ولكننا لا نمثل صفاتنا بصفات الله أبداً.

ويستفاد من هذا الحديث مع إثبات الفرح لله عز وجل: كمال رحمته جل وعلا ورأفته بعباده؛ حيث يحب رجوع العاصي إليه هذه المحبة العظيمة، هارب من الله ، ثم وقف ورجع إلى الله ، يفرح الله به هذا الفرح العظيم.

ومن الناحية المسلكية: يفيدنا أن نحرص على التوبة غاية الحرص، كما فعلنا ذنباً؛ تبنا إلى الله.

قال الله تعالى ف يوصف المتقين: ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَة )؛ أي فاحشة؛ مثل الزنى، واللواط، ونكاح ذوات المحارم… قال الله تعالى: ( وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً ) ( النساء:22 )، ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ) ( الاسراء:32 )، وقال لوط لقومه: ( أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ ) ( لأعراف: 80 ) .

إذاً؛ ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّه )؛ ذكروا الله تعالى في نفوسهم؛ ذكروا عظمته، وذكروا عقابه، وذكروا ثوابه للتائبين؛( فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ )؛ فعلوا ما فعلوا؛ لكنهم ذكروا الله تعالى في نفوسهم، واستغفروا لذنوبهم، فغفر لهم، والدليل: ( وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ) ( آل عمران: من الآية135 ) .

فأنت إذا علمت أن الله يفرح بتوبتك هذا الفرح الذي لا نظير له؛ لا شك انك سوف تحرص غاية الحرص على التوبة.

وللتوبة شروط خمسة:

الأول: الإخلاص لله عز وجل؛ بأن لا يحملك على التوبة مراءاة الناس ، أو نيل الجاه عندهم، أو ما أشبه ذلك من مقاصد الدنيا.

الثاني: الندم على المعصية.

الثالث: الإقلاع عنها، ومن الإقلاع إذا كان التوبة في حق من حقوق الآدميين: أن ترد الحق إلى صاحبه.

الرابع:العزم على أن لا تعود في المستقبل.

الخامس: أن تكون التوبة في وقت القبول، وينقطع قبول التوبة بالنسبة لعموم الناس بطلوع الشمس من مغربها، وبالنسبة لكل واحد بحضور أجله.

قال الله تعالى: ( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ) ( النساء:18 ).

وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن زمن التوبة ينقطع إذا طلعت الشمس من مغربها  ، والناس يؤمنون حينئذ، ولكن؛ ( لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً ) ( الأنعام: من الآية158 ).

هذه خمسة شروط؛ إذا تمت؛ صحت التوبة.

  • ولكن؛ هل يشترط لصحة التوبة أن يتوب من جميع الذنوب؟!

فيه خلاف ، ولكن الصحيح أنه ليس بشرط، وأنها تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره، لكن هذا التائب لا يصدق عليه وصف التائبين المطلق؛ فيقال: تاب توبة مقيدة، لا مطلقة.

  • فلو كان أحد يشرب الخمر ويأكل الربا، فتاب من شرب الخمر؛ صحت توبته من الخمر، وبقي إثمه في أكل الربا، ولا ينال منزلة التائبين على الإطلاق؛ لأنه مصر على بعض المعاصي.
  • رجل تمت الشروط في حقه، وعاد إلى الذنب مرة أخرى؛ فلا تنتقض توبته الأولى؛ لأنه عزم على أن لا يعود، ولكن سولت له نفسه، فعاد؛ إنما يجب عليه أن يتوب مرة ثانية، وهكذا؛ كلما أذنب يتوب، وفضل الله واسع.

* * *

وقوله صلى الله عليه وسلم: يضحك الله إلى رجلين يقتل إحداهما الآخر كلاهما يدخل الجنة متفق عليه ( 1 )…………………………………………………..

( 1 ) هذا الحديث في إثبات الضحك ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:” يضحك الله إلى رجلين؛ يقتل إحداهما الآخر؛ كلاهما يدخل الجنة“.

وفي بعض النسخ:” يدخلان” ، وهي صحيحة؛ لأن ( كلا ) يجوز في خبرها – سواء كان فعلاً أو اسماً – مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى، وقد اجتمعا في قول الشاعر يصف فرسين:

كلاهما حين جد الجري بينهما                      قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي

الحديث يخبر فيه النبي عليه الصلاة والسلام أن الله يضحك إلى رجلين؛ عند ملاقاتهما يقتل أحدهما الآخر؛ كلاهما يدخل الجنة بعد ذلك، فتزول تلك العداوة؛ لأن إحداهما كان مسلماً ، والآخر كان كافراً، فتله الكافر، فيكون هذا المسلم شهيداً، فيدخل الجنة، ثم من الله على هذا الكافر، فأسلم ، ثم قتل شهيداً، أو مات بدون قتل؛ فإنه يدخل الجنة، فيكون هذا القاتل والمقتول كلاهما يدخل الجنة، فيضحك الله إليهما.

ففي هذا إثبات الضحك لله عز وجل، وهو ضحك حقيقة، لكنه لا يماثل ضحك المخلوقين؛ ضحك يليق بجلاله وعظمته، ولا يمكن أن نمثله، لأننا لا يجوز أن نقول: إن لله فماً أو أسناناً أو ما أشبه ذلك ، لكن نثبت الضحك لله على وجه يليق به سبحانه وتعالى.

  • فإذا قال قائل: يلزم من إثبات الضحك أن يكون الله مماثلاً للمخلوق.

فالجواب: لا يلزم أن يكون مماثلاً للمخلوق؛ لأن الذي قال ” يضحك”: هو الذي أنزل عليه قوله تعالى: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) ( الشورى: من الآية11 ).

ومن جهة أخرى؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يتكلم في مثل هذا إلا عن وحي؛ لأنه من أمور الغيب، ليس من الأمور الاجتهادية التي قد يجتهد فيها الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم يقره الله على ذلك أو لا يقره، ولكنه من الأمور الغيبية التي يتلقاها الرسول عليه الصلاة والسلام عن طريق الوحي.

  • لو قال قائل: المراد بالضحك الرضى؛ لأن الإنسان إذا رضي عن الشيء؛ سر به وضحك، والمراد بالرضى الثواب أو إرادة الثواب؛ كما قال ذلك أهل التعطيل.

فالجواب أن نقول: هذا تحريق للكلم عن مواضعه؛ فما الذي أدراكم أن المراد بالرضى الثواب؟!

فأنتم الآن قلتم على الله ما لا تعلمون من وجهين:

الوجه الأول: صرفتم النص عن ظاهره بلا علم.

الوجه الثاني: أثبتم له معنى خلاف الظاهر بلا علم.

ثم نقول لهم: الإرادة؛ إذا قلتم: إنها ثابتة لله عز وجل؛ فإنه تنتقض قاعدتكم؛ لأن للإنسان إرادة؛ كما قال تعالى: ( مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَة ) ( آل عمران: من الآية152 ) ، فللإنسان إرادة، بل للجدار إرادة؛ كما قال تعالى: ( فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضّ ) ( الكهف: من الآية77 )؛ فأنتم إما أن تنفوا الإرادة عن الله عز وجل كما نفيتم ما نفيتم من الصفات، وإما أن تثبتوا لله عز وجل ما أثبته لنفسه، وإن كان للمخلوق نظيره في الأسم لا في الحقيقة.

والفائدة المسلكية من هذا الحديث:

هو أننا إذا علمنا أن الله عز وجل يضحك؛ فإننا نرجو منه كل خير. ولهذا قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ! أو يضحك ربنا؟ قال: “نعم” قال: لن نعدم من رب يضحك خيراً[10][164]

إذا علمنا ذلك؛ انفتح لن الأمل في كل خير؛ لأن هناك فرقاً بين إنسان عبوس لا يكاد يُرى ضاحكاً، وبين إنسان يضحك.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم دائم البشر كثير التبسم عليه الصلاة والسلام.

* * *

وقوله صلى الله عليه وسلم: عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره؛ ينظر إليكم أزلين قنطين، فيظل يضحك؛ يعلم أن فرجكم قريب ( 1 ) حديث حسن……………………………………………………..

( 1 )هذا الحديث في إثبات العجب وصفات أخرى.

  • العجب: هو استغراب الشيء، ويكون ذلك لسببين:

السبب الأول: خفاء الأسباب على هذا المستغرب للشيء المتعجب منه؛ بحيث يأتيه بغتة بدون توقع، وهذا مستحيل على الله تعالى؛ لأن الله بكل شيء عليم ، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

والثاني: أن يكون السبب فيه خروج هذا الشيء عن نظائره وعما ينبغي أن يكون عليه بدون قصور من المتعجب؛ بحيث يعمل عملاً مستغرباً لا ينبغي أن يقع من مثله.

وهذا ثابت لله عز وجل؛ لأنه ليس عن نقص من المتعجب، ولكنه عجب بالنظر إلى حال المتعجب منه.

قوله:” عجب ربنا من قنوط عباده”: القنوط: أشد اليأس.

يعجب الرب عز وجل من دخول اليأس الشديد على قلوب العباد.

” وقرب غيره”: الواو بمعنى ( مع )؛ يعني: مع قرب غيره.

و( الغير ) أسم جمع غيرة؛ كطير: أسم جمع طيرة، وهي اسم بمعنى التغيير، يغير الحال إلى حال أخرى بكلمة واحدة، وهي: كن .فيكون.

وقوله: ينظر إليكم أزلين” أي: ينظر الله إلينا بعينه.

أزلين قنطين“: الأزل: الواقع في الشدة: و”قنطين“: جمع قانط، والقانط اليائس من الفرج وزوال الشدة.

فذكر النبي صلى الله عليه وسلم حال الإنسان وحال قلبه؛ حاله أنه واقع في شدة، وقلبه قانط يائس مستبعد للفرج.

فيظل يضحك“: يظل يضحك من هذه الحال العجيبة الغريبة؛ كيف تقنط من رحمة أرحك الراحمين الذي يقول للشيء: كن . فيكون؟!

يعلم أن فرجكم قريب“؛ أي: زوال شدتكم قريب.

في هذا الحديث عدة صفات:

أولاً: العجب؛ لقوله:” عجب ربنا من قنوط عباده“.

وقد دل على هذا الصفة القرآن الكريم؛ قال الله تعالى: ( بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ) ( الصافات:12 )على قراءة ضم   التاء.

ثانياً: وفيه أيضاً بيان قدرة الله عز وجل؛ لقوله:” وقرب غيره”، وأنه عز وجل تام القدرة، إذا أراد غير الحال من حال إلى ضدها في وقت قريب.

ثالثاً: وفيه أيضاً من إثبات النظر؛ لقوله: ينظر إليكم“.

رابعأً: وفيه  إثبات الضحك؛ لقوله:” فيظل يضحك“.

خامساً: وكذلك العلم؛ ” يعلم أن فرجكم قريب“.

سادساً: والرحمة، لأن الفرج من الله دليل على رحمة الله بعبادة.

وكل هذه الصفات التي دل عليها الحديث يجب علينا أن نثبتها لله عز وجل حقاً على حقيقتها ، ولا نتأول فيها .

والفائدة المسلكية في هذا: أن الإنسان إذا علم ذلك من الله سبحانه وتعالى؛ حذر من هذا الأمر، وهو القنوط من رحمة الله ، ولهذا كان القنوط من رحمة الله من الكبائر:

قال الله تعالى: ( قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ) ( الحجر:56 )

وقال تعالى:( وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) ( يوسف: 88 ).

فالقنوط من رحمة الله ، واستبعاد الرحمة: من كبائر الذنوب، والواجب على الإنسان أن يحسن الظن بربه؛ إن دعاه أحسن الظن به بأنه سيجيبه، وإن تعبد له بمقتضى شرعه؛ فليحسن الظن بأن الله سوف يقبل منه، وإن وقعت به شدة؛ فليحسن الظن بأن الله سوف يزيلها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:” واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا”.

بل قد قال الله تعالى: ( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ) ( 5 ) ( إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ) ( الشرح:5،6 ) ، ولن يغلب عسر يسرين؛ كما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما.

* * *

وقوله صلى الله عليه وسلم: لا تزال جهنم يُلقى فيها ، وهي تقول: هل من مزيد؛ حتى يضع رب العزة فيها رجله( وفي رواية: عليها قدمه ) فينزوي بعضها إلى بعض، فتقول: قط قط ( 1 ) متفق عليه …………..

( 1 )هذا الحديث  في إثبات الرجل أو القدم:

*قوله:” لا تزال جهنم يلقى فيها”: هذا يوم القيامة؛ يعني: يلقى فيها الناس والحجارة؛ لأن الله تعالى يقول: ( فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) ( البقرة: من الآية24 )، وقد يقال: يلقى فيها لاناس فقط، وأن الحجارة لم تزل موجودة فيها، والعلم عند الله.

* يلقى فيها: في هذا دليل على أن أهلها- والعياذ بالله- يلقون فيها إلقاء لا يدخلون مكرمين، بل يدعون إلى نار جهنم دعاً؛ ( كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ) ( الملك: من الآية8 ) .

*قوله: لا وهي تقول: هل من مزيد؟”: ( هل ) للطلب؛ يعني: زيدوا. وأبعد النجعة من قال: إن الاستفهام هنا للنفي، والمعنى على زعمه: لا مزيد على ما في، والدليل على بطلان هذا التأويل:

*قوله:” حتى يضع رب العزة فيها رجله” وفي رواية:” عليها قدمه“: لأن هذا يدل على أنها تطلب زيادة، وإلا لما وضع الله عليها رجله حتى ينزوي بعضها إلى بعض؛ فكأنها تطلب بشوق إلى من يلقى فيها زيادة على ما فيها.

*قوله:” حتى يضع رب العزة“: عبرَ برب العزة؛ لأن المقام مقام عزة وغلبة وقهر.

وهنا ( رب )؛ بمعنى: صاحب، وليست بمعنى خالق؛ لأن العزة صفة من صفات الله، وصفات الله تعالى غير مخلوقة.

*وقوله:” فيها رجله” ، وفي رواية:” عليها قدمه”: ( في ) و ( على ): معناهما واحد هنا، والطاهر أن ( في ) بمعنى ( على )؛ كقوله: ( وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) ( طـه: من الآية71 )؛ أي: عليها.

أما الرجل والقدم؛ فمعناهما واحد، وسميت رجل الإنسان قدماً؛ لأنها تتقدم في المشي؛ فإن الإنسان لا يستطيع أن يمشي برجله إلا إذا قدمها.

*قوله:” فينزوي بعضها إلى بعض“؛ يعني: ينضم بعضها على بعض من عظمة قدم الباري عز وجل.

*قوله: ” وتقول: قط قط“؛ بمعنى: حسبي حسبي؛ يعني: لا أريد أحداً.

في هذا الحديث من الصفات:

أولاً: إثبات القول من الجماد؛ لقوله:” وهي تقول” ،وكذلك: ” فتقول: قط قط” ، وهو دليل على قدرة الله الذي أنطق كل شيء.

ثانياً: التحذير من النار؛ لقوله:” لا تزال جهنم يلقى فيها ، وهي تقول: هل من مزيد؟”

ثالثاً: إثبات فضل الله عز وجل؛ فإن الله تعالى تكفل للنار بأن يملأها كما قال: ( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) ( هود: من الآية119 )؛ فإذا دخلها أهلها ، وبقي فيها فضل، وقالت: هل من مزيد؟ وضع الله عليها رجله، فانزوى بعضها إلى بعض، وامتلأت بهذا الانزواء.

وهذا من فضل الله عز وجل؛ وإلا فإن الله قادر على أن يخلق أقواماً ويكمل ملأها بهم، ولكنه عز وجل لا يعذب أحداً بغير ذنب؛ بخلاف الجنة، فيبقى فيها فضل عمن دخلها من أهل الدنيا، فيخلق الله أقواماً يوم القيامة ويدخلهم الجنة بفضله ورحمته.

رابعاً:أن لله تعالى رجلاً وقدماً حقيقية ، لا تماثل أرجل المخلوقين ويسمي أه السنة هذه الصفة: الصفة الذاتية الخبرية؛ لأنها لم تعلم إلا بالخبر، ولأن مسماها أبعاض لنا وأجزاء ، لكن لا نقول بالنسبة لله: إنها أبعاض وأجزاء؛ لأن هذا ممتنع على الله عز وجل.

وخالف الأشاعرة وأهل التحريف في ذلك ، فقالوا:” يضع عليها رجله“يعني: طائفة من عباده مستحقين للدخول ، والرجل تأتي بمعنى الطائفة؛ كما في حديث أيوب عليه الصلاة والسلام[14][168] أرسل الله إليه رجل جرد من ذهب؛ يعني: طائفة من جراد.

وهذا تحريف باطل؛ لأن قوله:” عليها”: يمنع ذلك.

وأيضاً؛ لا يمكن أن يضيف الله عز وجل أهل النار إلى نفسه؛ لأن إضافة الشيء إلى الله تكريم وتشريف.

وقالوا في القدم: قدم؛ بمعنى: مقدم؛ أي: يضع الله تعالى عليها مقدمه؛ أي: من يقدمهم إلى النار.

وهذا باطل أيضاً؛ فإن أهل النار لا يقدمهم الباري عز وجل، ولكنهم ( يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً ) ( الطور:13 ) ، ويلقون فيها إلقاء؛ فهؤلاء المحرفون فروا من شيء ووقعوا في شر منه؛ فروا من تنزيه الله عن القدم والرجل، لكنهم وقعوا في السفه ومجانبة الحكمة في أفعال الله عز وجل.

والحاصل أنه يجب علينا أن نؤمن بأن لله تعالى قدماً، وإن شئنا؛ قلنا: رجلاً؛ على سبيل الحقيقة؛ مع عدم المماثلة، ولا نكيف الرجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأن لله تعالى رجلاً أو قدماً، ولم يخبرنا كيف هذه الرجل أو القدم ، وقد قال الله تعالى: ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) ( لأعراف:33 ).

والفائدة المسلكية من هذا الحديث: هو الحذر الشديد من عمل أهل النار؛ خشية أن يلقى الإنسان فيها كما يلقى غيره.

وقوله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك. فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار….( 1 ) متفق عليه

( 1 )هذا الحديثفي إثبات الكلام والصوت:

* يخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن ربه أنه يقول: يا آدم “! وهذا يوم القيامة، فيجب آدم: لبيك وسعديك“.

* ” لبيك ، بمعنى: إجابة مع إجابة، وهو مثنى لفظاً ، ومعناه: الجمع، ولهذا يعرب على أنه ملحق بالمثنى.

* ” وسعديك“؛ يعني: إسعاداً بعد إسعاد؛ فأنا ألبي قولك وأسألك أن نسعدني وتعينني.

* قال: فينادي“؛ أي: الله؛ فالفاعل هو الله عز وجل.

* وقوله: ” بصوت“:هذا من باب التأكيد؛ لأن النداء لا يكون إلا بصوت مرتفع؛ فهو كقوله تعالى ( وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ) ( الأنعام: من الآية38 )؛ فالطائر الذي يطير؛ إنما يطير بجناحيه، وهذا من باب التأكيد.

* وقوله:” إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار“: ولم يقل: إني آمرك! وهذا من باب الكبرياء والعظمة؛ حيث كنى عن نفسه تعالى بكنية الغائب: فقال:” إن الله يأمرك“؛ كما يقول الملك لجنوده: إن الملك يأمركم بكذا وكذا؛ تفاخراً وتعاظماً ، والله سبحانه هو المتكبر وهو العظيم.

وجاء في القرآن مثل هذا: )إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا )[النساء: 58]، ولم يقل: إني آمركم.

* وقوله: “أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار“؛ أي: مبعوثاً.

* والحديث الآخر؛ قال: “يارب! وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعون.

قوله صلى الله عليه وسلم: “ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان” ( 1 )…………………

( 1 ) هذا الحديث في إثبات الكلام أيضاً:

* قوله: “ما“: نافية.

* قوله: “من أحد“: مبتدأ؛ دخلت عليه ( من ) الزائدة للتوكيد؛ يعني: ما منكم من أحد.

* قوله: “إلا سيكلمه ربه“؛ يعني: هذه حاله؛ سيكلمه الله عز وجل؛ “ليس بينه وبينه ترجمان“، وذلك يوم القيامة.

* والترجمان: هو الذي يكون واسطة بين متكلمين مختلفين في اللغة، ينقل إلى أحدهما كلام الآخر باللغة التي يفهمها.

ويشترط في المترجم أربعة شروط: الأمانة، وأن يكون عالماً باللغة التي يترجم منها، وباللغة التي يترجم إليها، وبالموضوع الذي يترجمه.

* وفي هذا الحديث من صفات الله: الكلام، وأنه بصوت مسموع مفهوم.

الفوائد المسلكية في الحديث الأول: “يقول الله: يا آدم!“: فيه بيان أن الإنسان إذا علم بذلك، فإنه يحذر ويخاف أن يكون من التسع مائة والتسعة والتسعين.

وفي الحديث الثاني: يخاف الإنسان من ذلك الكلام الذي يجري بينه وبين ربه عز وجل أن يفتضح بين يدي الله إذا كلمه تعالى بذنوبه فيقلع عن الذنوب، ويخاف من الله عز وجل.

*  *  *

و قوله صلى الله عليه وسلم في رقية المريض: “ربنا الله الذي في السماء؛ تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض؛ كما رحمتك في السماء؛ اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع؛ فيبرأ”( 1 ) حديث حسن رواه أبو داود وغيره…………………………………………..

( 1 ) هذا الحديث في إثبات العلو لله وصفات أخرى:

* قوله: “في رقية المريض“: من باب إضافة المصدر إلى المفعول؛ يعني: في الرقية إذا قرأ على المريض.

* قوله: “ربنا الله الذي في السماء“: تقدم الكلام على قوله: “في السماء” في الآيات.

* وقوله: “تقدس اسمك“؛ أي: طهر، والاسم هنا مفرد، لكنه مضاف، فيشمل كل الأسماء؛ أي: تقدست أسماؤك من كل نقص.

* “أمرك في السماء والأرض“: أمر الله نافذ في السماء والأرض؛ كما قال تعالى: )يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْض )[السجدة: 5]، وقال:( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ )[الأعراف: 54].

* وقوله: “كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض“: الكاف هنا للتعليل، والمراد بها التوسل؛ توسل إلى الله تعالى بجعل رحمته في السماء أن يجعلها في الأرض.

فإن قلت: أليس رحمة الله في الأرض أيضاً؟‍

قلنا: هو يقرأ على المريض، والمريض يحتاج إلى رحمة خاصة يزول بها مرضه.

* وقوله: “اغفر لنا حوبنا وخطايانا“: الغفر: ستر الذنب والتجاوز عنه. والحوب: كبائر الإثم. والخطايا: صغائره. هذا إذا جمع بينهما، أما إذا افترقا؛ فهما بمعنى واحد؛ يعني: اغفر لنا كبائر الإثم وصغائره؛ لأن في المغفرة زوال المكروب وحصول المطلوب، ولأن الذنوب قد تحول بين الإنسان وبين توفيقه؛ فلا يوفق ولا يجاب دعاؤه.

* قوله: “أنت رب الطيبين“: هذه ربوبية خاصة، وأما الربوبية العامة؛ فهو رب كل شيء، والربوبية قد تكون خاصة وعامة.

واستمع إلى قول السحرة الذين آمنوا: )قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) ( 121 ) )رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ) الأعراف: 121-122]؛ حيث عموا ثم خصوا.

واستمع إلى قوله تعالى: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ) [النمل: 91]؛ ف ( رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ ): خاص، ]( وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ) عام.

* والطيبون: هم المؤمنون؛ فكل مؤمن؛ فهو طيب، وهذا من باب التوسل بهذه الربوبية الخاصة، إلى أن يستجيب الله الدعاء ويشفي المريض.

* قوله: “أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع” هذا الدعاء وما سبقه من باب التوسل.

* “أنزل رحمة من رحمتك“: الرحمة نوعان:

– رحمة هي صفة الله؛ فهذه غير مخلوقة وغير بائنة من الله عز وجل؛ مثل قوله تعالى: )وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَة ) [الكهف: 58]، ولا يطلب نزولها.

– ورحمة مخلوقة، لكنها أثر من آثار رحمة الله؛ فأطلق عليها الرحمة؛ مثل قوله تعالى في الحديث القدسي عن الجنة: “أنت رحمتي أرحم بك من أشاء“.

* كذلك الشفاء؛ فالله شاف، ومنه الشفاء؛ فوصفه الشفاء، وهو فعل من أفعاله، وهو بهذا المعنى صفة من صفاته، وأما باعتبار تعديه إلى المريض؛ فهو مخلوق من مخلوقاته؛ فإن الشفاء زوال المرض.

* قوله: “فيبرأ“: بفتح الهمزة منصوباً؛ لأنه جواب الدعاء: أنزل رحمة؛ فيبرأ. أما إذا قرئ بالضم مرفوعاً؛ فإنه مستأنف، ولا يتبع الحديث، بل يوقف عند قوله: “الوجع“، وتكون “فيبرأ“: جملة خبرية تفيد أن الإنسان إذا قرأ بهذه الرقية؛ فإن المريض يبرأ، ولكن الوجه الأول أحسن بالنصب.

وقوله صلى الله عليه وسلم: “ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء( 1 ) حديث صحيح………………

( 1 ) هذا الحديث  في إثبات العلو أيضاً:

* قوله: “ألا تأمنوني“: فيها إشكال لغوي، وهو حذف نون الفعل بدون ناصب ولا جازم!!

والجواب عن هذا: إنه إذا اتصلت نون الوقاية بفعل من الأفعال الخمسة؛ جاز حذف نون الرفع.

* “ألا تأمنوني” أي: إلا تعتبروني أميناً.

* “وأنا أمين من في السماء“: والذي في السماء هو الله عز وجل، وهو أمينه عليه الصلاة والسلام على وحيه، وهو سيد الأمناء عليه الصلاة والسلام، والرسول والذي ينزل عليه جبريل هو أيضاً أمين: )إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) )ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ) ( مطاع ثم أمين ).

* وهذا الحديث له سبب، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم ذهيبة بعث بها علي من اليمن بين أربعة نفر، فقال له رجل: نحن أحق بهذا من هؤلاء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء“.

* “ألا“: للعرض؛ كأنه يقول: ائمنوني؛ فإني أمين من في السماء!

ويحتمل أن تكون الهمزة لاستفهام الإنكار، و( لا ): نافية.

* والشاهد قوله: “من في السماء“، ونقول فيها ما قلناه فيما سبق في الآيات.

وقوله صلى الله عليه وسلم: “والعرش فوق الماء، والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه”( 1 ) حديث حسن رواه أبو داود وغيره……………………..

( 1 ) هذا الحديث في إثبات العلو أيضاً:

* لما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام المسافات التي بين السماوات؛ قال: “والعرش فوق الماء“.

ويشهد لهذا قوله تعالى: ) وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ) [هود: 7].

* قال: “والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه“: هو فوق العرش، ومع ذلك لا يخفى عليه شيء من أحوالنا وأعمالنا، بل قد قال الله تعالى: )وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ )[ق:16] يعني: الشيء الذي في ضميرك يعلمه الله؛ مع أنه ما بان لأحد.

* وقوله: “وهو يعلم ما أنتم عليه“: يفيد إحاطة علم الله بكل ما نحن عليه.

الفائدة المسلكية في هذا الحديث:

إذا آمنا بهذا الحديث؛ فإننا نستفيد منه فائدة مسلكية، وهي تعظيم الله عز وجل، وأنه في العلو، وأنه يعلم ما نحن عليه، فنقوم بطاعته؛ بحيث لا يفقدنا حيث أمرنا، ولا يجدنا حيث نهانا.

*  *  *

وقوله صلى الله عليه وسلم للجارية: “أين الله؟” قالت: في السماء. قال: “من أنا؟” قالت أنت رسول الله. قال: “اعتقها فإنها مؤمنة”( 1 ) رواه مسلم………………………………………..

( 1 ) هذا الحديث في إثبات العلو أيضاً:

* قوله: “أين الله؟“: ( أين ): يستفهم بها عن المكان.

* “قالت: في السماء“؛ يعني: على السماء، أو: في العلو؛ على حسب الاحتمالين السابقين.

 قال “من أنا؟ قال: أنت رسول الله. قال: “اعتقها فإنها مؤمنة”.

وعند أهل التعطيل هي بقولها: “في السماء“: إذا أرادت أنه في العلو؛ هي كافرة!! لأنهم يرون أن من أثبت أن الله في جهة؛ فهو كافر؛ إذ يقولون: إن الجهات خالية منه.

واستفهام النبي صلى الله عليه وسلم: ب( أين ) يدل على أن لله مكاناً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *