الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.وبعد:
في المعنى العام لهذه الكلمة أنها تعني:الخارج من حدود الله، والفسق في أصل الاشتقاق: موضوع لما يدل على معنى الخروج، وسمي الفاسق فاسقًا، لانسلاخه عن الخير، وفي لسان العرب لابن منظور رحمه الله:والفسق: العصيان والترك لأمر الله، والخروج عن طريق الحق، ومنه قوله تعالى: ﴿ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾ [الكهف 50]، والفواسق من النساء: الفواجر. وقال الراغب الأصفهاني في كتابه(والفسق أعم من الكفر، لأنه يقع بالقليل والكثير من الذنوب، ولكن تُعُورِف فيما كان بالكثير، وأكثر ما يقال لمن كان مؤمنًا ثم أخل بجميع الأحكام أو ببعضها، فالفاسق أعم من الكافر، والظالم أعم من الفاسق، وسميت الفأرة (فويسقة) لما اعتقد فيها من الخبث والفسق، وقيل: لخروجها من بيتها مرة بعد أخرى) المفردات في غريب القرآن ص 382، ويقال فسقت الرُطَبَة: أي خرجت عن القشرة التي تكسوها،فإذا خرجت تعرضت للحشرات والآفات والفساد.
فمثل ذلك كمثل المؤمن المُغَلَّف بالإيمان من أن تصيبه الآفات(آفات المعاصي والذنوب والخطايا)فيكسوه هذا الإيمان ويمنعه مما يضره ،فإذا خرج عن هذا الإيمان وعن هذا الغلاف الإيماني،فإنه يقال عنه فَسَق، أي خرج عن اللباس الذي يصونه ويحفظه من تلك الآفات. فالفاسق مرتكب الكبيرة يكون على إحدى حالين:
الأولى:أن يكون معلوم الحال عند غيره بفسقه،فهذا واضح وعلاجه من ظاهر حاله.
الثانية: أن يكون مجهول الحال لا يُعْلَم بفسقه،فهذا لا يُسْتَعْجل بالحكم عليه ويجب التروي.
ولذلك أمر الله المؤمنين بالتأني والتروي عند سماع الأخبار أو الكلام المنقول من ذلك الفاسق ولا يستعجلوا في الحكم والتصرف وإضمار البغضاء والإحن والقطيعة والتجاهل ،فإن الخبر يَحْتَمِل الخطأ ويحتمل الصواب، فقال سبحانه وتعالى(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) الحجرات (6) ، قيل في سبب نزولها أن أمّ سلمة رضي الله عنها قالت( بعث رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم رجلا في صدقات بني المصطلق بعد الوقعة، فسمع بذلك القوم، فتلقوه يعظمون أمر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، قال: فحدّثه الشيطان أنهم يريدون قتله قالت: فرجع إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم، فغضب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم والمسلمون قال: فبلغ القوم رجوعه قال: فأتوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فصفوا له حين صلى الظهر فقالوا: نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله بعثت إلينا رجلا مصدّقا فسررنا بذلك وقرّت به أعيننا ثم إنه رجع من بعض الطريق فخشينا أن يكون ذلك غضبا من الله ومن رسوله فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال وأذّن بصلاة العصر قال: ونـزلت ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) ،وقوله (فتبينوا) أي تثبتوا واستوضحوا الأمر واستقصوا صحته،لأن الكاذب والمعروف بالكذب والسعي للإفساد بين الناس ،قد يأتي منه يوما كلام صادق، وإن الصادق والمعروف بالصلاح والصدق قد يأتي منه يوما كلام كذب عن قصد أو عن غير قصد وإنما لُبِّسَ عليه أو بتأثير مؤثر قوي، فالمؤمن يتريث ولا يرتب الحكم على مجرد سماع واشي أو مفسد،حتى تظهر له الحقيقة ،لأنه لو لم يتأنى ويتبين ثم أصدر حكما وتصرف تصرفا عجلا ،ثم ظهر له خلاف ذلك ،يكون قد فتح على نفسه فجوة وهوَّة عظيمة بينه وبين الناس لا يمكنه سَدُها ،ومن ثم تنشأ الخلافات والمشاكل والقطيعة وغيرهامما لم يكن في الحسبان ،فالمولى عز وجل درأ ذلك كله بكلمة موجزة وحاسمة(فتبينوا) لماذا؟ حتى لا تصيبوا الناس بجهالة ،أي بحكم جاهل جائر والنتيجة(فتصبحوا) أي في حال من الندامة والحسرة على تصرفكم الخاطئ، يصبح من أصبتموه بالجهالة والظلم والحكم المتسرع الجائر ،صاحب حق وسلطة عليكم،فأنتم من تدفعون له الحق الآن ،فبدلا من أن يكون الحق لكم صار عليكم لأنكم خالفتم أمر الله( فتبينوا) فتصبحوا في دائرة حقوقية لا يمكنكم الخروج منها.
هكذا هي النفس البشرية تورد صاحبها المعصية ثم تندم وتتحسر على فعلها. ولا يفوتني في هذا المقام أن أذكر نوعين من العصاة ومرتكبي المعصية:
أولهما: من وقعت عليه المعصية دون سعيه إليها وتشوفه لها ودون تخطيطه للوصول إليها وتعمده لها،فهذا عَمِل السوء والمعصية بجهالة فهو يدخل في دائرة قول الله تعالى(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) النساء (17) ، قال الإمام الطبري رحمه الله(ما التوبة على الله لأحد من خلقه، إلا للذين يعملون السوء من المؤمنين بجهالة ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ، يقول: ما الله براجع لأحد من خلقه إلى ما يحبه من العفو عنه والصفح عن ذنوبه التي سلفت منه، إلا للذين يأتون ما يأتونه من ذنوبهم جهالة منهم وهم بربهم مؤمنون، ثم يراجعون طاعة الله ويتوبون منه إلى ما أمرهم الله به من الندم عليه والاستغفار وترك العود إلى مثله من قبل نـزول الموت بهم. وذلك هو ” القريب ” الذي ذكره الله تعالى ذكره فقال (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ).
وثانيهما: من يأتي المعصية متعمدا متشوفا لها ومخططا للوصول إليها،فهذا يقع في دائرة قول الله تعالى(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) النساء (18) ،قال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله(أي: المعاصي فيما دون الكفر، وذلك أن التوبة في هذه الحال توبة اضطرار لا تنفع صاحبها)وقال الإمام الطبري رحمه الله(يعني بذلك جل ثناؤه: وليست التوبة للذين يعملون السيئات من أهل الإصرار على معاصي الله (حتى إذا حضر أحدهم الموت )، يقول: إذا حشرج أحدهم بنفسه، وعاين ملائكة ربه قد أقبلوا إليه لقبض روحه، قال وقد غُلب على نفسه، وحيل بينه وبين فهمه، بشغله بكرب حشرجته وغرغرته ( إني تبت الآن )، يقول: فليس لهذا عند الله تبارك وتعالى توبة).
إن كثيرا من الناس صبغته العجلة في الحكم واتخاذ القرار المُعادي إذا بلغته مقولة هي للكذب أقرب منها إلى الصدق ،ويتصرف تصرفا باسم الاصلاح فيُحْدث من المفاسد أعظم مما يجني من المصالح، والتروي والأناة خصلتان يحبهما الله،لأنه لا يأتي منهما إلا كل خير، فعن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله ﷺ لأشج عبد القيس(إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة) رواه مسلم ،والمؤمن كيس فطن يقابل الأمور بحكمة، ويتعامل مع الأخبار ونقل الكلام بالتثبت،ويواجه الإرجاف والمرجفين بالعلم والفطنة، ويتحقق من صحة ما يرد إليه،درأً للمفاسد وجلبا للمصالح،وحفظا للود والمحبة والأخوة بينه وبين إخوانه،ويبتعد عن مؤثر الغضب،لأن الغضب باب إلى سوء التصرف،وإغلاق لأبواب الحلول وإظلام لنور العقل.إن من الناس اليوم من يتصيد أخطاء الغير،ويتحين الفرص المناسبة للإضرار بفلان من الناس،فيأخذ منه الكلمة ويظيف عليها ألف كلمة كذبا وزورا وينقلها لآخر بقصد الإيقاع بينهما ،وهذا العمل يدل على مساوئ الأخلاق ودناءة القِيَم،وخبث السريرة،وضحالة الإيمان،وعلى هذا وأمثاله أن يتقي الله عز وجل ويعلم أن مسعاه بالإفساد محمول عليه،وأنه بعين الله مراقب ومعلوم، بل ومسئول عن كل ما يحدث بسبب فساده وإفساده، وليكن مفتاحا للخير ومغلاقا للشر،ومن تاب وأناب وأصلح ما أفسد تاب الله عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.