(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا )…… د. ناجي بن وقدان

 

 

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:

أذية المسلم عامة والمؤمن خاصة، سمة يتسم بها مرضى النفوس وضعفاء الإيمان والعقول،ومن ابتلي بداء الحسد، فللمؤمن حرمة خاصة، وحصانة شرعية،فأذيته من أشد المظالم، وأعظم المآثم،وأنكر الأعمال.

وقد توعد الله سبحانه من آذى المؤمنين بالقول أو الفعل بأشد العذاب،وسوء النكال،وجعله الله من أعظم الإثم والبهتان، فقال عز وجل(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) الأحزاب 58 ،يقول ابن كثير رحمه الله(أي ينسبون إليهم ما هم برآء منه لم يعملوه ولم يفعلوه ، ( فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا ) وهذا هو البهت البين أن يحكى أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه ، على سبيل العيب والتنقص لهم ، ومن أكثر من يدخل في هذا الوعيد الكفرة بالله ورسوله ، ثم الرافضة الذين يتنقصون الصحابة ويعيبونهم بما قد برأهم الله منه ، ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم، فإن الله ، عز وجل ، قد أخبر أنه قد رضي عن المهاجرين والأنصار ومدحهم ، وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبونهم ويتنقصونهم ، ويذكرون عنهم ما لم يكن ولا فعلوه أبدا ، فهم في الحقيقة منكوسو القلوب يذمون الممدوحين ، ويمدحون المذمومين) قلت ويدخل في ركاب الكفرة والرافضة كل منافق على اختلاف ملله ونحله.

وقدحذر النبي صلى الله عليه وسلم من أذية المؤمنين،وجعل ذلك معصية لله ومجلبة لغضبه ونقمته،فعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(من صلى الصبح فهو في ذمة الله  أي في أمانه وضمانه فلا تسيئوا إليه ، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يكبه على وجهه في نار جهنم) رواه مسلم ،والشاهد في الحديث أن المؤمن الذي صلى الصبح مع جماعة المسلمين فقد شملته ذمة الله فلا تجوز أذيته بحال.

وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) ، وفيه إشارة إلى توخي الحذر من أذية المسلمين، فالمسلم الحق هو من يكف لسانه ويده عن المسلمين. وأذية المؤمن ظلم،والظلم ظلمات يوم القيامة،ودعوة المظلوم ليس بينها وبين أستار العرش حجاب، وفي حديث معاذ إلى اليمن قول النبي صلى الله عليه وسلم(واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).

إن أذية المؤمنين لها صور وأشكال شتى، ولكنها في مُجْملها تجمع صفة الأذى والتعدي على الغير بدون وجه حق ،وكلما عَظُمت حرمت الشخص وحرمة الزمان والمكان،تضاعفت العقوبة وتفاقم الظلم، ومن هذه الصور:

الإعتداء على الدماء والأموال والأعراض قال النبي صلى الله عليه وسلم في يوم النحر بمنى( فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي كفاراً، يضربُ بعضُكم رقابَ بعض، ألا ليبلغِ الشاهدُ الغائب) رواه البخاري ومسلم ، فالقتل من أعظم الموبقات،وأجرم الجرائم، ولذلك لعن الله من يقتل المؤمن متعمدا وجعل جزاءه جهنم خالدا فيها وغضب عليه وأعظم له العقوبة والنكال،فقال عز وجل﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ النساء 93، وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال( لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً ) رواه البخاري .

وإذا كانت هذه حرمة دم المسلم فإن لعنه وهجره وتفسيقه ورميه بالكفر بغير حق كقتله، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم قال(ولعن المؤمن كقتله) رواه البخاري ومسلم ، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبوابها دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يميناً وشمالاً، فإذا لم تَجد مساغا رجعت إلى الذي لُعن فإن كان لذلك أهلاً وإلا رجعت إلى قائلها) رواه أبو داود وحسنه الألباني ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال(سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) رواه البخاري ومسلم ،وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول (لا يرمي رجل رجلاً بالفسق والكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبُه كذلك) رواه البخاري .

ومن صور الأذية المحرمة الاستطالةُ باللسان في أعراض الناس بالغيبة والبُهتُ والتُّهِمُ والنميمة، فكل هذه من المظالم التي لا تكفرها الصلاة ولا الصدقة ولا الصوم، بل لا يُغفر للظالم حتى يعفو عنه المظلوم، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه( وهل يكبُّ الناسَ في النار إلا حصائدُ ألسنتهم ) رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني .

ومن صور الأذية المحرمة أيضا أخذ أموال الناس بالباطل، فهي من أعظم الظلم وأكبر موجبات الإثم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم( لا تـحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ههنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه ) رواه مسلم ، وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة) . فقال رجل: وإن كان شيئا يسيرا يارسول الله؟ فقال (وإن كان قضيباً من أراك) رواه مسلم .

وعن خولة الأنصارية رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال(إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة) رواه البخاري ، وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدَّيْن ) رواه البخاري ، فالدَّيْن لا يكفره القتل في سبيل الله وذلك لأنه من حقوق الناس، فكيف بالتعديات المالية التي يعمِد إليها البعض ويرى أنه قد غلب، وهو في الحقيقة قد هلك ،فمن أخذ من الناس شيئا بغير حق فهو ظالم، سواء أخذه بطريق القوة والقهر، أو عن طريق الخديعة والحيلة، أو عن طريق الرشوة، أو بواسطة اليمين الفاجرة، أو بحكم القاضي إذا أخطأ اجتهاده مع علم المدعِي ببطلان دعواه، فكل ذلك ظلم يكون الظالم به عرضةً لعقوبةِ ظُلمِه في الدنيا والآخرة.

ومن صور الأذية للمؤمن المكر والغدر والخديعة وإضمار الحقد والحسد والتشفي والتربص والغش،فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال( أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ) رواه مسلم .

ومن صور أذية المؤمنين أذية الجار، فيجب احترام جواره، فله فوقَ حقِ الإسلام حقُ الجوار، فعن أبي شريح العدوي وأبي هريرة رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ) رواه البخاري ومسلم ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال( والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن ) ، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال(الذي لا يأمنُ جارُه بوائقَه ) رواه البخاري ومسلم ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال( لا يدخل الجنة من لا يأمنُ جارُه بوائقَه ) رواه البخاري ومسلم .

ومن صور أذية المؤمن قطيعة الرحم والأقارب، فحقهم عظيم، فيجب الحرص على احترام قربهم، كما يجب الحرص على البعد عن كل ما يؤذيهم أو يكدر عليهم عيشهم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم( الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله ) رواه مسلم .

ومن صور أذية المؤمنين أذية المستضعفين كاليتامى والأرامل والنساء والخدم والعمال، إذ الظلم فيها مع ضعفهم يكون أعظم ،و إذا دعتك قدرتك إلى ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك، وإذا مكنتك قدرتك من ظلم مخلوق فتذكر ضعفك بين يدي الخالق في الدنيا والآخرة، واحذر من دعوة ضعيف ودمعة مكلوم تُفْتح لها أبواب السماء فتحل عليك نقمة الله في الدنيا والآخرة.

ومن صور أذية المؤمنين وأكثرها خطرا أذية الصالحين من أهل العلم والدعوة والصلاح والتقى وممن تلبسوا بمعالم الدين والتزموا حدوده،وقد رَتَّب الله على ذلك عقوبة وهي عداوته جل وعلا لمن بارز أولياءه بالأذى والعداوة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قال: (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب) رواه البخاري ،وأولياء الله هم من ذكرهم الله في القرآن الكريم بقوله{ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} يونس62-63 ، والتقوى يكون نصيبه من ولاية الله تبارك وتعالى، فكلما كان العبد أكثر تحقيقاً للإيمان، وأكثر تقى كلما كانت ولايته لله عز وجل أعظم، فإنْ نقص نُقص من ولايته بحسب ذلك، {فقد آذنته بالحرب} أي: أعلمته بالحرب، {فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء} الأنبياء109 ، أي: أعلمتكم على سواء، فالإيذان هنا بمعنى الإعلام، و”قد” تدل على التحقيق، وهذا يدل على أن محبة أولياء الله سبحانه  وهم أهل الإيمان والتقوى مطلوبة، وأن الذين يعادونهم ويبغضونهم إنما يجنون على أنفسهم، ويتسببون بمعاداة الله جل وعلا لهم، وإعلانه الحرب عليهم، ومن أعلن الله تبارك وتعالى الحرب عليه فلا تسأل عن حاله، وعن كثرة عثراته، وعن كثرة فشله، ونكوله عن كل مطلوب من المطالب العالية، ويكفيه شيء واحد وهو أن يكون شغله ودأبه في لسانه، وحاله، وبذله، ونفقاته، وخطواته، وسمعه، وما إلى ذلك فيما يباعده من الله  عز وجل ويوقعه في سخطه، فيشتري بذلك منزلاً في النار، يشغله بما يضره فيكون سعيه وكده في تحصيل الدركات في نار جهنم، وأي خذلان للعبد أعظم من هذا؟. ألا فليحذر كل مسلم من أذية المسلمين عامة،والصالحين خاصة، وليشتغل بنفسه وبما هو أنفع له ويقربه إلى الله،فالعمر محدود والعودة إلى الله مؤكدةنوما للعبد سوى طريقين إما جنة وإما نار، ومن كان في ذمته حقوق للمسلمين أو للصالحين من أذية واستطالة في عرض أو مال فليبادر بستحلها وردها لأهلها قبل فوات الأوان،وانقطاع التواصل،وحلول الندم الذي لا طائل من ورائه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *