الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
فإن غاية أماني الصالحين، ومنتهى قُرة أعين المؤمنين، هي رضا رب العالمين والجنة، التي من دخلها بداية كان من أحظى الناس وأسعدهم، تلك الجنة التي أسهرت العابدين، وقَضَّت مضاجع المتقين، وأسهرت العُباد الصالحين، يتجافون عن النوم والراحة والدعة طمعاً في فضل البَر الرحيم(تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[1]، تلك الجنة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، بُذلت لها الأرواح والمُهَج، وتَخَضبت الأجساد بالدماء في طلبها، قد تزينت للخطاب، وعُمِرَت للعباد، فيا سعادة من كانت له مقراً وسكناً.
ألا وإن من أتعس الناس، وأكثرهم هما وغما من مُنِع دخول الجنة بداية لمباشرة النعيم المقيم، موقف تُحْبس فيه الأنفاس، وتبلغ القلوب الحناجر، وذلك لما عليهم من حساب في بعض أمورهم في الدنيا، والتجاوزات التي ارتكبوها مخالفين بها أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، لتمحيصهم مما عَلِق
بصحائفهم من هذه الذنوب والتجاوزات، ومن هؤلاء :
الظَالِمُ لِنَفْسِه : وظلم النفس يكون بارتكاب المعاصي، والذنوب والخطايا، ومخالفة أمر الله، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وظلم النفس أيضاً بعدم تأدية حق الله تعالى، وظلم النفس مع الناس، بعدم تأدية حقوقهم ، إلى غير ذلك مما يدخل في ظلم النفس، كما قال عز وجل(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ)[2]، قال الشيخ السعدي رحمه الله(فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ)بالمعاصي التي هي دون الكفر)[3].
وقد أورد ابن القيم رحمه الله في قول الله تعالى(ثُمَّ أوْرَثْنا الكِتابَ الذين اصْطَفَيْنا مِن عِبادِنا، فَمِنهم ظالِمٌ لِنَفْسِهِ، ومِنهم مُقْتَصِدٌ، ومِنهم سابِقٌ بِالَخْيَراتِ بِإذْنِ اللهِ) قول عائشة رضي الله عنها عندما سُئلت عن الظالم لنفسه قالت(وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم، فجعلت نفسها معنا)[4]، فإذا كانت أم المؤمنين ترى نفسها مع الظالمين لأنفسهم، فكيف بنا ونحن كل يوم نقترف ما يجعلنا في هذا الجانب.
ولذلك حري بالمسلم أن يربأ بنفسه عما يضرها ويوبقها ويوقعها في العذاب، وسَلَك طرق السلامة ما استطاع، فإن السلامة لا يعدلها شيء.
الأَغْنِيَاء :
يفرح أحدهم بالأموال والثروات التي يملكها في الدنيا، وقد تكون سببا في هلكته، ومع أنه لا يمكن أن يأخذ منها إلا ما كتبه الله له، إلا أنه سيحاسب عليها كلها، من أين جاءت وإلى أين ذهبت، فلهذا كان الغني ممن يُحبسون عن دخول الجنة.
فالفقراء المؤمنون أسبق إلى دخول الجنة قبل الأغنياء، لأن الفقراء ليس لديهم من الأموال ما يشغلهم بالحساب عن مباشرة النعيم المقيم، أما الأغنياء أصحاب الأموال، والمناصب وحظوظ الدنيا، فيتأخرون عن دخول الجنة، فعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(قُمْتُ علَى بابِ الجَنَّةِ( أي وقفت على باب الجنة)، فَكانَ عامَّةَ مَن دَخَلَها المَساكِينُ، وأَصْحابُ الجَدِّ( أي الغِنى) مَحْبُوسُونَ، غيرَ أنَّ أصْحابَ النَّارِ قدْ أُمِرَ بهِمْ إلى النَّارِ، وقُمْتُ علَى بابِ النَّارِ، فإذا عامَّةُ مَن دَخَلَها النِّساءُ)[5].
وفي الحديث أن النساء أكثر أهل النار، وذلك لِأنهن يكثرنَ اللعن، ويكفُرْن العَشيرَ (وهو الزَّوجُ) ، وبِهنَّ تَحصل الفِتنة العَظيمة،(ما تركتُ بعدي فتنةً أَضَرَّ على الرجالِ من النساءِ)[6]، وإذا أُعطِينَ لم يَشكرن، وإذا وَقَعْنَ في مِحنة لم يَصبِرْنَ، ولكثرةِ مَيلِهن إلى الدُّنيا، وفيه بُشرى لِلمَساكينِ العابِدينَ بِدخُولِهم الجنَّة قبْل غَيرهم، وفيه تحذير الأغْنياءِ حتَّى يُحسِنوا في أموالِهمْ، لأنهم يومَ القِيامةِ موقوفونَ ومحبوسونَ حتى يُحاسَبوا على حُظوظِهم مِن الدُّنيا، فعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(لا تَزُولُ[7] قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ)[8].
فإن كان الغني من المؤمنين الصالحين الذي اتقى الله في ماله ،حيث اكتسبه من المصدر الحلال وأنفقه فيما يحبه الله، فإن وقفته لا تطول كثيراً، وأما إن كان المكسب حرام والإنفاق في حرام فتلك مصيبة ونكدة عمر.
ولذلك يحرص المسلم على الكسب الحلال ، ولا ينفق إلا في حلال، ولا يخالف بماله شرع الله تعالى، حتى يَخِف عليه الحِمل ، وتهون عليه الوقفة، ويَخِف عليه الحساب.
المَدْيُون :
الدَّيْن من الأمور التي تُثقل كاهل المرء، وتُلْبسه الهم بالليل، والنكد والتعب بالنهار، وتنغص عليه مأكله ومشربه وراحته، والسالم من سلَّمه الله منه، وأغناه بفضله عنه، ومن سأل الناس ذَل ولا محالة، وفقد هيبته واحترامه عندهم، ومن استغنى عما في أيدي الناس فقد عَز.
والدَّين سبب كبير في التأخر عن دخول الجنة، وانظر يا رعاك الله إلى الشهيد في سبيل الله، ولو كان قتاله واستشهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ذاك الذي ذهب ماله وقضت نفسه جهادا في سبيل الله، يكون مع المتأخرين عن دخول الجنة، لا لشيء سوى الدَّين، فعن سَمُرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى في الناس بعد صلاة الغداة فقال(هاهنا أحدٌ من بَني فلانٍ ؟ . فلم يُجبْهُ أحدٌ هاهنا أحَدٌ من بَني فلانٍ ؟ فلم يُجبْهُ أحدٌ ، ثمَّ قال : هاهنا أحَدٌ من بَني فلانٍ ؟ . ، فقام رجلٌ فقال : أنا يا رسولَ اللهِ ! فقال : ما منعَك أن تُجيبَني في المرَّتينِ الأُولَيينِ ؟ قال : إنِّي لَم أُنوِّهْ بكمْ إلَّا خيرًا ، إنَّ صاحِبَكمْ(وقد توفي في ليلة سابقة، من قبيلة هذا الرجل) مأسورٌ بدَيْنِه ، فلقد رأيتُه أدَّى عنهُ ، حتَّى ما أحدٌ يطلبُه بشَيءٍ)[9]، فسببُ حبسه دين عليه، وأهله لا يعلمون، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم، ورحمة بهذا فقضى عنه دينه، حتى لا يطالبه أحد به.
وفي أثر آخر عن سعدِ بنِ الأطوَلِ أنَّ أخاه مات وترَكَ ثلاثَ مِئةِ دِرْهمٍ، وترَكَ عِيالًا، قال: فأرَدتُ أن أُنفِقَها على عِيالِه، قال: فقال لي النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ (إنَّ أخاك محبوسٌ بدَيْنِه، فاذهَبْ، فاقْضِ دَينَه)، فذَهَبتُ فقضَيتُ عنه، ثمَّ جِئتُ، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، قد قضَيتُ عنه إلَّا دِينارَيْنِ ادَّعَتْهما امرأةٌ، وليس لها بَيِّنةٌ، قال: (أعطِها، فإنَّها مُحِقَّةٌ)[10] .
ولا تبرد جلدة الميت في قبره حتى يُقضى عنه دينه، فعن جابر رضي الله عنه قال : توفي رجل فغسلناه ، وكفناه ، وحنطناه ، ثم أتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عليه فخطا خطوة ، ثم قال ( أعليه دين ؟ ) قلت : ديناران . فانصرف فتحملهما أبو قتادة ، فأتيناه ، فقال أبو قتادة : الديناران علي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( قد أوفى الله حق الغريم وبرئ منها الميت ؟ ) قال : نعم ، فصلى عليه ، ثم قال بعد ذلك بيوم (ما فعل الديناران ؟ ) قلت : إنما مات أمس ! قال : فعاد إليه من الغد ، فقال : قد قضيتهما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الآن بردت عليه جلدته )[11].
ونفس المؤمن معلقة بدينه حتى يُقْضى عنه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم( نفس المؤمن مُعلَّقة بدَيْنِه حتى يُقْضَى عنه)[12] ،وفي هذا الحث على المبادرة بقضاء الدين عن المديون وفك رهان نفسه.
تهاون الناس باجترار الديون :
وفي هذه الأزمنة المتأخرة انفتح على الناس أبواب المصارف والبنوك والشركات، لتفتح عليهم شَرَك الديون والتمويل والقروض بما فيها من الشُبَه وعدم الاطمئنان، يتهافتون عليها تهافت السباع على الطرائد، دون النظر إلى العواقب وإلى ما تخلفه هذه الديون من بلايا ومآسي، وكأنهم قد ضمنوا الأعمار، وتواروا عن الموت.
وهذه البنوك والمصارف قد استغلت حاجات الناس وضروراتهم، ففتحت لهم الأبواب ويسرت لهم كل عسير حتى وقعوا في شرك الالتزامات والديون ولسنوات عديدة، لا يأمن المديون فيها مباغتة الأجل.
ولذلك لا بد للمسلم من التفكير ملياً قبل اجترار الدين ويبحث عن سبيل يغنيه عنه، فإن الدين فرحة ساعة، وألم وغم سنين، وقد يعجز المدين عن السداد لأمر من الأمور ، فتؤول أموره إلى أسوأ الأحوال، والسعيد من سلمه الله منه.
قروض ممحوقة البركة :
يشتكي الكثير من الناس من قلة البركة فيما يأخذ من البنوك والمصارف ، ولا يكاد يستفيد منه تلك الفائدة المرجوة، ويبقى الهم والغم يخيم عليه خاصة نهاية كل شهر، وهذا بلا شك يدل على تلبس القرض بما يمحق بركته ويُذهب منفعته، وخصوصاً مع التقنية وسرعة إعطاء القرض بما لا تطمئن له النفس.
ولذلك البركة لا تحل إلا مع ما يوافق الشرع، ويتماشى مع الدليل، فليحرص المسلم عل سلامة دِينه ومأكله ومشربه وجميع شئونه ، وليبتعد عن الدين ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فإنه حلاوة في أوله ومرارة في آخره.
المَظَالِم :
المظالم بين العباد تَحبس أصحابها عن دخول الجنة بداية، حتى تتم المُقَاصَّة بينهم ويستوفي كل ذي حق حقه، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة والصريحة بخطر وشناعة حقوق العباد، وأن السالم من سَلمه الله منها، والسعيد من خلت صحيفته من مغبتها، وأن على المسلم البعد عن ظلم العباد وأخذ حقوقهم، أو انتهاك أعراضهم، لأنه يوم القيامة ليس هناك دينار ولا درهم ولا وساطة ووجاهة في المُقَاصَّة، وإنما حسنات وسيئات.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ( أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ ، وَصِيَامٍ ، وَزَكَاةٍ ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا ، وَقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا ، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا ، وَضَرَبَ هَذَا ، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)[13]، والحساب والمخالصة بين العباد تكون قبل عبور الصراط، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله( وحشرهم وحسابهم يكون قبل الصراط ، فإن الصراط عليه ينجون إلى الجنة ، ويسقط أهل النار فيها كما ثبت في الأحاديث)[14]، وقال صلى الله عليه وسلم(لَتُؤَدَّنَّ الحقوقُ إلى أهلها حتى يُقتصَّ للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)[15]، والجلحاء: التي ليس لها قرن، والقرناء: ذات القرون، لأنها قد تُؤذيها في الدنيا، فيُقتص لها يوم القيامة، وإذا كان هذا الاقتصاص بين الدواب فكيف ببني آدم؟ الأمر خطير جدا.
واعلم يا رعاك الله أن المُقَاصَّة يوم القيام نوعان:
النوع الأول : يكون في عرصات القيامة وقبل عبور الصراط، وهذا الموضع لا مخالصة فيه إلا بالحسنات والسيئات، وهو الحال الأسوأ لمن فرط في حقوق العباد ولم يتحلل منها في الدنيا، وذلك أنه سيفقد رأس ماله وشقى عمره في سداد ما عليه وقد لا توفي، وهذه أعظم خسارة يتجرعها، كما قال صلى الله عليه وسلم(من كان عنده لأخيه مظلمة فليتحلله اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح -يعني الظالم- أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)[16]، والعاقل لا ينتظر حتى يقع في هذه الحال، بل يبادر في الدنيا برد المظالم لأهلها والتحلل منها، واستطابة العفو والسماح منهم، فهم أقدر على العفو في الدنيا منهم في الآخرة.
النوع الثاني :
بعد ما تنتهي المُقَاصَّة بين الناس ويستوفي أهل المظالم حقوقهم، يؤمر الناس بالمرور على الصراط ، فناج سليم ، وناج مخدوش ، وآخر مكدوس في نار جهنم – والعياذ بالله- ثم يُؤتَى بالجسر فينصب عل متن جهنم ليتجاوزه الناس، وأول من يجتازه من الأنبياء والأمم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، والناس عند الاجتياز يغشاهم الخوف والصمت والهم والغم مما يرون من الأهوال.
وقد جاءت الأحاديث النبوية بوصف الصراط في غاية الدقة، وكأن القارئ لها يراه أمامه، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ثُمَّ يُؤْتَى بِالْجَسْرِ فَيُجْعَلُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ)، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا الجَسْرُ؟ قَالَ: مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ ، عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ وَكَلاَلِيبُ ، وَحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ عُقَيْفَاءُ ، تَكُونُ بِنَجْدٍ ، يُقَالُ لَهَا: السَّعْدَانُ ، المُؤْمِنُ عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ ، وَكَأَجَاوِيدِ الخَيْلِ وَالرِّكَابِ ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ ، وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْبًا)[17]، وعند مسلم( (بَلَغَنِي أَنَّ الْجِسْرَ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ، وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ)[18]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ، وَلاَ يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلَّا الرُّسُلُ، وَكَلاَمُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ. وَفِي جَهَنَّمَ كَلاَلِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلَّا اللَّهُ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو)[19] ، فمن مر على الصراط واجتازه فقد فاز فوزا عظيما، كما قال عز وجل(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[20]، وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ( آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ ، فَهْوَ يَمْشِي مَرَّةً ، وَيَكْبُو مَرَّةً ، وَتَسْفَعُهُ النَّارُ مَرَّةً ، فَإِذَا مَا جَاوَزَهَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا ، فَقَالَ: تَبَارَكَ الَّذِي نَجَّانِي مِنْكِ ، لَقَدْ أَعْطَانِي اللهُ شَيْئًا مَا أَعْطَاهُ أَحَدًا مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ)[21].
وبعد عبور الصراط والنجاة من جهنم بفضل الله ورحمته، يقف المؤمنون على قنطرة دون الجنة، أي بين نهاية الصراط وباب الجنة، يتقاصون مظالم يسيرة كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا نُقوا ، وهُذِّبوا ، وذهب ما في صدورهم ، أذن لهم الرحمن بدخول الجنة ، وهذا مراد قول الله تعالى(وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ)[22]، وعن أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا خَلَصَ المُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ ، حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا ، حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا ، أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الجَنَّةِ ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لَأَحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ فِي الجَنَّةِ: أَدَلُّ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا)[23]، قال ابن بطال (وهذه المقاصة التي في هذا الحديث: هي لقوم ، دون قوم ، وهم من لا تستغرق مظالمهم جميع حسناتهم ، لأنه لو استغرقت جميعها ، لكانوا ممن وجب لهم العذاب ، ولما جاز أن يقال فيهم: خلصوا من النار)[24]، أي على الخصوص ، لمن يكون عليه تبعات يسيرة .
وقال ابن القيم ( حتى إن أهل الإيمان إذا جازوا الصراط ، حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فيُهَذَّبون ويُنقَّون من بقايا بقيت عليهم ، قصّرت بهم عن الجنة ، ولم توجب لهم دخول النار ، حتى إذا هُذِّبوا ونُقوا ، أُذن لهم في دخول الجنة)[25]، وهذا القصاص غير القصاص الأول، الذي في عرصات القيامة ، لأن هذا قصاص أخص ، لأجل أن يذهب الغل والحقد والبغضاء التي في قلوب الناس بعضهم على بعض ، فيكون هذا بمنزلة التنقية والتطهير ، وذلك لأن ما في القلوب لا يزول بمجرد القصاص، ثم يدخلون الجنة بفضل الله ورحمته، وعندها يفرح المؤمنون بهذا الفضل العظيم ويقولون (..الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ)[26].
والمقصود، أنه ينبغي للمسلم أن يجتنب مظالم العباد ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فإنها شر ووبال وقد تذهب بكل ما لديه من الحسنات والأعمال الصالحة، ولا يجعل من نفسه عرضة للمقاصة يوم القيامة ، فمن خف حِمله نجا ، ومن ثَقُل تعثر وتأخر.
المَعَاصِي :
وأما المعاصي فحدث ولا حرج، فإنها وَحْل غاص فيه الكثيرون إلا من رحم الله، فمن لم يتب منها توبة صادقة قبل الممات، وقع في مغبتها، وعثرت به في العرصات، واقصته عن دخول الجنة بداية، وتأخر للتمحيص مع المتأخرين، وهذا في حق أهل الذنوب والمعاصي، فكيف بأهل العقوق والظلم ، وأهل الفساد والإفساد، وأهل الضلال والإضلال، كيف بأهل الشر والضر، كيف بأهل الزيغ والفسوق والعصيان؟ حالهم أشد من ذلك بكثير، هؤلاء حُبسوا ثم أذن لهم بالدخول، فكيف بغيرهم ، والحبس قد يقصر وقته، وقد يطول.
إن المعاصي شؤم على البلاد والعباد، وبلاء وخسارة على العبد في الدنيا والآخرة، تأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، قال ابن القيم رحمه الله واعظاً ومذكرا بشرور المعاصي (لما كان أكثرُ الناس أهلَ معاصي وذنوب، كان أكثر أصحاب القبور معذبين، والفائز منهم الذي لا يعذب قليل، فظواهر القبور تراب، وبواطنها حسرات وعذاب، ظواهرها بالتراب والحجارة مَبْنيات، وفي بواطنها الدواهي والبليات، تغلي بالحسرات، كما تغلي القدور بما فيها، ويحقُّ لها وقد حيل بينها وبين شهواتها وأمانيها، تالله! لقد وَعَظَتْ القبور فما تركت لواعظ مقالاً، ونادت كأن القبور تنادي على أهل الدنيا: يا عُمارَ الدنيا! لقد عمَّرتم داراً موشِكةً بكم زوالا، وخربتم داراً أنتم مسرعون إليها انتقالا، عمرتم بيوتاً القصور والشقق والمباني لغيركم منافعها وسكناها، وخربتم بيوتاً ليس لكم مساكنُ سواها، هذه دار الاستباق، ومستودعِ الأعمال، وبَذْرِ الزرع، وهذه محل للغير، رياض من رياض الجنة، أو حفر من حفر النار)[27].
ولذلك أهل التوحيد والإيمان قد يدخلون النار لتمحيص ما عليهم من الذنوب والمعاصي، يمكثون فيها ما شاء الله أن يمكثوا ثم يخرجون منها، ثم يُحبسون قبل دخول الجنة لتهيئتهم لدخولها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (يُعَذَّبُ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ فِي النَّارِ حَتَّى يَكُونُوا فِيهَا حُمَمًا ثُمَّ تُدْرِكُهُمُ الرَّحْمَةُ فَيُخْرَجُونَ وَيُطْرَحُونَ عَلَى أَبْوَابِ الجَنَّةِ قَالَ: فَيَرُشُّ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الجَنَّةِ الْمَاءَ فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الغُثَاءُ فِي حِمَالَةِ السَّيْلِ ثُمَّ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ)[28] .
والخلاصة ، أن على العاقل البعد عما يخالف أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وألا ينظر فيما فيه الناس من الترف والضياع، والغنى والجاه والمناصب، فالعبرة بما يوافق شرع الله، لا بما يفعله الناس وإن كثروا، فالبعد عن المعاصي والذنوب نجاة الدنيا والآخرة، ورحمة بالعبد من أن يقف موقف الخزي والعار بين يدي ربه جل وعلا(وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[29].
كُن عَلَى حَذَر :
إن من يحرص على النجاة لا شك أنه سيأخذ الحيطة والحذر مما سبق ذكره مما يصد ويحبس عن دخول الجنة مع السابقين الفائزين، وأن يبتعد عن مظالم العباد فلا مجال لظالم أن يَفر من القصاص والتمحيص يوم الحساب، وان يحرص المسلم على تطييب مأكله ومشربه وملبسه ومركبه، فلا يقرب الحرام وهو يعلم أنه حرام، وأن يجتنب الديون ما استطاع لذلك سبيلا فإنه لا يضمن البقاء وطول العمر لقضاء ما عليه، فالآجال بيد الله لا يعلمها إلا هو، وليكن على استعداد للقاء ربه، فإن ذلك كائن لا محالة، ولا يغتر بمتع الدنيا الزائلة فإنها لا تُغني عنه شيئا(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[30].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
[1] سورة السجدة 16-17.
[2] سورة فاطر 32.
[3] تفسير السعدي ص 438.
[4] طريق الهجرتين وباب السعادتين ص 291.
[5] رواه البخاري ومسلم.
[6] رواه البخاري.
[7] أي: عن الصراط المستقيم، لا تتحرك أقدام العبيد.
[8] رواه الترمذي بسند صحيح.
[9] صحيح الترغيب والترهيب.
[10] رواه أحمد وابن ماجه بسند صحيح.
[11] رواه أحمد وأبو داود.
[12] رواه أحمد والترمذي.
[13] رواه مسلم.
[14] المستدرك على الفتاوى 1/103.
[15] رواه مسلم.
[16] رواه البخاري.
[17] رواه البخاري ومسلم.
[18] رواه مسلم.
[19] رواه البخاريومسلم.
[20] سورة آل عمران 185.
[21] رواه مسلم.
[22] سورة الحجر 47.
[23] رواه البخاري.
[24] شرح صحيح البخاري 6/568.
[25] إغاثة اللهفان 1/56.
[26] سورة فاطر 34-35.
[27] الروح لابن القيم ص 79.
[28] رواه الترمذي وصححه الألباني.
[29] سورة البقرة 281.
[30] سورة آل عمران 185.