الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد:
التبرج مرض العصر عند كثير من نساء اليوم،وأصبح ظاهرة يضيق بها المجتمع،ويندى لها الجبين،وتظهر في كل مرفق وسوق ومتنزه،ظاهرة قبيحة،وسرطان يسري وينخر في بنيان المجتمع،كم هتكت تلك الآفة من أعراض، ولوثت من فرش، ولطخت من أنساب، وأشاعت من بغضاء، وفككت من مجتمعات،وجلبت عليها الويلات والمصائب.
أسبابها :
أولا: الجهل وقلة العلم الشرعي، وذلك في جهل المرأة المسلمة بالله وبشريعته وأمره ونهيه،فلو تعلمت دين الله وحرصت على شريعة الله ما وقعت في التبرج والسفور،ولكانت أقرب إلى
التوبة والعودة إلى الله عند اقتراف الذنب،وما استمرأت المعصية،قال أحد الفضلاء(وكلما كانت المرأة بربها أعرف، كانت منه أخوف، فإذا قارفت ذنبًا أو معصية، رجعت إلى ربها تائبة مفضية، تخاف من ويلات الذنوب، وتترك لذة عيشها في سبيل أن تَلْقَى ربها وهو راضٍ عنها، فيغفر الله ذنبها، ويستر عيبها، وهو الذي يفرح بتوبة عباده إذا تابوا إليه)[1].
ثانيا :ضعف الإيمان، فكلما ضَعُف إيمان المرأة،كلما استحكمت الدنيا على قلبها وعواطفها،ولَبَّست عليها الحق بالباطل،واستحسنت القبيح،واستقبحت الحسن، وصار المعروف في نظرها منكرا، والمنكر معروفا ، ولو حرصت المرأة على ما يزيد في إيمانها من طاعة الله وتقواه وسؤاله الثبات على الحق لكانت أبعد عن قبيح المعاصي وذل الذنوب وعبودية الهوى.
ثالثا : ضعف التربية والتوجيه والتعليم، وغياب القدوة الحسنة:
فمن ذلك جهل الآباء وغفلتهم وانشغالهم عما أُمروا بحفظه من الأمانات، فلقد ألقى الله على عواتق الآباء والأمهات مسئولية حفظ الأبناء والبنات وتربيتهم التربية الإسلامية المبنية على الكتاب والسُّنة،وحفظهم من شياطين الإنس والجن ورفقاء السوء،ولكن ومع الأسف الشديد ضيع كثير من الآباء والأمهات فلذات الأكباد وأسلموهم لمعاول الهدم وتجار الضياع،فالأمهات مشغولات بالتسيير والأسواق والمناسبات والأعراس والموضات،والأباء مشغولون بالسفريات والكشتات والمناسبات والاستراحات،فما أفاق الجميع إلا من رحم الله ،إلا على ضياع الأبناء والبنات ،باجتيال شياطين الجن والإنس لهم،فمنهم من وقع فريسة للمخدرات،ومنهم من اختطفته شياطين القنوات ووسائل التواصل،ومنهم من وقع في حبائل الرذيلة وهتك الأعراض.
ومن ذلك أيضا غياب القدوات الصالحة في كثير من دور التربية والتوجية،مما رَسَّخ التناقض والازدواجية في القول والعمل في أذهان الناشئة ،فحدا بهم ذلك إلى اضطراب الذات والضياع والتأثر بكل معاول الهدم والتغريب.
إن المسئولية عظيمة والسؤال عنها أعظم وأَمَرْ ،فقد حذر الله عباده من ضياع الأمانة،فقال عز وجل( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[2]،وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من تضييع الرعية والأمانة،فعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(ما مِنْ عبدٍ يسترْعيه اللهُ رعيَّةً ، يموتُ يومَ يموتُ ، وهوَ غاشٌّ لرعِيَّتِهِ ، إلَّا حرّمَ اللهُ عليْهِ الجنَّةَ)[3]،ومن أعظم الغش أن لا يربي الآباء والأمهات أبناءهم على دين الله وشريعته،وقال عليه الصلاة والسلام(كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ، والرجلُ راعٍ على أهلِ بيتِهِ وهو مسؤولٌ عنهم والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ بعلها وولدِهِ وهي مسؤولةٌ عنهم وعبدُ الرجلِ راعٍ على بيتِ سيدِهِ وهو مسؤولٌ عنهُ ألا فكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ)[4]،إلى غير ذلك من الأحاديث والآثار التي تحذر من تضييع الأمانات وتضييع الأجيال.
رابعا : التقليد الأعمى، والاهتمام بما يُسمى (بالموضة)،قال أحد الفضلا الغيورين(وأعجب لزعم المتبرجة أنها تتبرج لتكون كبقية الناس، وحتى لا تمتاز عن غيرها بالاحتشام الذي يلفت إليها الأنظار، ويحوطها بالتهكم ونظرات السخرية والاحتقار،فواعجبًا! أتخجلين من استلفات الأنظار إلى تقواك وحيائك، ولا تخجلين من استلفات الأنظار إلى تبجحك واستهتارك؟ فأيهما أولى بالخجل! أن تظهري بالأدب والرزانة، أم تظهري بالوقاحة والرعونة، كيف لا تخجلين من أن تجهري بالفسق والعصيان، وتخجلين من أن تجهري بالتقوى والإيمان؟!بل كيف لا تفخرين بامتيازك عن غيرك بالاحتشام، وتشرفك بآداب وشرائع الإسلام؟ فيا للعجب!)[5].
إن التقليد الأعمى للقدوات الفاسدة،سبيل إلى الضياع،واتباع للهوى،وجنوح عن الحق والحياء والحشمة،فسكرة التقليد لا تقل شأنا عن سكرة العقل،فكلاهما يذهب بالعقل ،وإذا ذهب العقل فلا تسأل عن العواقب الوخيمة،والبلايا الجسيمة.
والعاقلة هي التي تُحَكم دينها وعقلها،وتُفَرق بين الحق والباطل والهدى والضلال ،ولا تسمح لنفسها أن تكون طُعْما سائغاً لأهل الزيغ والضلال.
وكثير من النساء المسلمات ومع الأسف الشديد يركضن وراء كل موضة وكل جديد دون النظر والتمحيص فيما يرد من أمور لا تليق بالمرأة المسلمة.ففي جانب الأزياء تُتَابع كثير من النساء المولعات بالموضات والصرخات كل جديد،ظاهره براق وباطنه قبيح وقاد،فيه من العُري والتفسخ ما يندى له الجبين،وياليتهن يأخذن ذلك للأزواج خاصة، بل يظهرن بها بين النساء وفي المناسبات،وكأن الأمر جائز ومستساغ،وماهو إلا قبح إلى قبح ومعصية إلى معصية،ولكن كما يقال(عين الهوى عمياء) ،ناهيك عن موضات إعوجاج اللسان ،وخلط اللغة العربية بغيرها إنتكاسة وليس تحضرا.
خامسا : تبرج المرأة المسلمة وسفورها هدف أعداء الإسلام: عَلِمَ أعداء الإسلام أن صلاح المرأة المسلمة صلاحٌ للمجتمع، وفسادها فسادٌ للمجتمع كله، فبدأوا يستخدمون ألوانا من الطرق لكي يفسدوها ، وللأسف الشديد تحقق لهم ما يصبون إليه عن طريق استجابة كثير من نساء المسلمين هنا وهناك وتناسين ماضيهن المشرق الطاهر، فجرين خلف الطوفان بجهلٍ عجيب وتقليد أعمى بغيض، وهذه بعض أقوال نشطاءهم المشهورة في الوصول للمرأة المسلمة:
يقول (بوله) الماسوني سنة 1879م(تأكدوا تمامًا أننا لسنا منتصرين على الدين إلا يوم تشاركنا المرأة فتمشي في صفوفنا).
وقال (زاغون)(إن العفة المطلقة مرذولة عند الماسونيين والماسونيات، لأنها ضد ميل الطبيعة، ومن ثَمَّ تبطل كونها فضيلة)[6].
سادسا : دور وسائل الإعلام لا سيما المرئية منها، وتأثر المرأة المسلمة بالمرأة الغربية في لباسها وثقافتها وعاداتها:
تُعد القنوات الفضائية من أخطر وسائل الإعلام تأثيرا على المرأة المسلمة، فمن خلال هذه القنوات تأثرت المرأة المسلمة بالمرأة الغربية، من حيث المبادئ والحريات والإنفلات الغير منضبط ونقل صور كثيرة من حياة المرأة الغربية إلى المرأة المسلمة، ومن جراء هذا النقل أصبحت تحس بالنقص والتأخر تأثرًا ببريق حضارة زائفة لا تملك شيئًا من القيم والأخلاق والمبادئ المستمدة من عقيدة صحيحة، ولأن المرأة سريعة التأثر وضعيفة، فأصبحت تقتبس بالتدرج تلك العادات الفاسدة والتقاليد العفنة حتى صار الأمر إلى ما نشاهده.
وكذلك وسائل الإعلام المقروءة من خلال كتابات بعض الكتاب، الذين تَغَرَّبت عقولهم، وتلوثت أفكارهم، وعميت أبصارهم، فأخذو يكتبون المقالات في الصحف والمجلات يدعون من خلالها إلى نزع المرأة المسلمة لحجابها بدعوى التقدم ومواكبة العصر، جاهلين أو متجاهلين أخطارَ ذلك وأثره السلبي على المرأة والرجل، وخطره المدمر على المجتمع.
والمنتظر من المرأة المسلمة أن تُحكم دينها وعقلها،وتعلم أن الدنيا ماهي إلا مسرحا للشهوات والملذات والمصائب والبلاءات،وتمحيص الصادق من الكاذب، والطيب من الخبيث،والصحيح من السقيم،وأن الإنتقال منها أمر محتم إلى دارالقرار والجزاء،فبذلك تنجلي لها حقائق الحضارات الزائفة،والدعوات المضللة،والأفكار الهدامة،وتعلم أنها ماهي في الدنيا إلا كما الركب المسافر سرعان ما يصل إلى نقطة النهاية(أرض المحشر)وهناك يظهر الزاد،وينكشف الغطاء،ويظهر خسران أصحاب الضلال وتجار الشهوات،ودعاة الفساد.
سابعا : ضعف القوامة والغَيْرة عند الكثير من الرجال:
وقد ظهر هذا الأمر جليا في هذه الأزمنة،فَضَعْف الرجل زوجا كان أم أبا أو غير ذلك ساهم بشكل مباشر في ضياع المرأة وفسادها،وكان من أعذار ومسوغات كثير من النساء الاتي فسدن،إهمال أولياء أمورهن واستهتارهم بدينهم وواجب الرجولة والأبوة والزوجية، وضعف القوامة وتركهن بلا رقيب ولا حسيب. فقد تجد امرأة متبرجة دفعها إلى التبرج وفتح لها أبوابه أبٌ أو زوجٌ فاسد لم يعرف الله ربه، فَعَمِىَ عن الصراط السوي وجاهد بالخروج عن الدين والأخلاق، أو أبٌ أو زوجٌ ضعيف الإرادة مستضعف، فَقَدَ نخوة الرجال وغَيْرتهم، ضعيف الإيمان متغافل عن أوامر الله، مستهين بمعصيته.قال أحد الصالحين(فكم من إبنة منكودة شقية أضلها أبوها بضلاله، وغذاها بفساده! فشبت لا تعرف الحياء ولا الدين، نشأت في أحضان الرذيلة ولم تعاشر ولم تخالط إلا الشيطان، ثم قذف بها ذلك الأب الضال إلى زوج فاجر مثله من الفاسدين المفسدين فراحت فريسة فساد الأب والزوج، فهامت مثلهما في غياهب الضلال وساقاها معهما إلى الجحيم! وكم من ابنة بائسة نُكِبَت بأب ضعيف الإرادة، استعبده هواه، يزعم الإيمان بالله وكتابه ويصلي ويصوم ويقرأ القرآن ولكنه لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، إذ يعشق التبرج، ويمقت الاحتشام، ويسخر من الخمار ويعتبره أصفادًا ثقيلة، وقيودًا مضجرة بغيضة تحرم ابنته العزيزة حريتها ومتعتها بجمالها الفتان وشبابها الغض فيغريها بالتبرج ويدفعها إلى العصيان بلا رحمة ولا يبالي بغضب الله)[7].
ثامنا : السفر إلى الخارج، مع توفر المال بأيدي كثير من النساء والإنبهار بما يرونه من أحوال في ديار الغرب:
سفر النساء والشباب إلى الخارج لأغراض مختلفة، ساهم كثيرا في فساد وضياع كثير من شباب ونساء الأمة،لانفتاحهم دون حصانة على الحضارة الغربية والإنفلات السافر،والمصيبة أن كثير من الآباء والأزواج يسافرون بأبناءهم وبناتهم صغارا وكبارا ومراهقين إلى تلك البلاد التي ينتشر فيها التبرج والسفور والإنحلال،فساهموا من حيث لا يعلمون في ضياع الأبناء والبنات غير مبالين بالأضرار الكبيرة التي تعود عليهم وعلى نسائهم من هذه الأسفار، ومن تلك الأضرار تأثر نسائهم بمشاهدة نساء تلك البلاد سافرات الوجوه، فيقلدن أولئك النسوة، فيتساهلن بالحجاب ويسفرن عن وجوههن ويتبرجن ولو بعد حين.
يقول أحد الفضلاء(كذلك نظرة أكثر الناس إلى أوروبا وأمريكا وغيرها، وأنها في نظرهم المثل الأعلى في الحضارة والتقدم، فيحاولون تقليدهم في كل شيء، ويظنون أن الأمة إذا تبرجت واختلطت وانحلت صارت قوية مثل أوروبا وأمريكا وغيرها)[8].
تاسعا : ضعف الدعوة إلى الله في جانب النساء، وضعف الاحتساب:
من أخطر الأسباب التي تؤدي إلى تبرج النساء،ضعف التذكير والنصح والإرشاد،والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في صفوف النساء،وخصوصا بين الفتيات والطالبات،وكثرة داعيات الإنحلال والتبرج والسفور والخروج على أوامر الله ورسوله،ولذلك ظهر التبرج والسفور وأصبح ظاهرة تكاد تكون مألوفة وغير مستنكرة،وظهر الفساد بكثرة في البر والبحر،وحَلَّت المصائب والنكبات والجرائم،كما قال عز وجل( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[9].
فالمسلمات بحاجة إلى التذكير والتبصير وبيان خطر التبرج وعواقبه الوخيمة،من قتل وخطف وانتهاك للأعراض وغير ذلك مما هو ظاهر للعيان،وبيان أن الطريق الأمثل،والسبيل الأسلم للنجاة هو العودة إلى الكتاب والسنة ولبس الحجاب،والبعد عن التبرج والسفور ودواعيه وأسبابه.
عاشرا :الحرب على الدين وأهله:
الحرب الشعواء على الدين وأهله،نار لا يهدأ لهيبها،أوهمت الكثيرين خصوصا النساء، أن الدين حائل بينهم وبين التقدم والحضارة،ناسين أو متناسين أن الحضارة في الأصل للإسلام وأهله منذ أمد بعيد،وما قامت الحضارة الغربية إلا على صروح الحضارة الإسلامية.وما كان الدين يوما حاجزا عن العلم والتقدم والحضارة،فهو يحث على ذلك ولكن بتمسك أهله به،لا الإنسلاخ منه ومن مبادئه،والخروج منه باسم الحضارة والتقدم.
حقيقة التبرج والسفور :
التبرج والسفور من أعمال الجاهلية الجهلاء التي باتت تُخيم على الأمة من جديد،وتعود بنساءها إلى أعوادها ،ومحاضن الفساد فيها،بعدما نقاها الله وطهرها بشريعته ودينه.
ولقد نهى الله عن التبرج والسفور وحرمه،وأمر بالستر والحجاب حماية للعرض ،وصيانة للشرف،فقال عز وجل(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ ۖ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) فأمر المرأة المسلمة بالقرار في البيت وعدم التبرج،وأمرها بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وبطاعة الله ورسوله، ومن طاعة الله ورسوله إمتثال أمره ،وكل هذه حصانة لها وزيادة في التثبيت والتقوى،والأمر لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ولنساء المسلمين عامة،يقول ابن كثير رحمه الله(أي : الزمن بيوتكن فلا تخرجن لغير حاجة ومن الحوائج الشرعية)[10]،وقال ابن جرير الطبري رحمه الله (التبرج هو التبختر والتكسر في المشي وإظهار الزينة، وإبراز المرأة محاسنها للرجال)[11].
وبلا شك أن أعلى زينتها الوجه وهو أولى بالستر، وقد قال الله عز وجل (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)[12]،قال الإمام الطبري رحمه الله(لا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن، فكشفن شعورهن ووجوههن، ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهنّ، لئلا يعرض لهن فاسق، إذا علم أنهن حرائر، بأذى من قول،ثم اختلف أهل التأويل في صفة الإدناء الذي أمرهن الله به فقال بعضهم وهو الراجح: هو أن يغطين وجوههن ورءوسهن فلا يبدين منهن إلا عينا واحدة)[13].
ولذلك تحذر المرأة المسلمة الطائعة لربها،والمنقادة لهدي نبيها صلى الله عليه وسلم،من التبرج والسفور،ولتأخذ مما يحصل حولها وفي بلدان كثيرة من خطف وقتل وانتهاك للأعراض،وتلويث للسمعة،وافتضاح بين الملأ،لتأخذ عظة وعبرة،ولا تجعل من نفسها عظة وعبر للآخرين.
ولتعلم أن التبرج والسفور هو نقض للعهد بينها وبين الله،وهتكا للميثاق الذي أخذه الله عليها بأن لا تخالف دينه وشريعته وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم،وقَطْعٌ لأوامر الله ورسوله،وإفساد في الأرض،وعاقبة ذلك كله عظيمة ،وخسران مبين في الدنيا والآخرة،كما قال جل وعلا(الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)[14]،وقال جل شأنه(وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۙ أُولَٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)[15]،قال الإمام الطبري رحمه الله(و أما الذين ينقضون عهد الله , ونقضهم ذلك، خلافهم أمر الله, وعملهم بمعصيته (من بعد ميثاقه) ، يقول: من بعد ما وثّقوا على أنفسهم لله أن يعملوا بما عهد إليهم (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) ،يقول: ويقطعون الرحم التي أمرهم الله بوصلها(ويفسدون في الأرض) ، فسادهم فيها: عملهم بمعاصي الله (أولئك لهم اللعنة) ، يقول: فهؤلاء لهم اللعنة, وهي البعد من رحمته، والإقصاء من جِنانه (ولهم سوء الدار) يقول: ولهم ما يسوءهم في الدار الآخرة)[16].
جاءَتْ أُمَيمةُ بنتُ رُقَيقةَ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تُبايِعُه على الإسلامِ، فقال: (أُبايِعُكِ على أنْ لا تشرِكي باللهِ شيئًا، ولا تسرِقي، ولا تزني، ولا تقتُلي وَلدَكِ، ولا تأتي ببُهتانٍ تفترينَه بين يدَيكِ ورِجلَيكِ، ولا تَنوحي، ولا تبرَّجي تبرُّجَ الجاهليَّةِ الأولى)[17]،والمُبايَعةُ هي المُعاقَدةُ والمُعاهَدةُ، وسُمِّيتْ بذلك تَشبيهًا لها بالمُعاوَضةِ الماليَّةِ، كأنَّ كُلَّ واحِدٍ منهما يَبيعُ ما عندَه مِن صاحِبِه، فمِن طَرَفِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ علَيه وسلَّمَ وَعْدُ الثَّوابِ، ومِن طَرَفِهمُ الْتِزامُ الطَّاعةِ،وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ عبدُ اللهِ بنُ عَمرٍو رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ الصَّحابيَّةَ الجَليلةَ أُميمةَ بِنتَ رُقَيقةَ رَضيَ اللهُ عنها جاءَتْ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تُبايِعُه على الإسْلامِ، فبايَعَها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على ألَّا تُشرِكَ باللهِ شيئًا، وهذا هو التَّوحيدُ الخالِصُ الذي لا يَشوبُه شيءٌ مِنَ الشِّركِ، وإفرادُ اللهِ تعالى بالعِبادةِ، (ولا تَسْرقي، ولا تَزْني)، لأنَّ الإسْلامَ جاءَ لحِمايةِ الأَموالِ، ولحِمايةِ أَعراضِ الناسِ وأَنسَابِهم، (ولا تَقْتُلي وَلَدَكِ)، وإنَّما خَصَّ الأَولادَ، لأنَّه قَتْلٌ وقَطيعةُ رَحِمٍ، ولأنَّهم كانوا في الأَغلَبِ يَقتُلونَ أَولادَهم خَشيةَ الفَقرِ، (ولا تأْتي ببُهتانٍ تَفتَرينَه بيْنَ يَدَيكِ ورِجْلَيكِ)، والافتِراءُ هو: الاختِلاقُ والكَذِبُ، وهو مأْخوذٌ مِن قولِه تعالى(وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ)[18] ، والمعنى: لا تَبهَتوا الناسَ افتِراءً واختِلاقًا بما لم تَعلَموه منهم، فتَجْنوا عليهم مِن قِبَلِ أَيديكم وأَرجُلِكم، أي: مِن قِبَلِ أنْفُسِكم جِنايةً تَفضَحونَهم بها، وهم بُرآءُ، وقيلَ: لا يُلْحِقْنَ بأَزواجِهنَّ غَيرَ أَولادِهم، واليَدُ والرِّجْلُ كِنايةٌ عن الذَّاتِ، وقيلَ: نَسَبَ الافتِراءَ إلى اليَدِ والرِّجْلِ بسَبَبِ أنَّ مُعظَمَ الأَفعالِ تَقَعُ بهما وإنْ شارَكَهما سائِرُ الأَعضاءِ،(ولا تَنوحي)، مِن النِّياحةِ، وهي: البُكاءُ على المَيِّتِ بصَوتٍ ونَدْبٍ وتَعْديدٍ مِن أهلِه على فَقْدِهم له، وكانت النِّياحةُ مِن عاداتِ الجاهِليَّةِ التي شَدَّدَ الإسْلامُ في النَّهيِ عنها، (ولا تَبرَّجي تَبرُّجَ الجاهِليَّةِ الأُولى) وهو شاهد موضوعنا، والتَّبرُّجُ هو: أنْ تَتَزيَّنَ المرْأةُ لغَيرِ زَوجِها، وأَصلُ التَّبرُّجِ أنْ تُظهِرَ المرْأةُ مَحاسِنَها للرِّجالِ، وقيلَ: إنَّ التَّبرُّجَ هو التَّبخْتُرُ والتَّكسُّرُ، والمُرادُ بالجاهِليَّةِ الأُولى: هي القَديمةُ التي يُقالُ لها الجاهِليَّةُ الجَهْلاءُ، وهي الزَّمَنُ الذي وُلِدَ فيه إبْراهيمُ علَيه السَّلامُ، فقد كانَتِ المرْأةُ تَلْبَسُ الثَّوبَ مِن اللُّؤلُؤِ، فتَمْشي به وَسْطَ الطَّريقِ، تَعرِضُ نَفسَها على الرِّجالِ، وقيلَ: ما بيْنَ آدَمَ ونُوحٍ، وقيلَ: ما بيْنَ إدْريسَ ونُوحٍ، وقيلَ: زَمَنُ داوُدَ وسُليْمانَ، والجاهِليَّةُ الأُخرى: ما بيْنَ عيسى ومُحمَّدٍ عليهم جميعا الصلاة والسلام، ويَجوزُ أنْ تَكونَ الجاهِليَّةُ الأُخرى: الفُجورَ والفُسوقَ في الإسْلامِ، فكأنَّ المعنى: فلا تُحدِثِنَّ بالتَّبرُّجِ جاهِليَّةً في الإسْلامِ تَتَشبَّهينَ بها بأَهلِ جاهِليَّةِ الكُفرِ.
فالتي تفكر في التبرج والسفور بعد هذا،ونبذ الحجاب والستر،فالتذكر أنها بذلك ستقطع حبل الوصل بينها وبين الله،وتنقض العهد بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم،وتهتك الستر بينها وبين خالقها،وبهذا تستحل عذاب الله ونقمته،وتبوء بالخسران في الدنيا والآخرة،ومن عادت وتابت إلى الله توبة نصوحا،واستعادت حبل الوصل بينها وبين الله،فإن الله يتوب عليها،كما قال سبحانه وتعالى(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[19] ،قال ابن كثير رحمه الله(هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة ، وإخبار بأن الله يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها ورجع عنها ، وإن كانت مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر)[20].
والمقصود بيان خطر التبرج والسفور وأنه طريق إلى غضب الله والنار،فالتحذر المرأة المسلمة،فإنها وإن طال بها المقام في الدنيا،فلا بد عائدة إلى الله،ومعاينة للصحيفة والحساب،فالْتَعُد بخير ما ينجيها،والْتَسْتَتر من النار بستر نفسها في الدنيا،فما وجودها في الدنيا إلا لمهمة كُلفت بها،وستسأل عنها(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[21]،ومخالفة أمر الله ورسوله مجلبة للعقوبات والفتن والعذاب في الدنيا والآخرة،كما قال عز وجل (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[22]، قال ابن كثير رحمه الله( أي : عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو سبيله ومنهاجه وطريقته ( وسنته ) وشريعته ، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله ، فما وافق ذلك قبل ، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله ، كائنا ما كان ، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) ،وقال أيضا:أي : فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول باطنا أو ظاهرا ( أن تصيبهم فتنة ) أي : في قلوبهم ، من كفر أو نفاق أو بدعة ، ( أو يصيبهم عذاب أليم ) أي : في الدنيا ، بقتل ، أو حد ، أو حبس ، أو نحو ذلك ،وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا ، فلما أضاءت ما حولها ، جعل الفَرَاش وهذه الدواب اللاتي ( يقعن في النار) يقعن فيها ، وجعل يحجزهن ويغلبنه ويتقحمن فيها ) ، قال ( فذلك مثلي ومثلكم ، أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار ، فتغلبوني وتقتحمون فيها)[23]،فالحذر الحذر أيتها المرأة المسلمة، فإن السلامة لا يعدلها شيء. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
[1] إنها ملكة ص 87.
[2] سورة التحريم 6.
[3] رواه البخاري ومسلم.
[4] رواه البخاري ومسلم.
[5] كتاب التبرج ص 46-47.
[6] رأي الشرع في المرأة ص 35.
[7] كتاب التبرج ص 57-58.
[8] مسئولية المرأةالمسلمة ص 32.
[9] سورة الروم 41.
[10] تفسير ابن كثير ص 422.
[11] تفسير الطبري ص 422.
[12] سورة الأحزاب 59.
[13] تفسير الطبري ص 426.
[14] سورة البقرة 27.
[15] سورة الرعد 25.
[16] تفسير الطبري ص 252.
[17] رواه أحمد والطبراني بسند حسن صحيح من حديث عبدالله بن عمرو.
[18] سورة الممتحنة 12.
[19] سورة الزمر 53.
[20] تفسير ابن كثير 464.
[21] الذاريات 56.
[22] سورة النور 63.
[23] تفسير ابن كثير ص 359.