معيار التفاضل وميزان التكامل!!!!!! د. ناجي بن وقدان

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:

يظن بعض الناس أن التقوى تنحصر في صلاة وصيام وزكاة وحج وعمرة، وهذا ظن سيء منافٍ لحقيقة وجوهر التقوى، فالتقوى مصطلح وميزان جاء به القرآن الكريم، والسُنة الشريفة، وهو أشمل وأعم من أن يُحصر في أعمال محدودة ، فالدين جزء لا يتجزأ، فيؤخذ ما يوافق هوى النفس ويُترك ما يعارضها (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)[1]، ولذلك كثير من الناس يتناسى هذا الميزان العظيم عندما تسول له نفسه بما لا يرضي الله تعالى ولا يوافق شرعه ويخالف أمره ونهيه، ويرى أن الأمر هًيِّن ولا يرقى لميزان التقوى، وإذا أُنْكر عليه استكبر وأخذته العزة بالإثم، كما قال عز وجل(وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ)[2]، والتقوى سُمُو في الأخلاق وورَعٌ في التصرفات، وتَسامٍ بالنفس عن مساوئ الأخلاق ورذائل الأعمال.

والتقوى اسم جامع لترك كل ما يكرهه الله ورسوله، من الأعمال الظاهرة والباطنة. إذا التقوى داخلة في أمور الدين والدنيا كلها، وليست محصورة في أعمال دون أخرى، والتقوى كما عرفها أهل العلم هي( أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله)[3]، وعرفها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله(التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والاستعداد للرحيل، والقناعة بالقليل)[4].

فتقوى الله كلمة جامعة، تجمع خصال الخير وأعمال البر، وهي شعار المؤمنين، وقد وعد الله المتقين بوعود عظيمة كما قال سبحانه وتعالى(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) والتقوى هي شعار أولياء الله  المخلصين، كما قال عز وجل (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ).

– التقوى والوَرَعْ :

التقوى والوَرَع صنوان لا ينفكان عن بعضهما، ووجهان لعملة واحدة، وتقوى الله تعالى هي جوهر الإسلام وهي الإيمان الحقيقي بالله تعالى، والورع هو ترك ما يُخْشى ضرره في الآخرة، وهو ورع ظاهر وورع باطن، وقد جمعه النبي صلى الله عليه وسلم في أوجز عبارة وأكمل تعريف، فقال عليه الصلاة والسلام(من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)[5]، وقال عليه الصلاة والسلام(دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك)[6]، وقال صلى الله عليه وسلم(الحلالُ بَيِّنٌ والحرامُ بَيِّنٌ، وبَيْنَهما مُشَبَّهاتٌ لا يعلَمُها كثيرٌ من النَّاسِ، فمن اتَّقى الشُّبهات استبرأ لدينِه وعرضِه….)[7] ، قال الخطابي( هذا الحديث أصل في الورع، وفيما يلزَمُ الإنسانَ اجتنابُه من الشُّبهةِ والرَّيبِ)[8]، وقال بعض السلف(كنا ندع سبعين بابًا من الحلال، مخافة أن نقع في بابٍ من الحرام)[9]، وقال سفيان الثوري رحمه الله (ما رأيتُ أسهَلَ من الوَرَعِ، ما حاك في نفسِك فاترُكْه!)[10]، وقال بعضهم (عليك بالوَرَعِ يُخَفِّفِ اللهُ حِسابَك، ودَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك، وادفَعِ الشَّكَّ باليقينِ يسلَمْ لك دينُك)[11]، إذا الورع والتقوى يُكَمِّل بعضهما الآخر من عَمِل بهما نجا وأفلح في الدنيا والآخرة.   

إن الله عز وجل قد رفع أقواما حتى بلغوا أعالي الدرجات بهذا الميزان العظيم، وأَخَّر آخرين، فرفع بِلالاً العبد الحبشي وبوأه أعالي المنازل في الدنيا والآخرة، وقد وقف رضي الله عنه وصهيب وعمار وأبو سفيان والحارث بن هشام رضي الله عنه عند باب عمر ليؤذن لهم، وكان أبو سفيان يتوقع أن يدخل الأول لأنه سيد قريش، فأمر عمر رضي الله عنه بأن يدخل أولاً بلالاً ثم عمار وصهيب وبقي كبار قريش عند باب عمر، فغضب أبو سفيان وكأنه قال: ما رأيت أن يدخل قبلي هؤلاء الأعبد، فعاتبه الحارث بن هشام، وقال كلامًا ما معناه، إن القوم دُعُوا فأجابوا فسبقوا للإسلام ودُعِينا فتأخرنا، ولا أبالي أن أقف عند باب عمر فلا أدخل ولكن أخشى أن أتأخر في الآخرة( إنه ميزان التقوى والورع)، ودخل خباب بن الأرت يومًا على عمر فأكرم مجلسه وقال: ما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا بلال، مالذي رفع بلالا وخبابا على عظماء قريش ووجهائهم؟ إنه ميزان التقوى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، ( لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى).

وإذا بـحثت عن التقي وجدته * رجـلاً يـصدق قـوله بفعال

وإذا اتـقى الله امـرؤ وأطاعه * فـيداه بـين مـكارم وفـعال

وعلى التقي إذا تراسخ في التقى * تـاجان: تـاج سكينة وجمال

وإذا تـناسبت الرجال فما أرى * نـسباً يـكون كصالح الأعمال

  والمقصود، أن على المسلم أن يتخلق بهذا الخلق العظيم، التقوى والورع، فهما خير لباس يتدثر به، وأن يبتعد عن كل ما ينافيهما، وأن يجعل همه الأول رضى خالقه والدار الآخرة، فما الحياة الدنيا إلا متاع زائل، والآخرة هي دار القرار.

رزق الله الجميع تقواه وحسن النظر فيما يرضيه عنهم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

[1] سورة البقرة 85.

[2] سورة البقرة 206.

[3] كتاب التقوى ص 11.

[4] حقيقة التقوى 1/1.

[5] رواه الترمذي بسند حسن.

[6] رواه أحمد والترمذي.

[7] رواه البخاري ومسلم.

[8] معالم السنن 3/56.

[9] مدارج السالكين 2/25.

[10] الرسالة القشيرية 1/235.

[11] الورع لابن أبي الدنيا ص 12.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *