الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
شهر رمضان سيد الشهور، ورياض الأجور، عظيم القدر، لو عرفه العالم حق المعرفة، لسماه مدرسة الثلاثين يوما، فهو ميدان تتزاحم فيه الأعمال، وتتنافس فيه النفوس والقلوب والأبدان في التسابق لرضاء الرحمن.
هذه المدرسة الرمضانية العظيمة يتخرج منها عظماء وسادة في العمل الصالح والأخلاق الفاضلة فإن شهر رمضان بما حباه الله عز وجل من الفضائل والنفائس، وبما شرع فيه من الأعمال الصالحة والقربات ، يُعد مدرسة يُحَصِّل منها المؤمن أشرف العلوم والصفات الحسنة ، وينهل منها أجل المعارف ، حتى إذا انقضى رمضان ومضى وانصرم، بقيت آثاره في المؤمن وفي تصرفاته وأعماله شاهدة على حسن اغتنامه لذلك الشهر المبارك.
وهذه الدروس والفضائل المستقاة من هذا الضيف المبارك تتصل بالروح والأخلاق وزكاة النفس والتسامي بها إلى أعلى المراتب والدرجات،(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[1] ومن هذه الدروس:
أولاً : درس التقوى، فالمسلم حال الصيام يحقق أعظم أسباب زكاة النفس والروح، فمن صامه إيمانًا واحتسابًا زكت نفسه وطابت، وتسامت عن كل ما يُدنسها من الرذائل والآثام، فزكاة النفوس وطهارتها واحدة من أعظم مقاصد صوم رمضان، كما قال الله تعالى(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[2]، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله (فذكر الله تعالى للصوم هذه الفائدة العظيمة، المحتوية على فوائد كثيرة وهي قوله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي: ليكون الصيام وسيلة لكم إلى حصول التقوى، ولتكونوا بالصيام من المتقين، وذلك أن التقوى اسم جامع لكل ما يحبه الله، ويرضاه من فعل المحبوبات لله ورسوله، وترك ما يكرهه الله ورسوله، فالصيام هو الطريق الأعظم لحصول هذه الغاية الجليلة التي توصل العبد إلى السعادة والفلاح، فإن الصائم يتقرب إلى الله بترك ما تشتهيه نفسه من طعام وشراب وتوابعها تقديمًا لمحبة الله على محبة النفس)[3]، ولذلك كانت التقوى أول درس يعيه الصائم في هذه المدرسة الرمضانية، لأنه يصوم بنية صالحة في تجديد العهد مع الله، في عبودية خالصة، تصوم فيها الجوارح عن الذنوب والمعاصي والآثام ومخالفة أمر الله ورسوله صلى الله وسلم.
ثانياً : درس الصبر ، ورمضان يسمى شهر الصبر، ولذلك كان مدار الصيام على حبس شهوتي البطن والفرج، وكذلك المخالفات، حفاظاً على جوهرية الصيام وهذا يحتاج إلى صبر ومصابرة لمكابدة الجوع ونزوات النفس، لنيل مبتغى وغاية الصائمين الصابري وهي الأجر والفوز بما أعده الله لهم.
ويصبر أيضا على ملازمة القرآن الكريم وتدبره واستنباط جواهره وأحكامه، وكذلك صلاة التراويح والتهجد ويجاهد نفسه في أيام قلائل، ينال بها الفضل وتكون دروساً ينتفع بها بعد رمضان، ولذلك رَتَّب النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك أجرا عظيما وهو خروج الصابر من ذنوبه وآثامه ، قال صلى الله عليه وسلم(مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)[4]و (مَن قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ)[5].
فإذا خرج من رمضان، خرج وقد تهيأت نفسه وجوارحه للصبر على طاعة الله، والانحباس عن معاصي الله، فتُحْمَل على الطاعة وتُجَنب المعصية، وهذا درس مهم جدا في رمضان. والصبر له منزلة عظيمة عند الله، فهو شطر الإيمان، ويجزي الله الصابرين أجرهم بغير حساب(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)[6].
قال أحد الفضلاء :
(فكما كان على الجوع لله صابرًا محتسبًا في رمضان، فكذلك في غير رمضان تجده صائمًا صابرًا عن الحرام لا يأكله ، وعن الكبائر لا يقربها ، وعن المعاصي والسيئات لا يتعمدها، فصبره يلازمه، لأنه به يتم إيمانه ، وبه تكون نجاته وفلاحه، كما قال تعالى(وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[7] .
ثالثاً : درس الحِلْم ، وفي رمضان يتخلق المسلم بخلق الحِلم والأناة وعدم التعجل في التصرفات، وخصوصا فيما يعرض له في نهار رمضان وهو صائم من تصرفات بعض الصائمين، فيتأنى ويصبر ويفكر قبل التصرف، وهذه من الحِكَم العظيمة التي يرزقها الله من يشاء من عباده، وقد امتدح رسول الله صلى الله عليه وسلم أشَج عبدِ القيس(إنَّ فيك لَخَصلتَينِ يُحبُّهما اللهُ: الحِلمُ والأناةُ)[8]، والحِلْم سيد الأخلاق، مدحه الله في القرآن، وأمر به، ووصف به أنبياءه، وحث عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتخلَّق به، وأمر به أصحابه وأمته من بعده إلى يوم القيامة، فكم دفع الحِلْم عن صاحبه من مشاكلَ وفتنٍ ومصائبَ، وكم دفع عن صاحبه من بلايا وشرورٍ، وكم رفع قدر صاحبه بين الناس، وأورثه الذكر الحسن، وكم من حسنات ثقَّل الله بها ميزان صاحب الحِلْم الذي صبر في ذات الله، وكظم غيظه، وتفضل على غيره ، وقد أمر الله به، فقال جل وعلا (خُذِ الْعفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)[9] ، ووصف به عباده فقال تعالى (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)[10]، وقال سبحانه (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)[11] .
لقد كان الحِلم من أهم الصفات التي زكى الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال جل وعلا (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[12] ،قال علي رضي الله عنه(أول عِوض الحليم عن حِلمه أنّ الناس أنصاره)[13]، وقال بعض البُلغاء(ما ذبَّ عن الأعراض كالصفح والإعراض)[14]، وسئل الأحنف بن قيس: بم سُدْتَّ قومك؟ قال (وجدت الحِلم أنصر لي من الرجال)[15].
أَلا إِنَّ حِلْمَ الْمَرْءِ أَكْبَرُ نِسْبَةٍ** يُسَامِي بِهَا عِنْدَ الْفِخَارِ كَرِيمُ
فَيَا رَبِّ هَبْ لِي مِنْكَ حِلْمًا فَإِنَّنِي** أَرَى الْحِلْمَ لَمْ يَنْدَمْ عَلَيْهِ حَلِيمُ
وهناك فائدة جليلة أُوْرِدها للاستئناس ذكرها الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، في الشخص الذي لا يفيد معه الحِلم والصفح والتغافل لأن شره مستطير على العباد، ولا يؤمن شره وغدره ، فمثل هذا لا يُعفى عنه، قال رحمه الله(العفو لا يكون خيرا إلا إذا كان فيه إصلاح، فإذا أساء إليك شخص معروف بالإساءة والتمرد والطغيان على عباد الله، فالأفضل ألا تعفو عنه، وأن تأخذ بحقك، لأنك إذا عفوت ازداد شره، أما إذا كان الإنسان الذي أخطأ عليك قليل الخطأ، قليل العدوان، فهنا الأفضل أن تعفو)[16].
رابعاً : درس التواضع ، للصيام دور كبير جداً في تهذيب النفس وأطرها على كل خُلُق كريم فاضل، وكسر شهوتها في الكِبْر والاستكبار والتعالي والاختيال على العباد، فما الكِبْر إلا صفة ذميمة، وخُلق سيئ حذر منه القرآن الكريم، والسنة النبوية، فهو من أقبح الخصال البشرية، ومن الرذائل التي لا ينبغي للإنسان الاتصاف بها، وهو صفة تَلَبس بها إبليس قادته إلى عصيان الله تبارك وتعالى، وبها طُرِد من فضل الله ورحمته، كما قال عز وجل (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)[17]، (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ)[18]، وبالكِبْر يُحْرَم المرء الجنة، قال صلى الله عليه وسلم(لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ)[19]، والكبر صفة من الصفات التي لا تنبغي إلا لله تعالى، فمن نازع الله فيها أهلكه الله وقصمه، وضيق عليه، فعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى (العِزُّ إِزاري، والكِبْرياءُ رِدَائِي، فَمَنْ يُنَازعُني في واحدٍ منهُما فقَدْ عذَّبتُه)[20].
فالصيام علاج فعال في أطر النفس على التواضع، ففي الصيام يصوم الفقير والغني، وفي الإفطار يفطر الجميع سواء، وفي الصلاة يقفون في صف واحد سواء، وفي الحج يُحرمون ويتضرعون إلى الله سواء، فلا فضل لأحد على أحد إلا بتقوى الله عز وجل.
والصيام يحدوا بالمسلم إلى التواضع ، ويُنَمي فيه روح هذه الصفة العظيمة، فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم سيد والمتواضعين، وقدوة العاملين، فكان( يمر على الصبيان فيسلم عليهم)[21] ، وكان (يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويحلب شاته لأهله، ويعلف البعير، ويأكل مع الخادم، ويجالس المساكين، ويمشي مع الأرملة واليتيم في حاجتهما)[22]، وكان (يبدأ من لقيه بالسلام، ويجيب دعوة من دعاه ولو إلى أيسر شيء)[23]، إلى غير ذلك من خُلُق التواضع والسيرة
العطرة في كل جانب من جوانب الأخلاق الفاضلة التي يربي أمته عليها.
لذلك كان الصيام فرصة عظيمة ينتهزها المسلم ليربي نفسه على هذا الخُلق العظيم، فيكون الصيام عونا له لتعتاده نفسه بعد رمضان، فيكون رفعة له في الدنيا وفي الآخرة.
خامساً : درس حفظ الأمانة ، يربي الصيامُ المسلمَ على حفظ الأمانة، وذلك أن المسلم أثناء الصيام يراعي حدود الله وعهوده ومواثيقه، ومن ثم يحفظ الحقوق والمواثيق مع عباد الله بعد رمضان، ويربي النفس على الأمانة، يقول أحد الفضلاء(إن الذي يكون قويا أمينا في حفظ أمانة الله ورعاية أوامره يكون قويا في عمله، أمينا على ما استرعاه غيره من عمل، ومن خان أمانة الله العظمى في شرائع دينه فهو لغيرها أشد خيانة، ومن تدرب على قوة الإرادة وصدق العزيمة شهرا كاملا عن إيمان واحتساب، فإنه يكون قوي الشكيمة، شديد المراس، صلب في التصميم)[24].
والأمانة لها في دين الله أهمية كبيرة لما يترتب عليها من حفظ الحقوق، والقيام بما أوجب الله تعالى على عباده، فمن صفات المؤمنين رعاية الأمانة وحفظها وعدم التفريط فيها، كما قال عز وجل(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)[25]، والأمانة شاملة لكل مناحي الحياة، وكان صلى الله عليه يلقب بالأمين قبل البعثة، ثم جاء الإسلام ليرسخ ويثبت دعائم هذا الخُلُق الكريم، وقد قال صلى الله عليه وسلم(لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ ، وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ)[26]، فَبَين انتفاء الإيمان لمن لا عهد ولا أمانة له.
فعليك تقوى اللهِ فالزمها تفُز *** إن التقيّ هو البهي الأهيبُ
واعمل بطاعتهِ تنلْ منه الرَّضا *** إن المطيعَ لَربه لمقرّبُ
أدّ الأمانة ، والخيانةَ فاجتنب *** واعدل ولا تظلم يطيب المكسبُ
فمن صام إيمانا واحتسابا، وأخلص لله في عبادته، فقد خرج من رمضان مربيا نفسه على هذا الجانب العظيم من الدين.
سادساً : الجود والكرم ، رمضان شهر الجود والكرم، والصيام من أعظم المُحَفزات على البذل والعطاء، فالصيام يكبح جماح البخل والشُح، ويُذْكي في النفس روح الجود والكرم والمعروف، وقد كان نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، فيعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وتبعه في هذا الخُلُق العظيم الصحب الكرام، فكانوا يجودون بما يملكون، يقول عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدَّق، فوافق ذلك عندي مالًا، فقلت: اليوم أسبق أبا بكرٍ إن سبقته يومًا، قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم(ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله، وأتى أبو بكرٍ بكلِّ ما عنده، فقال: يا أبا بكرٍ ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسبقه إلى شيءٍ أبدًا)[27].
والنفس ميالة إلى حُب المال والشُح به، فيأتي الصيام فيروضها ويربيها على الإيثار والبذل، والإحساس بأهل الفقر والحاجة والفاقة
ولذلك نلاحظ التسابق المبارك في رمضان وحال الصيام على تفطير الصائمين، في المساجد والمجمعات وإيصال المؤن والمواد الغذائية إلى الأسر المحتاجة لسد حاجتها، ويتعد ذلك إلى بذل المال والكسوة والعلاج وغيرها، وهذا كله من بركات الله في شهر رمضان، ومن عوائد الصيام التربوية للفرد والمجتمع، حتى يحقق الجسد الواحد للأمة والمجتمع في التواد والتراحم والتعاطف مصداق لقوله عليه الصلاة والسلام(مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفِهم كمثلِ الجسدِ الواحدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالحمى والسهرِ)[28].
وبعد انقضاء الصيام يخرج المسلم بتربية روحية أخلاقية يستمر عطاءها، وهذا من بركة هذا الشهر المبارك وبركة الصيام.
سابعاً : درس الصدق ، فمن بركة الصيام أنه يقذف في قلب الصائم الخوف والوَرَع من أن يخدش الصيام وحرمة الشهر بالكذب، ويُلزم نفسه بقول الصدق، ويذكر ما أعده الله للصادقين من الفضل والأجر، فمن ثمرات الصيام وأهدافه السامية أن يتربى المسلم على معاني الصدق في الأقوال والأفعال والنيات، فالصوم يغرس في نفسه هذه القيمة العظيمة لتكون سلوكاً في حياته، وصفة من صفاته، فالصائم يدع طعامه وشرابه وشهوته طاعة لله، ويستطيع أن يأكل ويشرب ويظهر لمن حوله أنه صائم، لكن منعه من ذلك الصدق مع الله، وقد أمر الله به ووجه إليه نبينا صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[29]، وقال سبحانه(لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)[30]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم(عليكم بالصدق! فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدقَ حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب! فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابا)[31]، والكذب عار ووبال في الدنيا والآخرة كما قال عز وجل(وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ)[32].
فالصيام يربي المسلم على أن يكون قدوة صالحة لأهله وأبناءه في خُلُق الصدق حتى يربيهم على ذلك، ويكون ذلك خاصية مُثْلى له ولهم في حياتهم العلمية والعملية.
ثامناً : درس الإخلاص ، والإخلاص معدن نفيس لا يطلبه إلا العظماء، ولا يسعى لتحصيله إلا الشرفاء ، قال عز وجل (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)[33]، وقال سبحانه( قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي)[34]، والإخلاص سر بين العبد وبين الله لا يعلمه إلا الله، فمن يعلم أن العبد صائم إلا الله، لو أكل أو شرب في السر ما علمه الناس، لكنه لا يمكن أن يغيب عن نظر الله، فالصيام من أجل الأعمال التي يتمايز فيها المخلصون.
فمدار الصيام على الإخلاص، بل الإخلاص من مقاصد الصيام، قال أبو عثمان( صدق الإخلاص نسيان رؤية الخلق لدوام النظر إلى الخالق)[35]، ولهذا اختص الله نفسه بأجر الصائم، فلا يعلم أجره إلا الله فالعبادات أجرها محصور ومعلوم إلا الصوم فأجره مفتوح لا يعلم مقداره إلا الله(كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ)[36]، ولذلك يقول القرطبي(لما كانت الأعمال يدخلها الرياء، والصوم لا يطَّلع عليه بمجرد فعله إلا الله، فأضافه الله إلى نفسه ولهذا قال في هذا الحديث(يدع شهوته من أجلي)[37]،وقال ابن الجوزي(جميع العبادات تظهر بفعلها، وقلّ أن يسلم ما يظهر من شوب، بخلاف الصوم)[38]، وقال الإمام أحمد رحمه الله(لا رياء في الصوم، فلا يدخله الرياء في فعله، من صَفَّى صُفِّى له، ومن كَدَّر كُدِّر عليه، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله، وإنما يُكال للعبد كما كال )[39].
والمقصود ، أن على المسلم الصائم أن يجتهد ويتحرى الإخلاص في العبادة والصيام، ويخرج الصوم من طور العادات إلى محيط العبادات، فبذاك يحظى بما ادخره الله له يوم لقاه.
تاسعاً : درس المروءة ، للصيام دور كبير في إذكاء روح المروءة عند الصائم، وهي خُلُق عظيم من أخلاق الإسلام، يتصف بها العظماء من الناس، وهي مما تُحبه النفوس وجُبِلت عليه، وتزكو به، قال ابن تيمية رحمه الله(المروءة: استعمال ما يُجَمله ويزيِّنه، وترك وتجنب ما يدنسه ويشينه)[40]، وقال البيضاوي(المروءة: أن يحترز مباحًا، يستهجن من أمثاله عرفًا)[41]، وقال الشيخ ابن عثيمين(الضابط في المروءة: ألَّا يفعل ما ينتقده الناس فيه، لا من قول ولا من فعل)[42]، وهذا التعريف في نظري أعم وأشمل في تعريفها.
وكما أن المروءة من أجمل الصفات وأكمل الأخلاق، فإن لها في المقابل خوارم تلوثها وتخدش كيانها، وتُسمى خوارم المروءة، يحسن بنا أن نتعرض لشيء منها من باب الدلالة والتوقي منها ومما شابهها، ومن تلك الخوارم :
– التَّجشُّؤ بصوت مزعج ما وجد إلى خلافه سبيلًا، والجُشاء هو: خروج الهواء بصوت من المعدة عن طريق الفم عند حصول الشبع، وفي الحديث(تجشَّأ رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال( كُفَّ عنا جُشاءك، فإن أكثرهم شِبَعًا في الدنيا أطولهم جوعًا يوم القيامة)[43]، وهذا العمل فيه إزعاج وإيذاء للجالسين بالرائحة الخارجة من المعدة، والعاقل يتورع عن ذلك ويكتم ما ستطاع.
– حضور الوليمة من غير دعوة، قال ابن قدامة (ولا تُقبل شهادة الطفيلي، وهو الذي يأتي طعام الناس من غير دعوة، وبهذا قال الشافعي)[44].
– استخدام الضيف، فعن عمر بن عبد العزيز قال(ليس من المروءة استخدام الضيف)[45] ، وذلك مثل أن تطلب منه أن يضيءَ المصباح أو يحمل الضيافة إلى غير ذلك.
– كثرة الالتفات في الطرقات وعلى الناس، (وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مشى لم يلتفت)[46] ، فكثرة الالتفات قد تفضي إلى النظر المحرم، ولذلك يبتعد المسلم عن ذلك.
– كثرة الضحك والمُزاح، وينبغي أن تكون كالملح في الطعام، قال صلى الله عليه وسلم ناصحًا أبا هريرة(ولا تُكثرِ الضَّحِكَ، فإن كثرة الضحك تميت القلب)[47] ، ولا ريب أن كثرة الضحك والمزاح تفضي إلى عواقب لا تُحمد نتائجها مثل الأحقاد والضغائن، فَتَجَنُبها مطلوب.
هذه بعض خوارم المروءة لا كلها، أوردتها من باب الاستئناس والدلالة، ولعلها تدل على غيرها.
فالصيام عون على تهذيب النفس وتعويدها على الخصال الحميدة، والأخلاق الفاضلة، وكفها عن كل ما يخرم المروءات، ويخدش الحياء، فما يخرج الصائم المخلص من رمضان إلا وقد اكتسب تجربة حية في منظومة الأخلاق الفاضلة يسير عليها في حياته العلمية والعملية.
تاسعاً : درس الأدب ، يُحْدث الصيام في المسلم تغيرات سلوكية إيجابية، في أخلاقه، وتعامله، واحتكاكه بالآخرين، ومن ذلك سلوك الأدب في القول والفعل، فأثناء الصيام يتورع المسلم ويترفع عن السلوكيات المنحرفة وسوء التصرفات، فيوطن لسانه وجوارحه على القول الحسن والفعل الجميل، ورمضان فرصة سانحة للتغيير من مساوئ الأخلاق، وفحش الأقوال، فالصوم يدرِّب المسلم على أن يمتنع باختياره عن الأخلاق السيئة، ويضع له منهجًا للتغيير، ويعطيه فترة تدريبية من خلال مدرسة الثلاثين يومًا، فقد علَّمَنا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم (فإنْ سابَّه أحدٌ أو قاتَلَه، فليقل: إني امرؤٌ صائم)[48]، وفي رواية قال: (فلا يرفُثْ ولا يجهل، وإن امرؤٌ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم، مرتين)[49]، ، وقال أيضًا (من لم يدَعْ قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدَعَ طعامه وشرابه)[50].
فالصيام يؤدي دوره في تربية المسلم على كل أدب رفيع، فيرقى في تصرفاته وانفعالاته، ويتبوأ منزلة رفيعة في نفوس الناس وقلوبهم.
نفعنا الله وإياكم بما نقول ونسمع وأن يغفر لنا ولكم الزلل. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
[1] سورة الشمس 9-10.
[2] سورة البقرة 183.
[3] تفسير السعدي ص 116.
[4] رواه البخاري ومسلم.
[5] رواه البخاري ومسلم.
[6] سورة الزمر 10.
[7] ماذا نتعلم من مدرسة رمضان؟ 1 / 12 .
[8] رواه مسلم.
[9] سورة الأعراف 199.
[10] سورة الفرقان 63.
[11] سورة الشورى 37.
[12] سورة آل عمران 159.
[13] عيون الأخبار ص399 .
[14] كتاب موسوعة الأخلاق الإسلامية ص 436.
[15] كتاب بهجة المجالس وأنس المجالس ص 134.
[16] الموقع الرسمي.
[17] سورة البقرة 34.
[18] سورة الأعراف 13.
[19] رواه مسلم.
[20] رواه مسلم.
[21] رواه البخاري.
[22] رواه النسائي والحاكم.
[23] رواه أبو داود.
[24] صفوة الآثار 3/101.
[25] سورة المؤمنون 8.
[26] رواه أحمد.
[27] رواه أبو داود.
[28] رواه مسلم.
[29] سورة التوبة 119.
[30] سورة الحشر 8.
[31] رواه مسلم.
[32] سورة الزمر 60.
[33] سورة البينة 5.
[34] سورة الزمر 14.
[35] شعب الإيمان ص 187.
[36] رواه البخاري.
[37] فتح الباري لابن حجر 4/107.
[38] فتح الباري» ٤/ ١٠٧.
[39] المكتبة الشاملة حقيقة الإخلاص ص 10.
[40] المحرر 2/266.
[41] الشرح الصغير 4/28.
[42] الشرح الممتع 11/108.
[43] رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
[44] المغني 49/12.
[45] كشف الخفاء 2/223.
[46] رواه الحاكم وصححه الألباني.
[47] رواه الترمذي.
[48] رواه البخاري.
[49] رواه البخاري.
[50] رواه البخاري.
