أولا: عرض الشبهة وتوثيقها.
يقول مونتيه[1] في تعليقِه على قصة نوح وولدِه -في سورة هود ” يرى أن من المحتملِ أن تكونَ هذه القصةُ قد أوحاها إلى محمدٍ ما وَرَد في التوراةِ عن سُكْر نوحٍ وتعرِّيه ورؤية ابنِه عورتَه، ثم لَعْنه لولدِه وذريَّته بعد ما أفاق وعلم بما وقَع” [2]
ثانيا: الرد عليها ردا إجماليا.
إن التشكيك في قصة نوح عليه السلام في عمومها، أمر دأب عليه الكثير من المستشرقين، فيصفونها تارة بالخيال، وتارة بالاضطراب والتناقض، وقد ذكر الله في القرآن الكريم هذه القصة في مواضع عدة، قصته مع قومه وقصته مع ابنه ومحاورته معه، وأثبت القرآن الكريم صحتها وعرضها للقارئ والمستمع بطريقة وأسلوب مشوق ، خالية من الاضطراب والتناقض والخلل التي يتناقلها المستشرقون، فالقرآن الكريم قد أخبرنا بنجاة نوح عليه السلام ومن آمن معه في الفلك، كما قال عز وجل( فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ۙ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ۖ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۖ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ) المؤمنون ٢٧ وقوله عز وجل( فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) الشعراء ١١٩ ، وأما الكافرون والمكابرون المكذبون، فكان مصيرهم الهلاك، وإن كانوا من أقرب الناس إلى نوح عليه السلام، كما قال عز وجل( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ۚ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ) هود ٤٠ – ٤٣ ،وقال سبحانه( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ)العنكبوت ١٤ ، وليس في القصة أي تضارب كما يدعيه المستشرقون، والقرآن الكريم هو معيار الصدق والحق ، فهو حجة بالغة على الكتب التي لا تستند على حجة أو برهان، لذا وجب التصديق به وبما أخبر به عن نوح عليه السلام وقومه، وغيره من الأنبياء والرسل، وسؤال نوح ربه أن ينجي ابنه من الهلاك، لا يخرج عن حالتين :
الأولى: أن ذلك السؤال بعد الغرق، فيكون سؤال استعلام وكشف عن حال ابنه، وقيل ربما دعاء له بالرحمة والمغفرة، وفي كلا الأمرين لم يكن ثمة نهي عن الدعاء.
الثانية: أن يكون الدعاء قبل الغرق ، فيكون دعائه ليتوب الله على ابنه، ويهديه إلى الحق والإيمان، وليس في كلا الحالتين أي مخالفة أو معصية تقدح في عصمته عليه السلام.[3]
وليس في القرآن الكريم ما يشير من قريب أو بعيد إلى ما ادعاه مونتيه من أن قصة نوح موحاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما هي في سكر نوح عليه السلام وتعريه ، ورؤية ابنه لعورته، ولعنه لابنه وذريته بعدما أفاق وعلم بما وقع، وكل ما أورده من الفرية محض افتراء وكذب ، تدحضه الأدلة النقلية والعقلية، وأن ما ورد في القرآن الكريم عن القصة هو الحق الذي لا يعتريه أبدا شك ولا ريب.
ثالثا: الرد عليها ردا تفصيليا.
أبطل القرآن الكريم هذه الشبهة وتلك الفرية بما لا يدع مجالا للتردد والشك، وذلك بقوة الحجة، وبلاغة الدليل، فالقرآن الكريم لم يذكر أن أهل نوح عليه السلام نجوا جميعا من الغرق ، وإذا ذكر في موطن نجاتهم، فإن هذا لا يتنافى بحال مع ذكر أن بعضهم لم ينجوا ، كما قال تبارك وتعالى( وَنُوحًا إِذْ نَادَىٰ مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الأنبياء ٧٦ ، وقوله عز وجل(وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ *وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) الصافات ٧٥ – ٧٦ وقال سبحانه ( ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) الصافات ٨٢ ، وقال تعالى( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ۚ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ) هود ٤٠ قال ابن كثير-رحمه الله- ” أي واحمل فيها أهلك وهم أهل بيته وقرابته، إلا من سبق عليه القول منهم ممن لم يؤمن بالله، فكان منهم ابنه يام الذي انعزل وحده وامرأة نوح إذ كانت كافرة بالله ورسوله”[4]. وذكر القرآن الكريم أيضا أن من الذين لم يؤمنوا به ويتبعوه ، ابنه وزوجته، كما قال عز وجل( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) هود ٤٢ – ٤٣، وقال سبحانه في موضع آخر( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) التحريم ١٠، فلم تكن الخيانة خيانة عرض أو فراش كما يفتريه بعض المستشرقين، وإنما خيانة مخالفة في الدين، قال الإمام الطبري-رحمه الله- ” ذكر أن خيانة امرأة نوح أنها كانت كافرة، وكانت تقول للناس إنه مجنون، وأن خيانة امرأة لوط ، أن لوطا كان يُسِر الضيف، وكانت تدل عليه”[5]، فالقرآن الكريم يخبرنا أن أهل نوح هم المتقون الذين آمنو به، والذين لم يؤمنوا به لا يستحقون أن يتبعوه في النسب، وهذا من إعجاز القرآن الكريم، فبعضه يفسر بعض، والعام فيه يحمل على المقيد، كما قال عز وجل( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) هود ٤٦ ، فالإيمان والتقوى هما الميزان ، كما بين ذلك عز وجل في موضع آخر بقوله( النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ۗ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَىٰ أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ) الأحزاب ٦ ، فالقرآن الكريم خال من التناقض والتضاد والخلل، وكيف لا يكون كذلك وهو كلام الله الجليل.
ولذلك يؤكد لنا القرآن الكريم، أن أهل نوح عليه السلام حقا، هم الذين آمنوا معه، أما من لم يؤمن به وبما جاء به من الحق فليس منه ولا ينسب إليه، ولا يستحق أن يكون من أهله، كما قال سبحانه( وَنُوحًا إِذْ نَادَىٰ مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الأنبياء ٧٦، ومن العجيب أن يأتي أولئك المستشرقون وينكرون جازمين أنه لم يؤمن مع نوح عليه السلام أحد من قومه، ولم يؤمن معه سوى امرأته وأولاده ونساء أولاده، وهذا بلا شك معارض تماما لنصوص القرآن الكريم، ومجانب للصواب، ومضاد للحقائق، فقد أخبرنا الله في القرآن أن الذين آمنوا معه قليل من الناس، فمن المعلوم أن الله تعالى أرسل نوحا إلى قومه عامة ، فلبث فيهم الف سنة إلا خمسين عاما، يدعوهم إلى الله وإلى عبادته وتوحيده، وبذل لهم من النصح والإرشاد والإنذار والإعذار، ما تبرأ به الذمة، وتنقطع به المعذرة، ولكنهم أبو النصيحة ، وكابروا وعاندوا ، وقابلوه بأنواع الأذى ، وقالوا كيف يكون رسولا وهو بشر مثلنا، ولم يؤمن به إلا أراذل القوم وضعفاءهم، كما قال تعالى عنهم( فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ) هود ٢٧ ، ولكنه عليه السلام مع ما وجد منهم من تكذيب وعناد وأذى، لم يمل ولم يقف عن مواصلة دعوتهم واستنقاذهم من النار، حتى أتى أمر الله عليهم وأذن بهلاكهم بالطوفان، كما قال تعالى( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) العنكبوت ١٤ ، وأوحى الله إليه بحلول العذاب، وأمره بصنع السفينة لتكون سببا لنجاته ونجاة من آمن معه، وحكم عز وجل على الكافرين بالغرق والهلاك( وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ) هود ٣٧.
ومما يُرَد به على شبه المستشرقين أيضا، أن الله لم يسم الذين آمنوا مع نوح عليه السلام بالأراذل، وإنما الذين سموهم بذلك هم الكافرون من قومه، حسدا وبغضاء للمؤمنين، وإنما اصطفاهم الله أتباعا لنوح عليه السلام، ونجاهم في الدنيا والآخرة، وهداهم إلى صراطه المستقيم، وبقوا ما شاء الله أن يبقون، وبقيت ذريته من بعده عليه السلام تسير على ما سار عليه، ونفع الله بهم العالمين، كما قال تعالى( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ) الصافات ٧٧، قال ابن عاشور ” وظاهر هذا أن من آمن مع نبي الله نوح عليه السلام من غير أبنائه لم يكن لهم نسل، قال ابن عباس رضي الله عنهما لما خرج نوح من السفينة مات من معه من الرجال والنساء، إلا ولده ونسائه”[6] ، وبذلك تندفع شبة وفرية من وصفوا القرآن بالتعارض والتناقض من المستشرقين، وينتفى اللبس والتعارض الذي أولوه في كل من قوله تعالى( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) الصافات ٧٧ – ٨١ وقوله تعالى ( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ۚ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) هود ٤٠ .
أما ما أورده المستشرق الفرنسي إدوار مونتيه من أن قصة نوح مع ابنه قد أوحاها إلى محمد ما ورد في التوراة عن سكر نوح وتعريه ورؤية ابنه عورته، ثم لعنه لولده وذريته بعدما أفاق وعلم بما وقع، فنقول هذا محض افتراء وكذب، وتجن على رسول كريم من رسل الله، ولم يرد في القرآن الكريم ما يشير إلى ذلك البتة، وما ورد في التوراة فهو من آثار التحريف والتغيير والتبديل، كله كذب وزور وبهتان، نابع عن عداوة وبغضاء ، وتشويه لصورة الإسلام الناصعة، بهدف صد الناس عنه، والقرآن الكريم لا يجوز أبدا على الأنبياء والرسل أن يسكروا وينحدروا في سكرهم إلى هذا المستوى الذي ذكره مونتيه، وكيف يسمح لنفسه مغايرة الإنصاف والعدل، وترجمة الآيات كيفما جاءت، وحسبما يمليه عليه الميل والهوى، وكيف يتأتى هذا الأمر ونوح نفسه عليه السلام قد ابتهل إلى الله تعالى، مشوبا بالآلام والضيق والكرب مما لحق بابنه من المصير المحتوم، كما جاء عنه في القرآن الكريم( وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) هود ٤٥ ، فهل هناك أي رابطة أو آصرة بين هذه اللوعة والألم والحسرة الأبوية الجياشة، وبين اللعنة الموهومة ، والفرية المشئومة التي رُمِي بها نوح عليه السلام ابنه وكل ذريته من بعده؟ وعلى أي شيء، أَعَلى ذنب- إن صحت هذه الفرية وتلك الخرافة اليهودية، وهي بلا ريب غير صحيحة- هو الذي اقترفه، إذ لو لم يسكر على هذا النحو المقزز لما رأى ابنه عورته، ولم يقتصر مونتيه على هذا الافتراء المتعمد، بل يرى أن قول المولى جل وعلا، على هلاك قوم نوح( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) هود ٤٤ ، يتعارض مع قوله تعالى قبل ذلك لنوح( وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ) هود ٣٧، فأين هذا التعارض إذاً بين الآيتين، فقوم نوح قد هلكوا، وعند ذلك وبعد الهلاك قيل لهم( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) هود ٤٤، إلا أن المترجم مونتيه يترجم الآية على غير هدى، ويُحمِّلها من المعاني مالا تحتمل فيقول معناها أبعدوا من هنا أيها الظالمون، فيفسرها على أنهم أحياء، وهم قد أهلكهم الله، إنه يتعمد منابذة القرآن الكريم ومعارضته، فإن ما ذهب إليه من الترجمة بعيد جدا عما يعنيه القرآن الكريم، بل بعيد عن ما يقتضيه المنطق والعقل السليم، إذ كيف يتأتى له أن يجعل القرآن يخاطب قوما أحياء وهم في الحقيقة أموات هالكين، هذه ترجمة بعيدة عن كل موضوعية ومنطق علمي صحيح.[7]
قلت إن من يقرأ هذه الشبهة والفرية ويتمعن فيها، لا يخالجه شك في أنها لا تصمد بحال أمام أدلة القرآن الكريم، وأحداث قصصه الحقيقية، وذلك لأن مونتيه لا يستند في دعواه على أدلة صحيحة، بل إنه في بحثه وترجمته يفتقر إلى أبسط أبجديات البحث العلمي الصحيح، بل بناءه للشبهة بما تحمل من مفردات ومعان لا يمكن أن تمر على المنطق والعقل السليم مرور الكرام، بل لا يتردد في مجها ولفظها، وإذا كانت الترجمات في عمومها وهي تتخذ مجرى علمي صحيح، لا تخلوا من خلل فني في المعنى حال النقل، فكيف إذا كانت الترجمة بعيدة كل البعد عن المنهج العلمي الصحيح؟ فهذ الشبهة بما تضمنته من كذب وتلفيق وتزوير مردودة كما وكيفا، ومعنى ومبنى، وصدق الله حين قال( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) التوبة ٣٢.
[1] هو الفيلسوف إدوار مونته الفرنسي مستشرق فرنسي ولد في بلدته لوكادا 1817 ـ 1894، له مؤلفات منها ترجمة القرآن الكريم إلى الفرنسية، والمستدرك على كتاب تفصيل آيات القرآن لـ المستشرق الفرنسي جول لابوم، ينظر الموسوعة الحرة ويكيبيديا ولم أجد له ترجمة في غيرها.
[2] ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية ، E. Montet طبعت في باريس عام 1929م، ص320 و المستشرقون والقرآن، د. إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، 1423ه-2003م، ص 37.
[3] ينظر موسوعة بيان الإسلام ، 6/73.
[4] تفسير ابن كثير 2/405.
[5] تفسير الطبري 10/8113.
[6] التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور، محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت ، 1420هـ/2000م، 23/47.
[7] ينظر المستشرقون والقرآن ص 37.
