وليسعك بيتك…… د. ناجي بن وقدان

   الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.وبعد:

عن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِي اللهُ عَنْه قُلْتُ : يَارَسُولَ اللهِ ، مَا النَّجَاةُ ؟ قَالَ (امْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ) رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني.

هذا حديث عظيم،وسؤال وجيه من هذا الصحابي الجليل في البحث عن أسباب النجاة،وليس هذا بغريب على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم،فهم أحرص الخلق بعد الأنبياء والرسل عل السؤال ومعرفة أمور دينهم،ومصادر نجاتهم وخصوصا في مثل هذه الأزمات،ولذلك سأل الصحابي عقبة بن عامر عما يهيء له سبيل النجاة، فأجابه النبي عليه الصلاة والسلام بثلاث وصايا تكتب بمداد الذهب لو يعلم التائق إلى النجاة عِظَم مقدارها، فقال:

أولا: (املك عليك لسانك) وفي أثر آخر(أمسك عليك لسانك) رواه أحمد ،وقد سبق الحديث عن اللسان وأنه أداةخير أو شر على صاحبه،فإما أن يورده موارد الخير وإما أن يورده موارد الهلكة، ولا يخفى على ذي لب أن السلامة في حفظه عن ما يضر ولا ينفع،وقد قال القائل السلامة لا يعدلها شيء،فحري بالمسلم وخصوصا في أوقات الفتن والمحن والأزمات أن يمسك لسانه ولا يطلقه إلا في الخير،ويبتعد عن مجاراة السفهاء في إطلاق اللسان فيما لا يرضي الله،لقول النبي صلى الله عليه وسلم(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت) رواه البخاري ،وقال عليه الصلاة والسلام( من صَمَتَ نجا) رواه الترمذي وقوله عليه الصلاة والسلام (لا تُكثِرُوا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي) رواه الترمذي .ومن العجيب في حياة الكثير من الناس اليوم،إفلات اللسان بالمزاح والتنكيت وفي جملته كذب صريح لأجل إضحاك الحاضرين وكسب مودتهم وإعجابهم، وهذا في حد ذاته أمر خطير،فقد توعد النبي صلى الله عليه وسلم من يفعل ذلك بالويل والثبور فَصَح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال(ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ثم ويل له) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وصححه الألباني ،ومعنى ذلك أن الذي يتعمد الكذب لإضحاك القوم فقد وقع في هذا الوعيد الشديد، ويؤخذ أيضا من المعنى أن من يضحكهم وهو صادق فيما يقول فلا بأس به،فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمازح أصحابه ولكنه لا يقول إلا حقا.

ثانيا: (وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ) المجتمع مكون من بيوت صغيرة هي لبنته وأساسه، ومن البيوت الصغيرة تتكون الأحياء والمجتمع،فلو صَلُحَت اللبنة والأساس لكان مجتمعنا قوياً بأحكام الله، صامداً في وجه أعداء الله، يُشِع الخير ولا ينفذ إليه الشر،فيخرج من البيت الصالح إلى المجتمع أركان الإصلاح فيه، من الداعية القدوة، والقائد الرباني، وطالب العلم المجتهد، والمجاهد الصادق، والشاب الغيور على دينه وعلى عرضه، والبنت العفيفة الطاهرة، والزوجة المخلصة، والأم المربية، وبقية الصالحين المصلحين.

ومقصود النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، أن الإنسان إذا حبس نفسه في بيته عم يسبب له الضرر خارجه، وذلك إذا اشتغل في حبسه في بيته بذكر الله وتلاوة كتابه وتداول العلم مع أهله وقضى أوقاته معهم في قيام ليل وصلاة ضحى، فإنه سيحس بسعة بيته والراحة فيه وإن كان البيت ضيقا، ولو لم يفعل ذلك كله وتركه أحس بضيق بيته وإن كان واسعا ،فبهذه الأعمال حال الفتن والأزمات تجعل من بيت المسلم سعة وراحة وطمأنينة وسعادة.

ثالثا: (وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ) ومن السعادة أيا وسعة البيت الندم والبكاء على ما خلا من الذنوب والمعاصي ومخالفة أوامر الله ورسوله،فمحاسبة النفس وعتابها على تقصيرها وتماديها في العصيان ،أمر يدعو إلى الراحة والسعادة والنجاة من عذاب النار وغضب الجبار ،فعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال(إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطّت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله عز وجل، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله) رواه البخاري وغيره ، قال أبو ذر بعد سماعه الحديث (لوددت أني شجرة تعضد)، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها) رواه الطبراني في الأوسط بسند حسن ، وقال: الحسن البصري رحمه الله( لقد مضى بين أيديكم أقوام لو أن أحدهم أنفق عدد هذا الحصى، لخشي أن لا ينجو من عظم ذلك اليوم).

وخلاصة القول في هذا وخصوصا في هذه الأيام الحرجة،أن يستغل المسلم وجوده في بيته ومع أهله في توظيف إمكاناته البدنية والعلمية وإشغال نفسه وأسرته بالمفيد من العلم والخير،وأن يعوض غيابه وانشغاله عنهم من قبل بما يرقى بمستواهم العلمي والثقافي،من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن خلال كل مصدر مفيد،ليحضى ببيت مملوء بالسعادة والراحة وانشراح الصدر. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *