الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد:
خلق الله هذا الإنسان،وعلمه البيان،ورزقه عقلا وفهما يستخرج به خبايا العلم والمعرفة، وسخر له الوجود ليصل بفضله ورحمته إلى دقيق العلم وجليله،(عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) [العلق: 5] ، ثم بين سبحانه وتعالى أن الإنسان مهما بذل من الجهد والمال والأبحاث لن يصل إلى كل جوانب العلم، بل يصل إلى ما يُمَكِّنه الله منه، كما قال عز وجل (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) الإسراء (85) ،وتطور الإنسان وأصبح يتحكم في الفضاء وفي الأرض وفي أجواف البحار بما مكنه الله به من علم واختراع، فوفقه إلى اختراع جديد،قرب به المسافات، وتخطى به البحار والمحيطات،والأوطان والقارات، واخترع أجهزة الإتصال فجمع أهل الأرض كلهم يتحدثون وكأنهم في قرية واحدة.
فظهر لنا الجوال،جهاز اتصال، يربط بين المقيم والمسافر، والسائر والراكب،والقريب والبعيد،بين راكب البر وراكب البحر،ومن في رؤوس الجبال بمن في بطون الأودية،نعمة من الله يَسَّر بها الأمور، وفرج بها الهموم،ونفس به الكروب، حصل عليه الكبير والصغير،والذكر والأنثى،والغني والفقير،امتلأت به الأسواق، وتعددت الميزات والصفات،فحق على كل مسلم أن يشكر الكريم المنان،وأن يستخدم هذا الجوال فيما يقربه من صاحب النعم والأفضال، نعمة توصل بها الأرحام، وتُمَد بها يَدُ العطاء والعون والإحسان، جهاز حوى العلم والفقه والقرآن كل ما تتوق إليه أماني الإنسان،بعيدا عما يغضب الكريم المنان.
هذا الجوال الذي يحمل وجهين، وجه الخير والنفع، ووجه الشرِّ والضرر، شأنه شأن أي جهاز ومخترع، فمن أوجه الخير والنفع لهذا الجهاز:
أولا: أنه أنيس الوحدة في قرآءة المفيد من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والعلوم النافعة،وتبادل المنافع والخبرات،وقضاء الحوائج والضرورات،فَيُسْتثمر لقضاء أجمل الأوقات،بعيدا عن كل ما يضر ولا ينفع من الأقوال والأفعال.
ثانيا: أنه أداة وصل توصل به الأرحام، ويُتَعَهد به الأقارب، ويقارب المسافة بين الأخوة والأحباب،وتُنقل به التهاني بالأعياد والمناسبات،وجمع الأصدقاء والجيران.
ثالثا: أنه أداة للإنقاذ من الجرائم والحريق،وإسعاف للمرضى والمصابين،وبه تُدْفَع المنكرات والمخالفات،وبه يُؤْمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر .
رابعا: وسيلة من أقوى الوسائل في الدعوة إلى الله،وتذكير الناس بالله،ونشر دينه وشريعته على ما جاء به الكتاب والسنة،بنقل الرسائل التذكيرية،والمحاضرات المصورة والسمعية،وتحميل الكتب النافعة والبرامج الهادفة.
خامسا:أداة صلاح وإصلاح بين المتخاصمين والمختلفين، وأداة إنجاز للمهام والمعاملات والتعاملات المصرفية وغيرها، وغير هذا كثير مما لا نستطيع حصره من فوائد هذا الجهاز، ولكن لعل فيما ورد إشارات إلى ما وراءها من المنافع والمكاسب.
ومع وجود هذه المنافع الجمة لهذا الجهاز، إلا أن له أيضا من المثالب والآفات والمفاسد والأضرار الشيء الكثير، فهو جهاز ذو حدين، فمن أضراره ومفاسده :
أولا: إستخدامه في الاتصالات الممنوعة والمشبوهة وغير المشروعة، فكم من اتصالات شُيِّدتْ بها قصور في الأوْهام، ضاعت جميعًا مع الأحلام، وخلَّفتْ وراءها المآسي والأحزان، كما أن من الملفت للنظر سوء الإستخدام والإسراف في الاتصالات وأكثرها لا تدعوا إليه الضرورة مما يُخَلِّف ضياع الأوقات الثمينة وإهدار الأموال الطائلة،والسبب هو عدم استثمار الوقت في الأهم ثم المهم من الأعمال، إظافة إلى أن كثرة الهَدْر في الكلام أثناء الاتصالات يوقع في الكذب والثرثرة التي تفضي إلى ضياع الهيبة وتولد المشاكل الغير متوقعه،والقصد في الكلام مطلب ديني واجتماعي،وكما قيل خير الكلام ما قل ودل، وليعلم المسلم أن كل كلامه محسوب عليه وملازم لصحيفته ( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ18) ،مالم يحقق توبة،ويجدد عهدا صادقا مع الله عز وجل، كما قال سبحانه(وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) النور 31 ،فعلى المسلم أن يستحضر عظمة التقوى، وشدة الحساب،وأن لا يتكلم إلا في خير،وليقتصد في كلامه ويأتي المهم منه ويترك الهدر الذي لا طائل من ورائه.
ثانيا: إستخدامه في الإتصالات في أوقات لا يصح استخدامه فيها، كوقت الصلاة وخصوصا في المساجد، إذ له من الأذى على عباد الله الشيء الكثير بالتشويش والإزعاج، ولا سيما عندما يرن بنغمة محرمة كالموسيقى وما شابهها وعندما يرن في جانب من المسجد تحرك أغلب من في الصف ليضع يده على جواله وقد يخرجه ويقلبه ويلهوا به عن صلاته،وهذا معاين ومشاهد حيث أصبحت مساجدنا مسرحا للموسيقى ونحن في طاعة وعبادة،من أناس قل حياءهم من الله وضَعُف إيمانهم،وهم بفعلهم هذا قد ارتكبوا أمرين عظيمين،أحدهما ارتكاب أمر محرم انتهكوا به حرمة المسجد،وثانيهما آذوا عباد الله وهم في أعظم شعيرة وركن بعد الشهادتين،فهم آثمون،كما قال عز وجل(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) الأحزاب (58) ، أي احتملوا زورا وكذبًا وفرية شنيعة، والبهتان: أفحش الكذب، والإثم هو الزور ،قال قتادة رضي الله عنه(فإياكم وأذى المؤمن، فإن الله يحوطه، ويغضب له)،فليحذر كل مسلم من هذه الأمور العظيمة،وليتخلى عن الدنيا بأسرها عند دخوله المسجد وليغلق جواله أو يضعه في وضعية الصامت حتى يخرج من المسجد،وليغير نغمة الموسيقى فإنها محرمة ولا عذر له فإن هناك ما يعوض عنها مما يستساغ سماعه.
ثالثا: إستخدام الواتس أب الإستخدام السيء فيما يضر ولا ينفع من رسائل ونقولات وأخبار وإشاعات في أغلبها تكون غير صحيحة، وغيبة ونميمة وفساد وإفساد،وجدالات عقيمة تُخَلِّف السباب والشتائم والاتهامات والضغائن التي تفضي إلى القطيعة والهجران، بل وأحيانا قد تكون سبيلا إلى القتل وإزهاق الأرواح،بل إن الكثير من رسائل الواتس أب تتسبب في الفرقة بين الأرحام والأقارب والجيران وكذلك توقع الطلاق بين الأزواج والزوجات،إلى غير ذلك من المآسي التي تخلفها هذه الاستخدامات الخاطئة لهذا النوع من البرامج، كما لا يفوتني التنبيه إلى ما يسببه جهاز الجوال من إشكالات وخصامات بسبب التصوير الغير مشروع، وتصوير الوجبات المنزلية وفضح أسرار البيوت،وتصوير العورات وخصوصيات الناس وغيرها مما نتج عنه مشاكل ومآسي وأمراض وانتهاك للحرمات وابتزازات وغيرها.ولو أن المستخدم راقب الله في سره وعلنه وحَكَّم عقله ونظر في العواقب لسلك المسلك الصحيح في الاستخدام،فهناك من الآيات والنصوص ما يرتعد لها الجسد ويتفطر لها القلب ويقشعر من هولها البدن التي تحذر وتنذر ابن آدم من مزالق الردى،ومن ذلك قول الله تعالى(وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) البقرة (281) ،وقوله عز وجل(فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) الذاريات (50).
رابعا: إن مما يتفطر له القلب حقيقة، أن ترى صبية في سن مبكرة في العاشرة ولربما في الثانية عشرة ،بل ورأيتهم بنفسي دون هذه السن، يحملون أجهزة جوال من النوع الحديث المُحَمل بأداة التصوير(الكاميرا) ،قد وُفِرت لهم شبكة الإنترنت من مصدر ما ،ينتشرون على الأرصفة بعيدا عن الرقيب والحسيب من الآباء والأمهات،يتناقلون مقاطع عبر اليوتيوب يقشعر لها البدن ويسمعون ويشاهدون كل هابط وماسخ للدين والهوية والأخلاق مما لا تدرك عقولهم وقلوبهم مدى خطورته ، قد استحوذ عليهم الشيطان واختلى واستفرد بهم، فأنساهم كل شيء وسبح بهم وبخيالاتهم في بحار متلاطمة من الرذيلة والمعصية، مما يجعلهم لا ينفكون عن ذلك مراحل حياتهم ، ولا ينصرفون عنه،بل يستمرؤون المعصية وينطبعون عليها ويبحثون كل يوم عن ملاذ يحجبهم عن الرقيب ليختلوا بهذه المحرمات، فإذا صاروا في سن البلوغ فلا تسأل عما بعد ذلك،إلا أن يتداركهم الله برحمة منه ويستنقذهم من هذا الوادي الموحل والمظلم، فياويح آباءهم وامهاتهم كيف يطيب لهم العيش والراحة وفلذات أكبادهم بعيدا عنهم في معاصي الله،مبتعدين عن المساجد وعن طاعة الله، ولا تستيقظ عندهم حرارة الأبوة إلا إذا قيل لهم إن أبناءكم قد وقع لهم مكروه أو حادث أو خلافه،مع أن ضياع أبناءهم في أوحال المعاصي والضياع أشد،فعلى أولياء أمور الأبناء أن يتقوا الله فيهم وأن يبعدوهم عن كل ما يضر بدينهم وأخلاقهم وعقيدتهم،وأن يراقبوهم حيثما اتجهوا، فإن الأبناء نهاية سيرمون بتبعة الضياع على عاتق الأباء والأمهات، سواء في الدنيا أو وقت المواجة بين يدي الله عز وجل، وليستشعروا قول الله تعالى(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) التحريم (6) .
خامسا: من المآسي التي خلفها الإسراف والانهماك والولع بالجوال،ما يشتكي منه الآباء والأمهات، من جفاء أبناءهم لهم في المجلس الواحد ،إذ كل واحد منهم في واد يهيم وفي كل خوض يلعب،تاركين والديهم كالأيتام لا يتحدثون معهم ولا يضاحكونهم ولا يُدْخِلون السرور عليهم،بل والأنكى من هذا أن ينادي الوالدان الأبناء وهم في سكرتهم يعمهون لحاجة يريدونها فلا يجيب الأبناء وإن قُدِّر أن أحدهم استجاب فيجيب متأخرا وعلى امتعاض وكراهة وتباطئ،فأينهم من قول الله تبارك وتعالى(وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) الإسراء (23) ، إن ما يفعلونه هذا لهو أشد من كلمة (أف) ،وإنه لمنظر محزن للأباء والأمهات في هذه الحال،لا يجدون من يكلمهم ويسامرهم ويقوم على خدمتهم في هذه السن ويجيب نداءهم،وأي ألم وغصة يجدونها بعد بذل الغالي والنفيس وزهرات العمر لهؤلاء الأبناء العاقين والناكرين للمعروف، إن هذا لهو قمة العقوق. فعلى الأبناء أن يتقوا الله في آباءهم فهم السبب في وجودهم وليعلموا أن أوسط أبواب الجنة باب الوالد،لو حُرِموا دخوله فقد حُرِموا، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول( الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه) رواه أحمد . ويقاس على ذلك ما يُرَى في المناسبات من استحواذ هذا الجهاز على عقول الناس وأحاسيسهم، فالجميع في مجلس واحد،ولكن كل واحد منهم في اتجاه معين دون الآخر، إلا من رحم الله.ولذلك أنصح إخواني بأن لا يجعلوا من هذا الجهاز هدفا وغاية ،بل يجعلوه وسيلة إلى هدف نبيل يقربهم من الله عز وجل،وألا يستخدموه في أوقات لا ينبغي استخدامه فيها إلا لضرورة قصوى تستلزم ذلك،وخصوصا في حضرة الوالدين أو المجالس الطيبة.
سادسا: من المؤسف جدا أن يستخدم الجوال ببرامجه المتنوعة للتواصل لنقل الفيديوهات والصور والأحداث التي تتضمن صور النساء المتحدثات والناقلات للأحداث مما لها الأثر السلبي والسيء على قلوب وعواطف من يشاهدها، عوضا عن أصل حرمتها، فإننا نرى ممن يشاهدها لايهتم بمضمون الخبر والحدث بقدر اهتمامه بوضع المتحدثة وصورتها وماهي عليه فيقع في الفتنة ومعصية النظر التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم ، فعن أسامة بن زيد -رضي الله تعالى عنهما- عن النبي ﷺ قال: ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء) رواه البخاري ومسلم ، وقد قال الله تعالى(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) الإسراء (36) ،إظافة إلى أصواتهن الناعمة المتراخية والخاضعة التي تخلع قلوب كثير من الرجال،فلا يلتفت إلى محتوى المعلومة بل إلى الصوت والصورة نسأل الله تعالى السلامة، فحري بكل مسلم ألا ينقل إلى المسلمين مثل هذه وإن كان فيها نوع فائدة ، لكن ضررها وفسادها أعظم ،ودرء مثل هذا الضرر والفساد مقدم على فائدة أو مصلحة من الممكن إيجادها من مصدر آخر.
وخلاصة القول، أن هذا الجوال وغيره من الأجهزة التواصلية أصبحت عند الكثيرين نوع من الهوس والمبالغات، حتى بلغ المبلغ بهم ألا ينفك الجهاز عن أيديهم في كل مناسبة ومجلس،بل قد لا ينام أحدهم إلا والجهاز عند رأسه مع ما في ذلك من الخطورة،والمؤمن متوسط في حياته وأعماله،فلا ضرر ولا ضرار ،ولا إفراط ولا تفريط،وليكن استخدامه لهذه الأجهزة معتدل وفي الضرورة وهذا هو الاستخدام الصحيح والذي من أجله صُنِعَت.هذا ما تيسر لي من المنافع والأضرار لهذا الجهاز وقد يكون هناك غير ذلك،ولكن لعل فيما حصل كفاية ودلالة لما وراءه.والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.