الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .وبعد:
من أهم مقاصد الصيام تحصيل تقوى الله عز وجل، قال تعالى(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة:183 ، ( يا أيها الذين آمنوا ) نداء تشريف وتكريم من الله تعالى لعباده المؤمنين، وأي شرف للمؤمن أعلى وأزكى من هذا التشريف،
( كتب عليكم الصيام ) أي فُرض، والذي فَرضه هو الله سبحانه وتعالى، و( الصيام ) في اللغة بمعنى الإمساك، ومنه قوله تعالى(إني نذرت للرحمن صوماً) [مريم: 26] ،يعني إمساكاً عن الكلام ويؤكده قولها(فلن أكلم اليوم إنسياً) [مريم: 26] ، وأما في الاصطلاح والشرع فإن معناه التعبد لله بترك المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس،وقوله عز وجل ( كما كتب )، وهو تشبيه يدل على فرضية الصيام على من كان قبلنا،وقوله تعالى( على الذين من قبلكم ) أي من الأمم السابقة ،وذلك يعم اليهود، والنصارى، ومن قبلهم، كلهم كتب عليهم الصيام، ولكنه لا يلزم أن يكون كصيامنا في الوقت، والمدة، ولكنه على الكيفية التي يعلمها الله عز وجل.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله (وهذا التشبيه فيه فائدتان:
الفائدة الأولى: التسلية لهذه الأمة حتى لا يقال: كلفنا بهذا العمل الشاق دون غيرنا، لقوله تعالى(ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون) [الزخرف: 39] يعني لن يخفف عنكم العذابَ اشتراكُكم فيه كما هي الحال في الدنيا، فإن الإنسان إذا شاركه غيره في أمر شاق هان عليه، ولهذا قالت الخنساء ترثي أخاها صخراً:
[ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي] [وما يبكون مثل أخي ولكن أسلي النفس عنه بالتأسي] والفائدة الثانية: استكمال هذه الأمة للفضائل التي سبقت إليها الأمم السابقة، ولا ريب أن الصيام من أعظم الفضائل، فالإنسان يصبر عن طعامه، وشرابه، وشهوته لله عز وجل؛ ومن أجل هذا اختصه الله لنفسه، فقال تعالى(كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي) رواه مسلم ، إنتهى كلامه رحمه الله.
وقوله تعالى( لعلكم تتقون ) وهذا هو الهدف الأسمى من الصيام، وهو ما يُجَاب عليه عن السؤال ،لماذا نصوم؟ وذلك لحصول التقوى ، التي يصل بها المؤمن إلى مرتبة الأتقياء الأنقياء الأخفياء،وذلك بتحقيق الخوف من الله ومراقبته وتعظيمه سبحانه، وجاءت كلمة (لعل) التي تفيد الترجي، لبيان العلة من الصيام ولماذا فُرِض ، وهذه هي الحكمة الشرعية التعبدية للصوم، وما جاء سوى ذلك من مصالح بدنية، أو مصالح اجتماعية، فهي مصالح إضافية تنتج عن هذه العبادة العظيمة.فالصائم الذي يمتنع عن المباحات أثناء صيامه من طعام وشراب وجماع، تتربى نفسه على الامتناع عن المحرمات في كل وقت وحين، وكذلك يتحقق للصائم تقوى الله تعالى من خلال اعتياده على الإكثار من الطاعات، فهو في رمضان يجتهد في القيام وقراءة القرآن والذكر وصلة الأرحام وغيرها من الطاعات بعزيمة وصدق، فبذلك تتعود نفسه على الطاعات ويسهل الاستمرار عليها بعد رمضان،.
قال بعض العلماء(ومن حِكَم الصيام شعور الصائم بنعمة الله تعالى عليه، فعندما يصوم ويمتنع عن الطعام والشراب والجماع وسائر المفطرات، يتذكر نعمة الله تعالى عليه بوجود هذه النعم وتيسيرها له حال الفطر، فيشكر الله تعالى على نعمه التي لا تحصى، قال تعالى(وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) إبراهيم:34 ،ومن الحكم الجميلة للصيام تذكير الصائم بإخوانه الفقراء والمساكين، فحين يشعر بألم الجوع والعطش في صيامه يتذكر إخوانه الفقراء والمساكين، فيرحمهم ويعطف عليهم ويمد يده بالعون والإحسان إليهم، قال تعالى( “وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ) النساء:36).
ولذلك قال الإمام الكمال بن الهمام رحمه الله في كتابه فتح القدير:
(الصوم ثالث أركان الإسلام بعد (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) وبعد الصلاة شرعه سبحانه لفوائد أعظمها كونه موجبًا أشياء ومنها كونه موجبًا للرحمة والعطف على المساكين، إنَّه لما ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات، ذكر مَنْ هذا حالُه في عموم الأوقات، فتسارع الرقة عليه)،وقال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله في كتابه لطائف المعارف:
(وسئل بعض السلف: لِمَ شُرِع الصيام؟ قال: ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع).
الصيام يقهر الشيطان:
ومن حكمه أيضًا أن الصيام فيه قهر للشيطان، ذلك أن وسيلة الشيطان لإغواء بني آدم هي الشهوات، وتقوى هذه الشهوات بالأكل والشرب، والصيام يضيِّق مجاري الدم، فتضيق مجاري الشيطان، فتسكن وساوسه ويُقهر بذلك، فعن صفية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال(الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ) رواه البخاري ،وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ولا ريب أن الدم يتولد من الطعام والشراب، وإذا أكل أو شرب اتسعت مجاري الشياطين – الذي هو الدم – وإذا صام ضاقت مجاري الشياطين، فتنبعث القلوب إلى فعل الخيرات، وترك المنكرات)،وقال ابن رجب الحنبلي في كتابه لطائف المعارف(الصيام يضيق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان).
الصيام يكسر حدة الشهوة:
وبالمداومة عليه تحصل لدى المسلم الاستقامة والبعد عن المحرمات ومجاهدة النفس، ولذا أوصى النبي بالصيام،فعن عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قال( كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَابًا لَا نَجِدُ شَيْئًا، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ) رواه البخاري ومسلم .
الصيام مدرسة خُلُقِيَّة:
ومن حِكم الصيام العظيمة أنه يعد مدرسة خُلُقِيَّة كبرى، يتدرب فيها الصائم على خصال كثيرة، فهو جهاد للنفس، ومقاومة للأهواء، وفيه اعتياد على الصبر، وتعلم النظام والانضباط، والتدرب على الصدق والأمانة وعدم الكذب ومراقبة الله في الظاهر والباطن، وهو أيضًا ينمي عاطفة الرحمة والأخوة، ويكسب الصائم عفة اللسان، فلا سب ولا خصام ولاغيبة ولانميمة،فعن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ( وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ) رواه البخاري ومسلم .
الصيام يوحد مشاعر المسلمين:
فالكل صائم وفق منهج تربوي واحد، من أقصى الأرض إلى أدناها، غنيها وفقيرها، أبيضها وأسودها، عربها وعجمها، الكل ممتثل لأمر الله تعالى،كما قال تعالى(إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) الأنبياء 92 .
باب الريان:
وأروع ما في الصيام أنه سببٌ من أسباب دخول الجنة، فقد أعدّ الله تعالى للصائمين بابًا في الجنة لا يدخله إلا الصائمون، تكريمًا منه سبحانه وتعالى لهم، وهذا ما رواه سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال (إنَّ في الجنَّةِ بابًا يُقالُ له: الرَّيَّانُ، يَدخُلُ مِنه الصَّائمونَ يومَ القيامَةِ، لا يَدخُلُ مِنه أَحدٌ غيرُهُم، يُقالُ: أينَ الصَّائمونَ؟ فيَقومونَ لا يَدخُلُ مِنه أَحدٌ غيرُهُم، فإذا دَخَلوا أُغلِقَ، فلن يَدخُلَ مِنه أَحدٌ).
الصيام والصحة:
وليست فائدة الصيام روحانية فحسب، فقد أثبت علم الطب أن للصيام فوائد صحية كثيرة، فهو يعمل على إزالة السموم من الجسم، ويريح الجهاز الهضمي، ويساعد على علاج الالتهابات، ويعمل على خفض مستويات السكر في الدم، ويساعد على زيادة حرق الدهون، وهو مفيد لمرضى ارتفاع ضغط الدم، ويعزز الجهاز المناعي، ويعمل على تنقية الكلى والمسالك البولية، ويساعد على خفض الوزن الزائد، ويقي الجسم من الحصوات والرواسب الكلسية والزوائد اللحمية والأكياس الدهنية، ويحفظ أنسجة الجلد ويقي من الأمراض الجلدية،وقد لخص لنا الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله في كتابه (زاد المعاد في هدي خير العباد) حِكَم ومقاصد عظيمة للصيام، فقال:(لما كان المقصودُ مِن الصيام حبسَ النفسِ عن الشهواتِ، وفِطامَها عن المألوفات، وتعديلَ قوتها الشهوانية، لتستعِدَّ لطلب ما فيه غايةُ سعادتها ونعيمها، وقبولِ ما تزكو به مما فيه حياتُها الأبدية، ويكسِر الجوعُ والظمأ مِن حِدَّتِها، ويُذكِّرها بحال الأكبادِ الجائعةِ من المساكين، وتضيق مجاري الشيطانِ من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وتحبس قُوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرُّها في معاشها ومعادها، ويُسكِّنُ كُلَّ عضوٍ منها وكُلَّ قوةٍ عن جماحه، وتُلجَمُ بلجامه، فهو لجامُ المتقين، وجُنَّةُ المحاربين، ورياضة الأبرار والمقرَّبين، وهو لربِّ العالمين مِن بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعلُ شيئاً، وإنما يتركُ شهوتَه وطعامَه وشرابَه من أجل معبوده، فهو تركُ محبوبات النفس وتلذُّذاتها إيثارًا لمحبة اللَّه ومرضاته، وهو سِرٌّ بين العبد وربه لا يَطَّلِعُ عليهِ سواه، والعبادُ قد يَطَّلِعُونَ منه على تركِ المفطرات الظاهرة، وأما كونُه تركَ طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجل معبوده، فهو أمرٌ لا يَطَّلِعُ عليه بَشرٌ، وذلك حقيقةُ الصوم).