الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.وبعد:
تحدثنا فيما سبق عن فَرْضِية الصيام ولماذا المسلم يصوم، وفي هذه العجالة نتحدث عن الآية التي بعدها وما فيها من أحكام، وهي قول الله عز وجل:
(أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) (البقرة:184).
(أيامًا معدودات) أي تسعة وعشرون أو ثلاثون يومًا بحسب ما يقضيه الله عز وجل من كمال الشهر ونقصانه ،و( أياماً معدودات ) جاءت بصيغة النكرة ، والنكرة تفيد القلة وتفيد الكثرة وتفيد العظمة وتفيد الهون حسب سياق الكلام لما قرنت هنا بقوله( معدودات ) أفادت القلة يعني هذا الصيام ليس أشهرا أو سنوات ولكنه أيام ، أيام معدودات قليلة ، وهذه من صيغ جمع القلة ، فهي أيام قليلة وصدق الله عز وجل قليلة إذا حُسِبت ثلاثين يوماً من ثلاثمائة وستين يوم،تُعتبر قليلة ، فما أسرعها من أيام،وما أعجلها من مواسم،وما أثراها من أجر وخير،فيا حرمان من مَرَّت به ثم انسلخت منه ولم يُغْفَر له،كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم،فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم( رغِمَ أَنفُ رجلٍ ذُكِرتُ عندَهُ فلم يصلِّ عليَّ ، ورَغِمَ أنفُ رجلٍ دخلَ علَيهِ رمضانُ ثمَّ انسلخَ قبلَ أن يُغفَرَ لَهُ ، ورغمَ أنفُ رجلٍ أدرَكَ عندَهُ أبواهُ الكبرَ فلم يُدْخِلاهُ الجنَّةَ) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ، قال ابن عاشور(وإنما عبر عن (رمضان) بـ (أيام)، وهي جمع قلة، ووَصَفَ بـ (معدودات) وهي جمع قلة أيضاً، تهويناً لأمره على المُكَلَّفين، و(المعدودات) كناية عن القلة، لأن الشيء القليل يُعدُّ عدًّا، ولذلك يقولون: الكثير لا يُعَدُّ، ولأجل هذا اختير في وصف الجمع مجيئه في التأنيث على طريقة جمع المؤنث السالم، وإن كان مجيئه على طريقة الجمع المكسر الذي فيه هاء تأنيث أكثر).
وقوله سبحانه (فمن كان منكم مريضا) ذهب جمهور أهل العلم إلى أن المرض المبيح للفطر هو الذي لا يستطيع المريض معه الصوم بحال، بحيث يخشى الهلاك أو مقاربته، وذهب بعضهم إلى أن المرض المسوغ للفطر، هو الوجع والاعتلال، ولو لم يكن الصوم مؤثراً فيه شدة أو زيادة، لأن الله تعالى جعل المرض سبب الفطر، كما جعل السفر سبب الفطر من غير أن تدعو إلى الفطر ضرورة ، قال ابن عاشور(وفي هذا الخلاف مجال للنظر في تحديد مدى الانحراف والمرض المسوغين إفطار الصائم، فعلى الفقيه الإحاطة بكل ذلك، ونقربه من المشقة الحاصلة للمسافر، وللمرأة الحائض)، نقول ( من كان منكم مرضا) مرضا يشق عليه الصوم أو يتأخر به البرء، يعني ما يشق عليه لكن يتأخر به البرء ، أو يفوت به العلاج كما لو قال له الطبيب خذ حبوبا كل أربع ساعات وما أشبه ذلك ، فإنه يجوز له أن يفطر ، أما مريض يصيبه وجع وألم يسير ولكنه يتحمل الصيام بدون مشقة فإنه لا يفطر ، أو في أصبعه شوكة فإنه لا يشق عليه الصوم وليس له أن يفطر، فالمقصودأن المريض إذا كان الصيام يشق عليه أو يؤخر شفاءه،أو يزيد في مرضه،فإنه يفطر ويقضي بعد رمضان.
وقوله عز وجل (أو على سفر) اتفق العلماء على أن المسافر في رمضان لا يجوز له أن يبيت الفطر، لأن المسافر لا يكون مسافراً بالنية بخلاف المقيم، وإنما يكون مسافراً بالعمل والنهوض، والمقيم لا يفتقر إلى عمل، لأنه إذا نوى الإقامة كان مقيماً في الحين، لأن الإقامة لا تفتقر إلى عمل فافترقا، قال ابن عثيمين رحمه الله(ولا خلاف بينهم أيضاً في الذي يؤمل السفر، أنه لا يجوز له أن يفطر قبل أن يخرج من البلد والبنيان، فإن أفطر قبل الخروج فعليه القضاء، ولا كفارة عليه، لأنه غير منتهك لحرمة الصوم قصداً، وإنما هو متأول)،وقال جمهور أهل العلم( فإن شرع في سفره بعد فجر يوم صومه، لا يفطر يومه ذاك، فإن فعل فعليه القضاء فحسب، ولا كفارة عليه)، وقال أحمد: يفطر إذا سافر بعد الصبح، ويشهد لهذا حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليريه، فأفطر حتى قدم مكة) رواه البخاري ومسلم ، قال القرطبي(وهذا نص في الباب، فسقط ما يخالفه)، وقال ابن عاشور(وهو الصحيح)، وقال ابن المنذر(قول أحمد صحيح، لأنهم يقولون لمن أصبح صحيحاً ثم اعتل: إنه يفطر بقية يومه، وكذلك إذا أصبح في الحضر، ثم خرج إلى السفر، فله كذلك أن يفطر)،قال ابن عثيمين رحمه الله(واختلف العلماء في الأفضل هل الفطر أو الصوم في السفر؟ فعند المالكية والشافعية المسافر مخير بين الفطر والصوم، فأيهما فعل فهو مصيب، لحديث أنس رضي الله عنه، قال (سافرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم) رواه البخاري ومسلم،وقال الحنفية: الصوم أفضل، لما روي عن عثمان بن أبي العاص الثقفي وأنس بن مالك رضي الله عنهما أنهما قالا(الصوم في السفر أفضل، لمن قدر عليه) ،وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما -وهو قول أحمد- أن الفطر أفضل، لقول الله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وفي زمننا هذا مع وجود وسائل المواصلات المريحة قد لا يجد المسافر للمسافات القريبة مشقة، فإذا لم يجد مشقة فالصيام في حقه أفضل.
وفي قوله تعالى(فعدة من أيام) تقدير الكلام: من يكن منكم مريضاً، أو مسافراً، فأفطر فليقضِ، وجمهور أهل العلم على أن أهل البلد إذا صاموا تسعة وعشرين يوماً، وفي البلد رجل مريض لم يصحُ، فإنه يقضي تسعة وعشرين يوماً،واختلفوا في وجوب تتابعها على قولين: فأكثر أهل العلم ذهبوا إلى أن التتابع مستحب، وليس بواجب، لأن الآية أطلقت (الأيام)، ولم تقيدها بالتتابع، قال ابن العربي(إنما وجب التتابع في الشهر -أي شهر رمضان- لكونه معيناً، وقد عُدِم التعيين في القضاء، فجاز التفريق) وهذا هو الصحيح فله أن يتابع بينها أو يفرقها على حسب حاله وإمكانياته.ولا يجب القضاء بعد رمضان مباشرة، ولمن عليه قضاء رمضان أو أيام منه فله تأخيره إلى شعبان، لأن الآية ليس فيها ما يدل على الفور، فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: (يكون علي الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان، الشغل من رسول الله، أو برسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه البخاري ومسلم ، وهذا نص وزيادة بيان للآية، وهو واضح الدلالة على عدم وجوب القضاء على الفور، وبذلك قال جمهور العلماء، يقول ابن عاشور(وأما المبادرة بالقضاء، فليس في الكتاب ولا في السنة ما يقتضيها، وقوله هنا: (فعدة من أيام أخر) مراد به الأمر بالقضاء، وأصل الأمر لا يقتضي الفور، ومضت السنة على أن قضاء رمضان لا يجب فيه الفور، بل هو موسع إلى شهر شعبان من السنة الموالية للشهر الذي أفطر فيه) ومع ذلك نقول إن المبادرة بالقضاء للفرض أولى لأنه دين على المسلم، ولا يدري مالذي سيعرض له فالتحسب مطلوب.
والذي ينبغي للمسلم أن يعجل بالقضاء فإنه لا يدري مالذي يعرض له، قال ابن عثيمين رحمه الله (قال جمهور أهل العلم: إذا مات -من كان عليه قضاء أيام من رمضان- بعد مضي اليوم الثاني من شوال، فلا يكون آثماً ولا مفرطاً، على شرط أن يكون عازماً على القضاء، غير أنه يُستحب له تعجيل القضاء، لئلا تدركه المنية، فيبقى عليه الفرض)، ويترتب على هذه المسألة أنه من كان عليه قضاء أيام من رمضان، فمضت عليه عدتها من الأيام بعد الفطر، أمكنه فيها صيامه، فأخر ذلك، ثم جاءه مانع منعه من القضاء إلى رمضان آخر، فلا إطعام عليه، لأنه ليس بمفرط حين فعل ما يجوز له من التأخير، فإن أخر قضاءه عن شعبان الذي هو غاية الزمان الذي يقضى فيه رمضان، فهل يلزمه لذلك كفارة أو لا؟ قال جمهور أهل العلم: يلزمه كفارة، وقال أبو حنيفة: ليس عليه إلا القضاء، وإلى هذا ذهب البخاري، وقد روى الدار قطني بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه فيمن فرط في قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر، قال (يصوم هذا مع الناس، ويصوم الذي فرط فيه، ويطعم لكل يوم مسكيناً)، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً جاء إليه، فقال: مرضت رمضانين؟ فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: استمر بك مرضك، أو صححت بينهما؟ فقال: بل صححت، قال: صم رمضانين، وأطعم ستين مسكيناً،فإن استمر به المرض، فلم يصحُ حتى جاء رمضان آخر، فقد روى الدار قطني عن ابن عمر أنه يُطعم مكان كل يوم مسكيناً مُدًّا من حنطة، ثم ليس عليه قضاء. وروي أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: إذا لم يصحُ بين الرمضانين صام عن هذا، وأطعم عن الثاني، ولا قضاء عليه، وإذا تعافى من مرضه، ولم يصم حتى أدركه رمضان آخر، صام عن هذا، وأطعم عن الماضي، وهذا قول مقابل لقول من قال: إن عليه صيام رمضانيين).
ومن أفطر متعمداً يوماً من قضاء رمضان كان آثماً، وعليه قضاء ذلك اليوم، ولا كفارة عليه، فمتى صام يوماً بدلاً عما أفطره في قضاء رمضان، فقد أتى بالواجب عليه، ولا يجب عليه غير ذلك.
وقوله تعالى(وعلى الذين يطيقونه) اختلف العلماء في المراد بالآية هنا على قولين: الأول: أن الآية منسوخة، حيث تضمنت حكماً كان فيه توسعة ورخصة، ثم انعقد الإجماع على نسخه، وعند البخاري قال( نزل رمضان، فشق عليهم، فكان من أطعم كل يوم مسكيناً ترك الصوم ممن يطيقه، ورُخص لهم في ذلك فنسختها (وأن تصوموا خير لكم)، قال ابن عباس رضي الله عنهما( نزلت هذه الآية رخصة للشيوخ والعجزة خاصة إذا أفطروا، وهم يطيقون الصوم، ثم نسخت بقوله: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)، فزالت الرخصة إلا لمن عجز منهم، وهذا يعتبر فقها دقيقا وعميقا من ابن عباس رضي الله عنهما، وعلى هذا قراءة الجمهور (يطيقونه)، أي: يقدرون عليه، لأن فرض الصيام كان: من أراد صام، ومن أراد أفطر، وأطعم مسكيناً، (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ) ( وعلى الذين يطيقونه ) لما أوجب الصيام قال: ( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له ) كأن هذه الجملة تفصيل لقوله: ( كتب عليكم الصيام ) وأن الصيام على المطيع إما أن يفدي وإما أن يصوم والصوم خير له ، وقوله: ( وعلى الذين يطيقونه ) الطاقة بمعنى القدرة أي يقدرون عليه هذا هو الصواب ، لأن القول في آخرها ( وأن تصوموا خير لكم ) يدل على أن هؤلاء يستطيعون الصيام وأنه خوطب به من يستطيع وحديث سلمة بن أكوع في الصحيحين أنه أول ما فرض الصيام كان الإنسان مخيرا بين أن يصوم أو يطعم ثم أوجب الله الصوم في الآية التي بعدها ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن )(فمن شهد منكم الشهر فليصمه) وهذا هو القول الراجح في معنى ( يطيقونه ) أي يستطيعونه، وقوله( فدية ) أي فداء عن الصوم يفتدي به ، لكن الصواب عموم الآية ما سمي طعاما فهو كاف ، والمقدار لم يُبَين وعلى هذا لو غَدَّا المساكين أو عشاهم أجزأه ، ولهذا كان أنس بن مالك رضي الله عنه يصنع طعاما فيدعوا إليه ثلاثين مسكينا ويكفيه عن صوم رمضان لأن الله أطلق طعام ، وقال بعض أهل العلم إنه لابد أن يكون الطعام مدا من بر أو نصف صاع من غيره ، ودليلهم على نصف الصاع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة حينما أذن له في حلق رأسه وهو محرم قال ( له أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع ) لكل مسكين نصف صاع قالوا فهذا تقدير من الرسول صلى الله عليه وسلم في شيء مطلق من القرآن .ولذلك كانت الآية(وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) آية محكمة لا نسخ فيها، وأنها رخصة للكبير والعاجز والمُرْضِع ونحوهم، فقد ثبت بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس أن الآية ليست بمنسوخة، وأنها محكمة في حق من ذُكِرَ، قال ابن عاشور،(ونُلحق بالهَرِم والمرضع والحامل كلَ من تلحقه مشقة، أو تَوَقُّعُ ضُرٍّ مثلهم، وذلك يختلف باختلاف الأمزجة، واختلاف أزمان الصوم من اعتدال، أو شدة برد أو حر، وباختلاف أعمال الصائم التي يعملها لاكتسابه من الصنائع، كالصائغ، والحداد، وخدمة الأرض، وحمل الأمتعة، وتعبيد الطرقات).
وللعلماء قولان فيما إذا أفطرت الحامل والمرضع في رمضان، فذهب الحنفية والمالكية إلى أن الحامل والمرضع إذا أفطرتا مخافة الضرر، لا إطعام عليهما، بل عليهما القضاء فحسب بمنزلة المريض يفطر ويقضي، وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الحامل والمرضع إذا أفطرتا مخافة الضرر، فإنهما تفطران، وتطعمان، وتقضيان، واتفق الجميع على أن كبار السن والعجائز الذين لا يطيقون الصيام، أو يطيقونه على مشقة شديدة أن يفطروا، وعليهم فدية إطعام مسكين عن كل يوم، وقد روي عن أبي هريرة، قال( من أدركه الكبر، فلم يستطع أن يصوم، فعليه لكل يوم مُدٌّ من قمح) وروي عن أنس بن مالك (أنه ضَعُفَ عن الصوم عاماً، فصنع جفنة من طعام، ثم دعا بثلاثين مسكيناً، فأشبعهم).
وقوله تعالى(فمن تطوع خيرا فهو خير له)، قال ابن عباس رضي الله عنهما (فمن تطوع خيرا) قال( أطعم مسكيناً آخر فهو خير له) رواه الدار قطني، بسند صحبح، وقال ابن شهاب الزهري( من أراد الإطعام مع الصوم) وقال مجاهد( من زاد في الإطعام على المد).
وقوله سبحانه(وأن تصوموا خير لكم) أي أن الصيام خير من الإفطار مع الفدية، وكان هذا قبل النسخ، وقيل (وأن تصوموا) في السفر والمرض غير الشاق ، وبالجملة فإن هذا التعقيب والبيان يقتضي الحض والحث على الصوم.
وقوله سبحانه(إن كنتم تعلمون ) قال ابن كثير: فإنه يعني إن كنتم تعلمون خير الأمرين لكم أيها الذين آمنوا من الإفطار والفدية أو الصوم على ما أمركم الله به).
هذه إشارات على وجه الاختصار عن ما يهم المسلم من أحكام في ظل صيام شهر رمضان المبارك سائلا المولى أن يتقبل من الجميع صالح الأعمال.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.